زعتر وياسمين

زهير دبس

لم يسمع «زعتر» الفلاح الذي يتحدّر من بلدة عدلون الجنوبية ويقيم منذ عشرات السنين في بلدة أنصار بعبارة «النأي بالنفس». ولم يعلم بالمشكلة التي دارت حول تلك العبارة وكادت أن تطيح بالبلاد والعباد… لا تهمه السياسة ولا يعلم عن أخبارها شيئاً. لا يعرف إسم رئيس جمهورية بلده ولا غيره من رؤساء الأحزاب والتجمعات، ولا يعنيه ما يدور من أحداث في لبنان والمنطقة لا من قريب أو بعيد. زعتر نأى بنفسه عن العالم الذي نعيشه منذ وقت طويل.. رسم لنفسه عالماً آخر يتضاءل يوماً بعد يوم.. عالم حدوده البراري التي كانت لا تستطيع أن تطأها عين ولا يتسع لها جدار قلب وبدأت تنحسر شيئاً فشيئاً بفعل الزحف العمراني وما اصطلح على تسميته استصلاح الأراضي..

لم يعلن زعتر نأيه بالنفس من خلال مؤتمرٍ صحافي نقلته المحطات التلفزيونية مباشرة على الهواء ولا عبر بوست نشره على صفحته الفيسبوكية أو تغريدة على حسابه على تويتر، فهذا الفضاء الرقمي بقي عاجزاً عن قراءة تجاعيد وجه ذلك الرجل الذي بقيت ملامحه عصية على الأرقام.. هناك فيما تبقى من براري، أعلن زعتر نأياً بالنفس عن بلاد تختنق بمشاكلها وأوطانٍ لم تعد تتسع لأبنائها… إلى هناك يخرج زعتر يومياً يصنع من أغصان الأشجار مطارق لدق الزعتر والسماق والكبة وغيرها من أنواع المؤونة.. مطارق تفتقد اليوم الأيدي التي كانت تقبض عليها وتضرب بها بلا هوادة وبكل ما أوتيت من قوة خصل الزعتر وحبات البرغل، لتستوي وتستريح فيما بعد في الكوارات المنزوية في أحضان الجدران الطينية.

لم يعلم زعتر أن إسمه صار Brand وماركة مسجلة لمطعم كبير له فروع كثيرة في طول البلاد وعرضها، ولم يعلم أن تلك النبتة البرية التي كانت تورق في الشتاء وتزهر في الصيف فقط، وسماه والده على اسمها صار لها بيوتاً بلاستيكية وأصبحت تورق وتزهر على مر الفصول. لم يعلم زعتر أن القدر الذي ربط اسمه بتلك النبتة البرية سيربطه أيضاً باسم نبتة أخرى فكانت زوجته ياسمين.. ولم يعلم أن اسميهما سيكون لهما وقعاً مختلفاً على الآذان وعلى الشفاه التي ترسم بسمة كلما نطقت الألسن بهما. زعتر وياسمين.

صار إسم زعتر وزوجته ياسمين عنواناً للطيبة وبساطة العيش ورائحة البرية التي فقدت جزءاً من رائحتها عندما رحلت ياسمين بقي زعتر بوجهه البري الصافي يختصر حقبة من الزمن يؤرخ عليه الكثير من حكايا السواقي وأشجار القندول ومواسم الفصول. لم يغادر زعتر عالمه الذي نسجه من أغصان سنديان الوعر وعمّده بمياه العيون التي حفظها دمعة دمعة.

في منزله الطيني يعيش زعتر.. ينام باكراً  وإلى البراري يخرج باكراً أيضاً.. يسرح مع مواشيه مديراً ظهره إلى بلادٍ لا يسمع ضجيجها ولا أخبارها. يتقاسم عالماً مع ناسٍ يشبهونه في أقاصي الأرض. عالماً الناس فيه ليست بحاجة لأن تنأى بنفسها فتختار طوعاً هوايات لم نسمع بها ولا نعرفها. هوايات ينأى بنفسها صاحبها أشهراً بعيداً عن العالم لكي يلتقط صورة أو يكتشف تفصيلاً له علاقة بحشرة أو بزهرة أو بحيوان يشارف على الإنقراض.

لم يختر زعتر النأي بالنفس طوعاً بل اختاره له الفقر والحرمان اللذان لم يجد زعتر طريقاً للخلاص منهما إلا في قبضات المدقات التي ظل يواظب على صنعها من أغصان الأشجار، وفي البرية التي انطلق إليها وصنع منها عالمه الذي لا يفارقه.

في طريقه إلى البرية سأله أحد العابرين، شو يا بو براهيم كيف الحال فأجابه: «قرب الفرج» فأجابه سامع شي.. أشاح بنظره عنه وتطلع إلى الأفق قائلاً «جايي الشتي.. جايي الخير»..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى