«بلاطة ناصيف» في يارون.. حكاية الشيخ الفارس

زهير دبس

لافتة حديدية صغيرة مَحت الطبيعة جزءاً من حروفها، تستوقفك لتقول لك «أنا بلاطة ناصيف». على صخرتي ترقد حكاية عمرها قرنين ونصف من الزمن، لم تستطع محوها عوامل الطبيعة ولم تستطع الأحداث المتراكمة طي تلك الحكاية. فبقيت راسخة وستبقى ما بقيت الصخرة. «أنا بلاطة ناصيف»: «لست جغرافيا منسية بل تاريخ متوثِّب يعيد صوغ الحكاية كل يوم.

هناك على مقربة من الحدود اللبنانية الفلسطينية تربض على تلة صغيرة في بلدة يارون الجنوبية الحدودية «بلاطة ناصيف» ولولا تلك اللافتة الحديدية المتلاشية حروفها لا يمكنك الاستدلال على المكان. كثيرون منا لم يسمعوا بالبلاطة وحكايتها وكثيرون لا يعلموا عنها شيئاً!… أهملتها كتب التاريخ لكن أنصفتها الجغرافيا فبقيت حية تحكي عن ذلك الشيخ الذي خرَّ شهيداً على صخرتها، يُؤرِّخ بلحظة سقوطه مع أربعمائة فارس من رجاله حقبة من الزمن لم يعد جبل عامل بعدها كما كان قبلها.

لم تكن «بلاطة ناصيف» في بلدة يارون قبل 23 أيلول 1781 تاريخ سقوط الشيخ ناصيف النصار عليها شهيداً سوى صخرة عادية ملساء تضاريسها قليلة، يستعملها أبناء يارون لنشر مؤونتهم من حبوب وغيرها. لكن في ذلك النهار الذي زلّت فيه قدم الفرس التي كان يمتطيها النصار في معركته بمواجهة عساكر أحمد باشا الجزار، أصبح للبلاطة حكاية مغايرة أثقلتها الدماء الغزيرة التي سالت عليها، والتي شهدت فيه البلاطة معركة فاصلة في تاريخ جبل عامل، الذي انفتح على مصراعيه أمام عساكر أحمد باشا الجزار يعيثون فيه قتلاً وتدميراً لمدة طويلة.

«بلاطة ناصيف» مساحتها صغيرة لا تتجاوز المئة متر تقريباً لكنها ظلّلت بتلك المساحة حقبة كبيرة من تاريخ جبل عامل، شهد الكثير من المآسي والويلات لا زالت البلاطة شاهدة عليه حتى الآن.

ندخل يارون البلدة الجميلة بطبيعتها والغنية بمنازلها الفخمة حيث تنتشر الڤيلل بكثرة بين شوارعها بفعل الاغتراب الكثيف من أبنائها إلى الخارج وخصوصاً أميركا وأستراليا. نسأل عن المختار فيشار إلينا بأن مكتبه بالقرب من البركة في ساحة البلدة، وما أن نصل إليه معرفين عن أنفسنا بأننا صحافيون يبادرنا بالقول: «تسألون عن البلاطة» فنجيبه على الفور «هذا ما نريده» فيرشدنا إليها وهناك نقف على تخوم الحكاية، ندور حولها.. نحاول الغور فيها علنا نعثر بين حجارتها على أثر لذلك الفارس الذي سقط عليها مع رجاله.

يتوسط البلاطة باب أرضي مستطيل، يشكل مدخل المغارة الأثرية التي تقع تحت البلاطة وفيها عدداً من المدافن لا زالت موجودة حتى الآن.

مع مختار بلدة يارون رياض أحمد رضا عدنا تقتفي أثر الحكاية فبادرنا بالقول: إن حكاية «البلاطة» راسخة في ذاكرة البلدة وأبناؤها يتناقلونها جيلاً بعد جيل. تابع رضا: «كيفما سألت في البلدة عن البلاطة سيروي لك الجميع حكايتها! الكبير والصغير يحفظونها ويروونها باستمرار. فالشيخ ناصيف النصار كان زعيم جبل عامل وكان رجلاً مقاوماً ضد الظلم والطغيان. والبلاطة يسمونها أهل يارون إلى اليوم «بلاطة ناصيف» وهي شهدت المعركة الضخمة التي خاضها النصار ضد عساكر الجزار، حيث زلت قدم الفرس التي كان النصار يمتطيها وسقط أرضاً فعاجله عساكر الجزار بالرصاص فخرَّ شهيداً وسقط معه أربعمائة من رجاله في المعركة. وتحدث المختار رضا استناداً إلى المرويات أن العديد من أبناء بلدة يارون كان مع الشيخ ناصيف في المعركة واستشهدوا معه.

الشيخ ناصيف النصار دُفن في يارون ولا زال ضريحه موجوداً إلى الآن في جبانة البلدة حيث أقامت له «جمعية قبس لحفظ الآثار الدينية في لبنان» بالتعاون مع إتحاد بلديات قضاء بنت جبيل، منذ حوالى الأربع سنوات نصباً تذكارياً تخليداً لذكراه يتضمن لوحة كُتب عليها نبذة عن حياته والمعركة الفاصلة التي خاضها في البلدة واستشهد فيها.

وأشار رضا إلى أن الأرض التي تقع فيها البلاطة هي أملاك خاصة، لكن أبناء البلدة والبلدية لن يسمحوا لأحد بالبناء عليها أو تشويهها وسيحافظون عليها كما هي.

مع تقادم الأيام تحوّلت «بلاطة ناصيف» إلى حكاية منسية في التاريخ، لكنها ثابتة أبداً في الجغرافيا، وفي ذاكرة أبناء البلدة يروونها دون انقطاع. هي حكاية الشيخ ناصيف النصار التي أهملتها الكتب لكنها بقيت محفورة على حجارة تلك البلاطة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى