«متة» حداثا الشيعية ليست درزية… جاءت من الأرجنتين!

زهير دبس

لعل حكاية مشروب «المتة» في بلدة حداثا الجنوبية يكسر الصورة النمطية السائدة حول ذلك المشروب الشعبي من أنه محصورٌ فقط في مناطق جبل لبنان وتحديداً في أوساط أبناء طائفة الموحدين الدروز، التي تعتبر «المتة» جزءاً من تراثها. حكاية ذلك المشروب وانتقاله إلى لبنان حكاية شائعة وتقول إنه انتقل من خلال المهاجرين اللبنانيين الدروز الأوائل الذين هاجروا من جبل لبنان إلى أميركا اللاتينية وتحديداً إلى الأرجنتين وعادوا حاملين معهم «المتة» التي تحوّلت تقليداً شعبياً وجزءاً أساسياً من الجلسات العائلية ومن عادات الضيافة الخاصة بأبناء طائفة الموحدين الدروز وأبناء الجبل تحديداً.

مع توالي الأيام أصبح لـ «المتة» هوية مذهبية مناطقية التصقت بشكل كامل بطائفة الموحدين الدروز يتميزون بشربها عن غيرهم، وأصبح الانطباع السائد من أن كل من يشرب «المتة» هو درزي حكماً، عزّز من ذلك تعلّق الزعيم كمال جنبلاط ومن بعده إبنه وليد بها. ولم يقتصر وجودها على مناطق جبل لبنان فقط بل تخطته إلى معظم المناطق الدرزية الأخرى كحاصبيا وراشيا وصولاً إلى السويداء في سوريا وأماكن تواجد الدروز في الأردن وفلسطين.

لعل حكاية «المتة» في بلدة حداثا الجنوبية تكسر السائد حول هوية «المتة» المناطقية والمذهبية، لكنها لا تكسر السائد حول انتقال ذلك المشروب الشعبي من الأرجنتين إلى حداثا حيث بقيت تلك الحكاية عصية على الانتشار بفعل قوة الهوية الأولى ومركزية مذهبيتها وانتشارها الأوسع.

عرفت بلدة حداثا الجنوبية «المتة» منذ أكثر من مئة عام، بفعل الهجرة الكثيفة من أبنائها حينذاك إلى الأرجنتين ولم تقتصر على منازل محددة في البلدة، بل كانت حاضرة في كل منازل البلدة يتناقلونها جيلاً بعد جيل. وفي هذا الإطار يروي أحد أبناء البلدة محمد مشهور ناصر الدين الذي يبلغ من العمر ٨٤ عاماً لـ «مناطق نت» حكاية «المتة» في البلدة فيقول: «عاد والدي ابراهيم من الأرجنتين حوالى سنة ١٩٢٦ وربما قبل ذلك وكان مكث فيها حوالى العشر سنوات قبل عودته، وكان سبقه إليها العديد من أبناء البلدة وهذا يؤكد أن عمر هجرة أبناء حداثا إلى الأرجنتين يفوق المئة عام». يتابع ناصر الدين عاد والدي من الأرجنتين حاملاً معه ١٤٠٠ ليرة ذهبية ولي أعمام (محمود وخضر) هاجروا إلى الأرجنتين مع والدي ولم يعودوا ودفنوا هناك حيث عملوا في تجارة المواشي ونجحوا، ولي أخوال (عبدالله وعبد الأمير وعبد الحسن) هاجروا ولم يعودوا أيضاً. ويتابع ناصر الدين «نصف حداثا هاجرت إلى الأرجنتين، وأن حداثا أخرى وُلدت هناك».

عن «المتة» في حداثا يقول ناصر الدين: «وعيت على الدنيا و«المتة» في بيتنا وفي معظم بيوت البلدة يتناولونها في صباحاتهم ومساءاتهم ويقدمونها لضيوفهم». يتابع: «أحضر والدي «المتة» معه من الأرجنتين شأنه شأن معظم المهاجرين الذين أحضروها معهم وهي انتشرت في ذلك الوقت في كل بيوت القرية وتحوّلت إلى تقليد قروي تتميّز به حداثا عن بقية البلدات الجنوبية». يضيف ناصر الدين:«منذ زمن نشرب «المتة» ونتحلّق حولها أفراداً وجماعات، وتنتقل من جيل إلى جيل حيث لا زال العديد من أبناء البلدة يواظبون على شربها». يتابع ناصر الدين «معظم دكاكين حداثا تبيع «المتة» نظراً لانتشارها ومن النادر أن يخلو دكان من «المتة». ومن النادر أن يخلو بيت من أدوات شرب «المتة».

تختصر حكاية «المتة» في حداثا الجنوبية حكاية هجرة أبناء البلدة مطلع القرن الماضي إلى أميركا اللاتينية وتحديداً الأرجنتين، ومن النادر أن تجد بيتاً في البلدة لم يهاجر أجداده إلى هناك. وهذه الهجرة لم تقتصر على أبناء حداثا فقط، فمعظم القرى والبلدات المحيطة مثل تبنين وحاريص وبنت جبيل وبرعشيت وشقرا وغيرها العديد من البلدات والقرى شهدت هجرة كثيفة في ذلك الوقت إلى مختلف أنحاء العالم سواء أميركا وأفريقيا وأستراليا، وذلك نتيجة الأوضاع الاقتصادية المزرية التي كانت تعيشها تلك البلدات والقرى.

بالرغم من وجودها منذ أكثر من مئة عام لم تستطع «متة» حداثا الجنوبية كسر مذهبية «متة» جبل لبنان المتلبسة العباءة الدرزية، ولم تستطع تكوين هوية مذهبية مغايرة، بل بقيت تقليداً محلياً شكّل عنواناً للثقافات الوافدة التي تدخل على المجتمعات وتتطبع بتقاليدها وعاداتها.

قلّصت «المتة» الأرجنتينية المسافة الفاصلة بين الأرجنتين ولبنان وقطعت آلاف الأميال لكي تصل إلى هنا، لكنها لم تستطع تقليص المسافة الفاصلة بين حداثا الجنوبية وبين نظيراتها في جبل لبنان، فبقيت الأخيرة تحمل هويّة مغايرة عن الأولى وتلبس لبوساً تخفّفت منه في موطنها الأم، لكنها تبقى عنواناً للغنى الثقافي الجميل العابر للقارات وللحدود.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى