تبغ الجنوب وحشيشة بعلبك

زهير دبس

مع تصاعد الحديث الرسمي والشعبي عن إمكانية تشريع زراعة الحشيشة في البقاع الشمالي لأغراض طبية، ثمة مفارقة رمزية تاريخية حكمت منطقتين لبنانيتين ارتبط اسمهما بزراعتين هما شتلة التبغ ونبتة الحشيشة، الأولى في الجنوب والثانية في بعلبك والهرمل. المفارقة هي أن الزراعتين اللتان ترتبطان عضوياً بخصائص متشابهة من حيث الزراعة ووجهة الاستعمال، شكّلتا تاريخياً عنواناً لمظلومية المنطقتين وفقر أبنائهما.

بين تبغ الجنوب وحشيشة بعلبك تقاطعات تاريخية فعلت السياسة فعلها فيهما، وهما كانتا من النتائج المباشرة للشراكة الشيعية الهشة في تكوين الكيان اللبناني الذي نشأ على مراحل وكان المكون الشيعي الطرف الأضعف من حيث المشاركة فيه. لقد أدّى التهميش الناتج عن تلك الشراكة الهشة والملتبسة للمكوّن الشيعي إلى نشوء حزامي بؤس وفقر في منطقتي الجنوب وبعلبك ومعهما نمت تلك الزراعتين وارتبط اسمهما بتلك المنطقتين.

لم يجد الجنوبيون سبيلاً للخلاص من مرارة العيش إلا في سلوك طريق أكثر مرارة منه فكانت شتلة التبغ التي ارتبط اسمها باسم الجنوب وشكّلت معه «متلازمة» الفقر والحرمان، فيما شكلت شركة الريجي التي تأسست في منتصف الثلاثينيات واحتكرت تلك الزراعة عنواناً للظلم والقهر. انتفض الجنوبيون بوجهها ونظموا ضدها التظاهرات حيث سقط فيها ضحايا.

مع اتساع رقعتها وانخراط معظم الجنوبيين في زراعتها لم يعد التبغ مجرّد شتلة تُزرع في الأرض فقد تحوّلت إلى رمزاً للنضال أضافت إليها مأساة فلسطين والعمل الفلسطيني المسلح الذي اتخذ من الجنوب ساحة له عوامل أضافية جعلت منها أيقونة نضالية لا ينافسها في ذلك أحد. صارت شتلة التبغ شعاراً يُرسم إلى جانب البندقية ومن مظلومية مزارعيها اتخذت الأحزاب وخصوصاً اليسار برامج وخطابات سياسية لها.

مع تحولها إلى أيقونة نضالية نُظم لشتلة التبغ الكثير من القصائد وغنى لها العديد من الفنانين، أبرزها قصيدة محمود درويش الشهيرة «يا حادي العيس» والتي لحنها وغناها الفنان مرسيل خليفة وتقول في إحدى مقاطعها: تقول صبايا الجنوب… كان يسرح شعر الحقول وينام على صدرها». ويقول في مقطع آخر: «وكان يراقص شتلة تبغ… ويجذبها صوب كفيه… لكنها لا تصل… فيقطر حزناً وتقطر سحراً… ويمتد… تمتد… حتى يلامسها في السماء».

مع اندلاع الحرب وسيطرة قوى الحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية على الجنوب حينها وتحوله إلى ساحة مواجهة مع إسرائيل، بدأت شتلة التبغ تفقد بريقها النضالي شيئاً فشيئاً، ومع التبدل الجذري في تركيبة الجنوب السياسية بعد الاجتياح الاسرائيلي وخروج المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية منه تلاشت شتلة التبغ كمرادف للمظلومية التي نشأ الجنوب عليها، ساعد في ذلك الاغتراب الجنوبي وتحديداً الأفريقي والتوظيف السياسي بعد الطائف ومن ثم الإنماء الذي جعل من الجنوب نموذجاً للصورة التصحيحية للشراكة الملتبسة التي قام عليها الكيان اللبناني.

لم تكن حشيشة بعلبك صورة طبق الأصل عن تبغ الجنوب، فهناك تحوّلت المظلومية إلى تمرّد وخروج على القانون. ومعه صارت نبتة الحشيشة عنواناً لهذا التمرُّد، وطريقاً للخلاص من الفقر والحرمان. مع اندلاع الحرب خرجت حشيشة بعلبك من إطار المظلومية المناطقية ورفع الحرمان لتتحوّل مع استغلال النافذين إلى عنواناً كبيراً في التجارة العالمية لتلك الزراعة. حيث يفيد مكتب الأمم المتحدة لمكافحة المخدّرات والجريمة، أن لبنان كان خلال فترة الحرب الأهلية المصدر الرئيس للمخدرات في منطقة الشرق الأوسط، وكان ينتج سنويًا ألف طن من الحشيشة وما بين 30 و50 طنًا من الأفيون المكوّن الأساسي للهيرويين. فزراعة الحشيشة كانت تدرّ في الثمانينيات على منطقة بعلبك – الهرمل ما يقارب 500 مليون دولار سنويًا.

بحكم آثارها السلبية ومنعها بموجب القانون، أتت الأغاني التي طاولت حشيشة بعلبك على صورتها، فكانت أغنية «دوّرها دوّر دوّر، واعطيني شحطة، قبل ما تجي تجي، تجينا الشرطة»، التي قدمها الفنان رينيه بندلي والتي أصبحت بمثابة نشيد يردد في الجلسات والمناسبات. إضافة إلى «دورها دوِّر دوِّر» مر الرحابنة على زراعة الحشيشة في مسرحية المحطة فكانت أغنية  «بهالبلد كل شي بصير» والتي تقول في إحدى مقاطعها «أنا صارت بدقني… والدولة بتلاحقني… زرعنا دوّار الشمس… طُلع قنبز وسواكير».

مع نهاية الحرب الأهلية في لبنان العام 1990، أطلقت الدولة اللبنانية برنامج استئصال المخدرات بالتعاون مع برنامج التنمية التابع للأمم المتحدة، وبفضل الوعود التي قدمتها برامج المساندة الحكومية والدعم المالي العالمي، توقف الفلاحون عن زراعة الحشيشة. وبحلول العام 1994 أعلن برنامج التنمية التابع للأمم المتحدة أن سهل البقاع خال من المخدرات، وقدر كلفة عدم العودة إلى إنتاجها بـ 300 مليون دولار أميركي. لكن القيمة التي تم تسلمها من هذا المبلغ حتى حلول العام 2001 لم تتخط الـ17 مليون دولار، لذا سرعان ما فشل البرنامج، وهكذا عادت زراعة الحشيشة إلى سابق عهدها، وعادت حملات مكافحتها بحيث كانت القوى الأمنية تتلف سنويًا ما بين 1000 و6500 هكتار من الحشيشة في مجمل قرى قضاء بعلبك – الهرمل.

لم يسلك حشيش بعلبك الدرب نفسه الذي سلكه تبغ الجنوب، فالأخير بعد أن انحسر كثيراً وتبدّلت هويته أصبح زراعة عادية نُزعت عنها مرادفات الفقر ولم يعد الحرمان بيئة حاضنة له. حشيش بعلبك لا زال يئن ويصارع وعاد ليكون ليس عنواناً للتمرد والخروج عن القانون بل للخروج من الإهمال وطريقاً للخلاص من الفقر والعوز، لكن هذه المرة بلسان من كان سبباً في ذلك طيلة عقود. ومع الحديث عن تشريع زراعة الحشيشة لأغراض طبية هل يتم البدء بترويض تلك النبتة المشاغبة التي كانت سبباً في وسم أهالي بعلبك الهرمل بمتلازمة الخروج على القانون، وهل يبدأ البقاع الشمالي مع تشريع تلك الزراعة بصوغ تاريخ  مختلف لها أم أن هناك ريجي أخرى تنتظر البقاعيين يبدأون معها من المكان الذي انتهى منه الجنوبيون.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى