هكذا تكلم يوري…

زهير دبس

«فردوس العبث، نزق المخيلة، صندوق الرغبة»… قد تختصر هذه الكلمات الست التي وسم بها عبد الحليم حمود الصفحة الأولى من إصداره الجديد «يوري.. إله السمكة السوداء» إلى حد بعيد مضمون الكتاب الذي يتدفق غزيراً صاخباً يفيض من «صندوق الرغبة» ويذهب بعيداً في «نزق المخيلة» ويحط رحاله في«فردوس العبث». ما كتبه عبد الحليم حمود في «يوري إله السمكة السوداء» ليس رواية، بل هذيان يُحلق في فضاء العقل الباطني ويُوغل فيه. إنه سورياليتنا التي تحتجب خلف أقنعتنا الموروثة. إنه حواسنا المبعثرة ورغباتنا الدفينة التي تسبح في قعر أكواريم تظلله سمكة سوداء.

في أحد الحوارات مع حمود حول إصداره الذي يكسر التابويات والمحرمات قال إن «وقع الكتاب سيكون عادياً لو صدر في أوروبا أو أميركا أو أماكن أخرى من العالم، لكن صدوره هنا هو ما يكسبه تلك الميزة في بلاد تحيل كل شيء إلى مقدّس وتعتبر التطرّق إلى أي فكرة من المحرمات».

لا رواية في رواية «يوري.. إله السمكة السوداء» ولا إطار يضبط النص، بل إسقاطات مبعثرة تغوص عميقاً في مكنونات النفس البشرية وتذهب بعيداً في مقاربتها المجنونة لكل القضايا. وهو ما تفيض به الكلمات بين دفتي الكتاب حين يقول: «يستطيع الانسان أن يمزق الحُجُب بينه وبين الآخرين بمجرد الانتباه لحركته وحركة الناس، عبر ملاحظة آلية عمل الدماغ، ولادة الفكرة، منابع الخوف، كنه الحب، مكامن الكره، معامل الشهوة، دوافع الرغبة». ثم يستدرك «كم يخيفني هذا الكلام، أخاف منه على يوري!

يتابع: «يبدو أنّي تورطت بعبوري طريق الحكمة، معرفة كنه الأشياء فيه لذّة، لكنها ستفقدني ملذّات أكبر، وأوسع». يتابع: «لا أريد لشغفي أن يخبو، ولا لرغبتي أن تسكن، لا أتمنى أن أُشفى من جنوني. خائف أنا من خطاي التي قطعت نصف المسافة، ولا أعرف كيف أُوقف عجلة المعرفة! الجاهل يستطيع التعلُّم، الإضافة صيرورة حياة، أما حذف ما نتعلّمه فلا أجد له سبيلاً سوى بإلغاء العقل، وإلغاء عقلي يعني إلغائي، موتي. لقد وقعت في شرك التجربة، الحكمة فخّ، لعنة اللعنات! لست متأكداً، لكن ربما الأنبياء مبتلون بالحكمة.»

يذهب حمود بعيداً في تكسير أبواب الحكمة وتحطيم أقفالها حين يقول: «كيف أحلب تجربة ماصلة من زبدة الحكمة؟ أيها الجنون لا تبرحني، أنت وقود اليوميات، محرّك العجلة، إكسير الشغف».

يجول حمود في روايته بين الفلسفة وعلم النفس ويتطرق إلى أحداث ووقائع وأسماء كثيرة يجيرها لصالح النص. يفلسف الوقت ويعريه ويمجد تحطيم الأصنام المتعددة «حملت بيدي مطرقة انهلت برأسها الأملس على ساعة ضخمة فعثت فيها تهشيماً وتحطيماً، تطاير الرقّاص والتوت العقارب وتبعثرت الأرقام. انتهيت من طحن الساعة ثم وقفت ووضعت المطرقة قبالة عيني ثم خاطبتها كما خاطب هاملت الجمجمة: أتظنين أن الوقت مختبىء هنا في هذه الساعة؟ أتعتقدين أن الزمن يُصنَّع ها هنا، أتفترضين أنك توقفين عجلة الأعمار حين تعطلين العقارب عن الدوران؟ كلا، الوقت مفهوم مجرّد خارج التحنيط المجسّد، وكذلك الحب، فهو ليس في القلب، بل هو في الفضاءات المجرّدة، لا أحد يستطيع تحنيط الشجاعة، تجسيد الحنان، القبض على الحرية، أو تعليب الكره، هذه مفاهيم أثيرية عصيّة على اللمس. آه كم مطرقة لعينة في التاريخ لاحقت سقراط وأخناتون وابن رشد والحلاج وغاليلو وغسان كنفاني وناجي العلي.

يتابع: «مطارق من نار ومطارق من سلالة من طين. ما أعظم مطرقة نيتشه وما أنبلها وهي تحطم الأب الصنم، الوطن الصنم، القلب الصنم، والإله الصنم».

يعتبر حمود إن الكره ونبذ الآخر ليسا وليدا اللحظة التي نعيشها بل هما موروث ثقافي تمارسه المجتمعات وتتلقاه الأجيال «إن أخطر أنواع الحروب الناعمة هي تلك التي يمارسها الأهل على أولادهم، ممرين لهم آلاف الوصايا التي تشكلهم ضمن منظومات تدّعي امتلاك اليقين والقبض على الحقيقة. تحت هذا العنوان تتم فبركة عقول الأجيال وتعليبها بعد ملأها بالترهات والخرافات. ثم ننتقل إلى الخطوة التالية الضرورية، وهي تحقير الغير وتشريح معلباتهم ونسف مكونات تلك الوصايا، الآخر سام دائماً».

استباحة الآخر وانتهاك خصوصيته في مجتمعاتنا يتطرق إليه حمود في «يوري إله السمكة السوداء» فيقول: «اليوم نخون، ونُخان، نقف على الشرفات بعيون جائعة، نلتهم المارة، نصفّر، نقتحم إنبوكس الفيسبوك، ونستبيح هواتف الآخرين. همجيون أيضاً لكن بكنزات لاكوست، وسراويل جينز، ونظارات ريبان، وأحذية أديداس».

السوريالية المقنعة بألف لباس هو ما يحكم نص عبد الحليم حمود وتتجلى واضحة عندما يقول: «مجرّد التقاء عناصر بعيدة عن بيئتها الطبيعية هو أمر مُولِّد للدهشة، أوليست الحياة سوى باقة دهشات؟».

لم يمر الموت مرور الكرام في رواية حمود بل تطرّق إليه بطريقة هزلية طريفة «كم جميل لو نطلي القبور بألوان باهرة وننصب الأراجيح بين الشواهد ونُطلق العنان للاعبي الخفّة والباعة المتجولين وسائقي الدراجات الهوائية ترافقهم موسيقى صاخبة. كم طريف هو تحويل الجنازة إلى مشهد هزلي، رجال يحملون البالونات خلف النعش، بصوت موحَّد يردِّدون مع فيروز «تعا ولا تجي، وكذوب عليّي، الكذبة مش خطيّي». يتابع: «في جسدي ثمّة جثة تلازمني، أُجرِّب أن أُؤجل إعلان موتها».

لا مقدسات ولا أقانيم تقف في وجه يوري الحكيم فها هو الوطن بقدسيته ومكانته العليا يتداعى ويصبح كيس نفايات «يجب أن يصرخ أحد ما معلناً حقيقة كيس النفايات هذا الذي يسمونه وطناً». فالمال حسب يوري «يعيد طهو المقدسات والأخلاق والأوطان».

مع يوري الحكيم وسمكته السوداء ستذهب عميقاً إلى نقطة اللاعودة. ومع سمكته السوداء المذيلة بتوقيعه ستتقن فن الغوص.

نص مجنون صاخب مبعثر لا تستطيع الإحاطة به أو الخروج منه سالماً فشظاياه ستصيبك حتماً «يجب أن أبقى ثملاً بكأس الفكرة وجموحها المجنون».

يوري إله السمكة السوداء مليئة بالاستعارات الصورية المتفلتة من أي إطار «حواسنا غابة عذراء مطرية، تحت كل جذع اكتشاف، على كل غصن تجربة».

نص خارج السياقات، متفلت منها. «فردوس العبث» ينزف حتى آخر فكرة. لا يستريح ولا يستكين إلى أن تتعب المخيلة فتنقلب عشقاً متدفقاً لتعيد ترتيب الأشياء المبعثرة الطافية على سطح النص.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى