شارع بدارو: آمال وأوليو.. موت مقهى وولادة شارع

زهير دبس

قبل خمس سنوات كان شارع بدارو شارعاً نائماً يغط في سبات عميق، فبعد الساعة الثانية بعد الظهر موعد خروج الموظفين من بعض المؤسسات المتواجدة فيه، يتحول الشارع الى قرية نائية لا يُسمع فيها حسٍ ولا خبر، باستثناء بعض العاملات من جنسيات مختلفة يجرون الكلاب للفسحة تاركين وراءهم على الارصفة آثارا تتعثر بها اقدام المارة. واللافت أيضاً أن ركن السيارة فيه كان ميّسراً بسهولة نظراً لخلوه من أي مكان للسهر من حانات ومطاعم ومقاهي باستثناء بعض نوادي ألعاب الميسر التي تنزوي في الزواريب المتفرعة من الشارع الذي لم يكن مضاءً ويخيم عليه الظلام.
الشارع شكل نقطة جذب للطبقة الميسورة منذ أن بدأ التمدد العمراني يزحف إليه في نهاية الخمسينيات. اختاره الرحابنة مكانا لمكتبهم، واختاره القضاة والمحامون مكانا لسكنهم ومكاتبهم نظرا لقربه من قصر العدل. وايضا نتيجة قربه من ثكنات الجيش والمستشفى العسكري ووجود عدد من المدارس العريقة على أطرافه، الامر الذي شكل عامل امان واطمئنان لقاطنيه.
نتيجة قربه من خطوط التماس، عبثت الحرب بالشارع وتركت اثارها عليه. وفيما بعد نسيته ورشة الاعمار فلم ينل نصيبه منها ولم تنفتح شهية المستثمرين عليه فبقي بعد انتهاء الحرب مهملا منسيا. ابنيته قديمة والفئة العمرية التي تقطنه معظمهم من كبار السن.
وحدها آمال السيدة السبعينية اخترقت المشهد الراكد في الشارع وبدّدت وحشته، فبادرت إلى افتتاح مقهى تقليدي (باباشو) يرقى أثاثه إلى حقبة الستينيات أو السبعينيات يقدم المشروبات على أنواعها وبعض الأطعمة الخفيفة التي تحتاجها كؤوس الساهرين وجلساتهم الطويلة. ركنت في زاوية من زواياه تلفزيوناً كبيرا وأفردت في زاوية أخرى مساحة لعازف العود الذي كانت تستقدمه في أيام الجمعة ليدندن ويغني للساهرين الذين كانوا يرقصون على أنغام أغاني الزمن الجميل كما يصرون على تسميته.

زبائن “تيتا روزانا” كما كان يُطلق عليه جلهم صحافيون وكتّاب وشعراء وأساتذة مدارس وعاملون في جمعيات ومعظمهم «يساريون متقاعدون»، ما ان تطأ أقدامهم المقهى ويتحلقون حول طاولاته حتى يبدأون باجترار الذكريات والبطولات، وتجاربهم الحزبية ومناقشة قضايا متشعبة سياسية وفكرية أهمها أسباب سقوط الاتحاد السوفياتي، وما إذا كانت الماركسية كفلسفة لا زالت قابلة للحياة أم ماتت ودفنت مع ماركس، وعمّا إذا كان ما قام به لينين هو دكتاتورية لا علاقة لها بجوهر الشيوعية أم ظروف فرضتها طبيعة المرحلة فرضت عليه ما فعل، وغيرها من الاحاديث التي كانت تتفاعل مع فراغ الكؤوس وامتلائها من جديد ومع احمرار العيون وتثاقل الشفاه.

قلصت آمال التي اتخذت لها مكاناً على الكونتوار لا تبارحه، المسافة كثيراً بينها وبين زبائنها، فلم تكن علاقتها معهم علاقة صاحب مقهى بزبائن يرتادونه، ولا كانت تجارية بحتة، فكانوا يدخلون مقهاها كأنهم يدخلون إلى صالونات منازلهم، يجلسون ويتحدثون ويتشاجرون ويرقصون ويثملون وفي نهاية السهرة يتبرع أحدهم لمساعدة آمال على إقفال المقهى وإيصالها إلى منزلها.

لم يشبه مقهى آمال مقاهي الحمرا وخصوصا تلك التي زينت جدرانها بشعارات وصور غيفارية لزوم الديكور وجذب زبائن من فئة معينة. آمال حرصت على ان يكون جدران مقهاها خاليا من اي صور او شعارات تعكس الى حد ما طبيعة الشارع المحايد الذي يخلو وبشكل لافت من اي صورة لزعيم او اي شعار سياسي.
مع اتخاذ بلدية بيروت قراراً بتاهيله منذ خمس سنوات، انقلب وضع الشارع رأساً على عقب ولم يعد كما كان. أضيىء بالأنوار وجُددت أرصفته وفُرشت طرقاته بالأسفلت وبدأت لجنة الشارع فيه تنظّم المهرجانات التي أصبحت تستقطب عشرات الآلاف من الزوار، وبدأ يشكل وجهة استثمارية قوية للعديد من الحانات الليلة pub والمطاعم الغربية والمقاهي وغيرها التي امتلأ بها الشارع وحولته إلى جميزة آخر أو مار مخايل ثاني وجذب قسم كبير من رواد الحمرا إليه.
مع زحف الحانات والمقاهي التي بدأت تنتشر كالفطر في محلات الشارع، حاولت آمال الصمود في وجه ارتفاع أسعار الإيجارات والاستمرار في مقهاها الذي بدأ رواده يشعرون بالغربة مع التحوّل الجذري الذي طرأ على هوية الشارع الذي بدأ يستقطب فئات عمرية وأنماط وأساليب سهر مختلفة عن «تيتا روزانا» وعن شخصيات وأحاديث زواره.
انهزمت آمال أمام «أوليو» Olio مطعم السوشي الياباني الذي حل مكانها وغادرت هي المكان الذي جلست فيه لسنوات طويلة. غادرت وغادر معها زبائنها، حملوا نقاشاتهم وقهقهاتهم وراحوا يفتشون عن آمال جديدة تأوي أفكارهم واستنتاجاتهم التي لم تفضِ إلى نتيجة بعد. لم يعد شارع بدارو ينام مع آمال عند «تيتا روزانا»، صار يسهر مع أوليو ويستيقظ على وقع ملاعق السوشي الخشبية ورنات كؤوس الشمبانيا، ولم يعد يتسع لسيارات الزوار القدامى، شغلته شركة «ڤاليه باركينغ» تركن سيارات الزبائن الفارهة.
لم نعرف الى اين ذهبت امال، ربما ذهبت تفتش عن شارع منسي اخر نسيته ورشة الاعمار، ولم يهتد اليه المطورون العقاريون. تفتتح فيه مقهى اخر تستقطب اليه زبائنها القدامى الذين شردهم اوليو ليجتمعوا من جديد ويتابعوا ما بدأوه من نقاش منذ زمن طويل.
بين آمال وأوليو حكاية موت مقهى وولادة شارع. وبينهما مدينة تفتش بين قهقهات العابرين وتعثرهم على ارصفتها وبين ملاعق السوشي ورنات كؤوس الشمبانيا عن مكان لها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى