هذا ما فعله قاضٍ في إحدى محاكم صور!
المحامي كمال الحاف

كغيره من صباحات قصور العدل حيث تحتشد الناس لمتابعة قضاياها، إكتظت قاعة المحكمة الضيقة بحشود المتخاصمين الذين ينتظرون جلساتهم لمعرفة ما سيقوله القانون بقضاياهم. في زاوية القاعة جلس رجل خمسيني يتمتم بصوت خافت، وجهه تبدو عليه ملامح قلق وحذر، ولسان حاله يردّد المثل القائل «لا تعلق بمحكمة ولا بحكيم».

«محكمة»… نادى المباشر… وصعد القاضي قوس العدالة.. عمَّ الصمت المكان وبدأت الجلسات تتوالى.. فلان ضد فلان وقضية تلو القضية.
جاء دور الرجل المختبئ في زاوية القاعة، تقدم إلى قوس المحكمة بخطى المحكوم سلفاً. وقف أمام القوس بهيئة متهم إدعت عليه الدنيا والظروف وحكمت عليه الأيام بالشقاء والضنى.

بدأت المحاكمة سريعة وعلنية، وتبيّن أن الحق العام ادعى عليه «بأنه وبتاريخ لم يمر عليه الزمن أقدم على رمي كيس نفايات منزلية من نافذة «البيك أب» الذي يقوده على طريق العباسية – صور.

يبدأ القاضي بسؤال المدّعى عليه:
– هل رميت بتاريخ لم يمر عليه الزمن كيس النفايات من نافذة «البيك أب» على طريق العباسية.

يجيب الرجل بسرعة وعفوية:
– نعم كنت أنا وابني اللي بيشتغل معي بطريقنا عالشغل ورميت الكيس من شباك «البيك أب».

لم يمضِ وقت طويل حتى صدر الحكم باسم الشعب اللبناني، نطقه القاضي ولم يتوان عن إصداره وتغريم الرجل (بائع الغاز) أبو علي الغرامة الأقصى التي يفرضها القانون، حتى شعرنا ونحن نشاهد تلك المحاكمة أن مشكلة النفايات في لبنان سببها هذا الرجل الذي يقف حائراً بيننا.

انتهت المحاكمة وعاد الرجل إلى زاويته ينتظر من يأتي ويشرح له الإجراءات المتبعة لتنفيذ الحكم ومتى يمكنه المغادرة، وغيرها من الأسئلة الإعتيادية التي يطرحها أي مواطن يدخل قاعة المحكمة لأول مرة في حياته.

الانتظار سيّد الموقف وقاعة المحكمة بدأت تفرغ رويداً رويداً من المتخاصمين والصمت بدأ يسود المكان، لم يقطعه سوى صوت القاضي منادياً الرجل «يا عم بتجي شوي.. عايزك»!. تقدم الرجل بخطى بطيئة مرتبكة نحو القاضي الذي سأله: «شو بتشتغل يا عم؟ فأجابه: «بوزّع غاز عالبيوت بالبيك أب وبيساعدني إبني الكبير بالشغل». تابع القاضي أسئلته: «وقديش يوميتك»! فأجابه: بالكاد تتعدى الـ 40 ألف ليرة ولدي ثلاثة أولاد أكبرهم لا يتعدى عمره السادسة عشرة وهو الذي يعاونني على حمل جرة الغاز إلى البنايات، فأنا رجل وضعي الصحي لم يعد يسمح لي بحمل جرة الغاز والصعود بها على الأدراج.

ساد الصمت المكان ليعود ويقطعه صوت القاضي بلهجة قاسية: «ما بتعرف إنو رمي الزبالة عالطريق جريمة بيعاقب عليها القانون»! أجابه أبو علي: «مبلا بعرف.. بس البلد كلها زبالة ومتلنا متل هالعالم».

استفز كلام الرجل القاضي فصرخ في وجهه: «أنا متلك عالم وما برمي الزبالة من شباك السيارة». إرتبك الرجل واعتذر عن فعلته، وزاده غضب القاضي قلقاً وارتباكاً.

دقائق ثقيلة مرّت قبل أن يقطعها صوت القاضي منادياً أحد الكتّاب طالباً منه إحضار ملف الرجل. أحضر الكاتب الملف، ومع إحضاره سلك الملف طريقاً آخر لم يكن في الحسبان. خلع القاضي ثوب القانون ليتكشف لنا ثوب آخر هو ثوب الإنسانية، والقسوة التي كانت سائدة على قوس المحكمة لم تجد لها مكاناً في خواتيم الأمور، حيث طلب القاضي من الكاتب قطع إيصال الغرامة التي حكم بها على أبو علي «بائع الغاز» ووضع بين نسخ الايصال قيمة المبلغ وأرسل أحد موظفي المحكمة لدفعه في المكان المختص وأعاد قسيمة الإيصال إلى أبو علي مضيفاً إليها مبلغ 40 الف ليرة هي عبارة عن المبلغ الذي كان من المفترض أن يجنيه أبو علي في عمله عن ذلك اليوم الذي أمضاه في المحكمة ولم يتمكن من مزاولة عمله فيه!.

ما حدث ذلك النهار لم يكن مقطعاً من مسرحية نشاهدها على إحدى خشبات المسرح ولا قصة من كلاسيكيات الأدب العالمي الذي قرأنا منها الكثير، ما حصل هو حقيقة واقعة جرت أحداثها ووقائعها أمامي في إحدى محاكم قضاء صور، فالقاضي كما المتهم حقيقيان وليسا من نسج الخيال، وما نرويه هو ما شاهدناه يومها بالتفصيل وبالوقائع.

لم يقصد القاضي (الذي تمنى علينا عدم ذكر اسمه) من خلال عمله هذا طلب الشهرة، فما قام به كان في مكتبه الخاص وبعد خلو المحكمة من الناس والمتخاصمين. وما قام به أنه استطاع التمييز بين تطبيق القانون والانحياز إلى الانسانية. لم يخالف القاضي نصوص القانون التي تجرم رمي النفايات على الطرقات، ولكنه أيضاً لم يستطع مخالفة ضميره الإنساني الذي ناداه في لحظة مؤثرة. فمارس مهمامه كقاض رصين حريص على تطبيق القانون، وانحاز إلى إنسانيته التي يبقى القانون فيها بلا قيمة لحظة التخلي عنها، فكان أبو علي بائع الغاز الذي لا تحتمل حياته وعذاباتها ثقل حكم القانون وكان القاضي نصيراً ورؤوفاً، فحافظ على حق الدولة من جهة وحق المواطن من جهة أخرى… ومن حسابه الخاص!

فالقاضي الذي يشاهد وهو في طريقه إلى المحكمة مشاكل الناس وظروفهم الصعبة وما يكابدونه من مشقات الحياة. يعرف عن ظهر قلب المأساة التي تعيشها قصور العدل، فهي تشبه إلى حد بعيد مأساة الناس التي يعيشونها في منازلهم، فالكهرباء التي تنقطع لا تفرق بين قصور العدل ومنازل المواطنين وكذلك النفايات والازدحام وتشققات الجدارن وتسرُّب المياه والبرد القارس في الشتاء، والحر الحارق في الصيف وألف مصيبة ومصيبة.

في هذه الغرف التي تحكم باسم القانون على متعدٍ على كهرباء أو مياه أو سارق ربطة خبز، يوجد قضاة يفقهون القانون والإنسانية معاً. وللأسف هناك قضاة لا يفقهون إلا في السرقات والرشاوى والحاشية والسمسرات والغرور والتعامل مع المواطنين من منطلق أنا ربكم الأعلى فتنتهك حقوق المواطن وتنتهك معه كرامته.

الدموع التي ذرفها بائع الغاز أبو علي لحظة خروجه من المحكمة تلخص مأساة شعب بأكمله، شعب تتآكله النفايات والأوبئة والأمراض. وطن يكاد يكون أغلى ما فيه دمعة أبو علي بائع الغاز وأرخص ما فيه تطبيق القانون.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى