“إيمتا الولد الثاني؟” بين العقم الثانويّ وضغوط المجتمع

“لم أكن مهيّأة لإنجاب طفلٍ ثانٍ، ولم أفكّر بنفسي. كلّ ما فكّرت به، هو أنّ ابنتي تحتاج إلى أخت أو أخ، وكانت تلك رغبة زوجي. لكنّني دفعت ثمنًا باهظًا من صحّتي، إذ أعاني من متلازمة بهجت، وقد تفشّى التهاب الدم في جسمي بعد الولادة.”
الكلام لـ: ماندي حمّود (35 سنة)، وهي أمّ لبنانيّة لطفلين، من صيدا جنوب لبنان، وتروي لـ”مناطق نت” تجربتها بعد الإنجاب الثاني، فتقول: “كأنّني قضيت على نفسي. ولو عاد بي الزمن، لراعيت صحّتي أوّلًا، ولجأت إلى وسائل منع الحمل”.
تخوض ماندي شكلًا من القهر الصامت الذي يلازم نساءً في قرار إنجاب المولود الثاني. فالتجربة الأولى مع الأمومة، مهما كانت خلاصاتها، لا تترك للمرأة السلطة في تحديد قرارها الإنجابيّ. يواصل المجتمع فرض وصايته، بشكل مباشر أو مبطّن، سواء بالإلحاح على الإنجاب الثاني، أو بتجاهل الرغبة الصادقة به حين تتعذّر المحاولة، وهي الحالة التي يصفها الطبّ بـ”العقم الثانويّ”.
وفي موازاة ذلك، لا يحظى طموح المرأة المهنيّ ولا عملها خارج الإطار الأسريّ بالاعتراف الكافي كمسار مكمّل لهويّتها، بل يُحال غالبًا إلى كونه ترفًا موقّتًا أو تهديدًا لدورها المحصور في الإنجاب والتفاني العائليّ.
هكذا تنوء أمّهات تحت محمول ثقافيّ تقليديّ يختزلهنّ في دور الإنجاب، ويُمارس عليهنّ ضغطًا عاطفيًّا تحت مسوّغ “ألّا يبقى الطفل الأوّل وحيدًا”. وكلّ ما عدا الأمومة في خيارات المرأة واهتمامها لا يراه المحيط، إذ سرعان ما سيدير ظهره للأمّ، بعدما فرغ من دوره في فرض التوقّعات والتطفّل، مُلقيًا سؤاله المعهود: “أيمتى بدّك تجيبيله/ا أخّ أو إخت؟”.
زينة: في بادئ الأمر، كنت أجيبهم بـ”إن شاء الله”، ثمّ بتُّ أقول: من يرغب بطفل ثانٍ فلينجبه هو.
“أهلي خيّبوني”
السؤال نفسه، يكرّره الأهل على مسامع زينة (28 سنة)، وهي أمّ لطفل يبلغ ثلاث سنوات، تعيش في ضاحية بيروت الجنوبية: “في بادئ الأمر، كنت أجيبهم بـ”إن شاء الله”، ثمّ بتُّ أقول: من يرغب بطفل ثانٍ فلينجبه هو.”
هذا التمرّد، ينبع من خيبة زينة من أهلها الذين وعدوها بالدعم: “أنجبت طفلي بعد تردّد طويل بسبب الأزمة الاقتصاديّة في لبنان، وأهمّ العوامل المشجّعة كان تأكيد أهلي بأنّهم سيساعدونني برعاية ابني، فأتمكّن من الحفاظ على عملي الشغوفة به، في دار للنشر. كان ذلك وهمًا، إذ سرعان ما تذمّروا من ابني، فاضطررت إلى ترك وظيفتي، وحدثت قطيعة طويلة. بلغ غضبي ذروته خلال الحرب، حيث اضطررنا للسفر سويّة، وأقمنا في الشقة نفسها، فأخذوا يعاملون طفلي كأنّه عبء لا يطاق. هدّدتهم بالعودة معه إلى لبنان تحت القصف”.
تضيف: “مجرّد التفكير بطفلٍ ثانٍ يُشعرني بدنوّ أجلي، كأنّني أقترب أكثر من الحافّة، من الذوبان الكامل في تكرار الإنهاك، والتلاشي داخل مسؤوليّات لا يُترك لي فيها مساحة لنفسي”.
تزاول زينة اليوم عملًا بدوام جزئيّ، وتدفع أكثر من ثلث راتبها لحضانة طفلها، كذلك إنّ أباه، غير صبور في رعاية الأطفال، ممّا ألقى بمسؤوليّات التربية والاعتناء بالطفل على كاهل الأمّ وحدها.
ليست زينة استثناءً. لا تزال الرعاية الوالديّة تُلقى تلقائيًّا على عاتق الأمّهات. ولا يتطوّر الواقع بوتيرة مواكبة لانخراط المرأة العاملة والمتعلّمة في أدوار منسوبة تقليديًا إلى الرجل. وإلى جانب هذا التوزيع غير العادل، تُمعن الضغوط الاجتماعيّة والنفسيّة في ملاحقة المرأة من أجل إنجاب الأطفال، وكأنّ جسدها مشروع دائم للخصوبة يجب تطويعه واستثماره، وفق معايير الأمومة المصادق عليها نمطيًّا.
ريما: ولدت في أسرة مكوّنة من سبع بنات، في جوّ تقليديّ من قرى عكّار شمال لبنان. ولا عجب أن أسمع بين فينة وأخرى “إن شاء الله بتزينيه (ابنها) بعروس أو عريس
هذا ما يجعل ملاحظات الطبيبّة والباحثة النسويّة نوال السعداويّ في كتابها “المرأة والصراع النفسيّ”، الصادر العام 1977، تحتفظ براهنيّتها، إذ ترى: “لا يزال المجتمع بصفة عامّة ينظر إلى المرأة في البيت (كزوجة وأمّ) على أنّه دورها الأساسيّ في الحياة، أو دورها الوحيد المسموح به”. وتضيف: “في هذه الفترات الانتقاليّة، التي يتعايش فيها القديم والجديد، تنشأ صراعات نفسيّة، وبخاصّة لدى النساء”.
صراع داخليّ لا ينتهي
تبدو مسألة الإنجاب الثاني مختلفة لدى ريما نادر (30 سنة)، حيث لا تزال تعيش هواجس غير محسومة: “ولدت في أسرة مكوّنة من سبع بنات، في جوّ تقليديّ من قرى عكّار شمال لبنان. ولا عجب أن أسمع بين فينة وأخرى “إن شاء الله بتزينيه (ابنها) بعروس أو عريس”. ولا تزال بعض النساء يعتقدن أنّ الطفل الثاني سيكفل بـ”ربط” الزوج، وهذا تصوّرٌ تجاوزه الزمن”، على ما تشارك “مناطق نت”.
تنظر إلى معايير الوالديّة الراهنة، باعتبارها العبء الأكبر: “لا يمكنني أن أحذو حذو أهلي وإنجاب طفل ثانٍ بالبساطة التي يخالونها، فالأمومة المعاصرة باتت أكثر تطلّبًا بكثير. من الناحية المادّيّة، أواجه مع زوجي ما يواجهه جيلنا من تحدّيات اقتصاديّة ونمطًا استهلاكيًّا مستنزفًا. كذلك أولي نفسيّة طفلي ونموّ شخصيّته اهتمامًا أساسيًّا، الأمر الّذي أغفله أهالينا. أضيفي أنّني أعيش في بيروت بعيدا من عائلتي، وهذا ما اضطرّني إلى تأجيل طموحي المهنيّ، والتفرّغ لرعاية ابني”.
تستدرك، مبيّنة تخبّطها المستمرّ: “شعور بالذنب ينبثق من أمومتي، حين ألاحظ أنّ ابني يستمتع حين أصطحبه إلى اللعب مع أطفال من أقرانه، ولا يرغب بمفارقتهم. كما أنّنا نعيش في عالمٍ متوحّش، وسيكون وجود شقيقـ/ة لابني مؤنسًا له حين أفارق الحياة”.
“نساء غيري أحوج للطفل”
أمَا ريتا مرقص (45 سنة)، وهي مستشارة في مجال التنمية المحلّيّة، من شمال لبنان، تروي لـ”مناطق نت” أنّها لم تكلّ طيلة السنوات الستّ السابقة، من تحقيق رغبتها في إنجاب طفلٍ ثانٍ، لكنّ محاولاتها كانت تنتهي بالإجهاض، في مجموع خمس إجهاضات، كان خلالها الجنين يبلغ شهرين كحدّ أقصى.
ريتا: كان حملي يتزامن مع حملٍ ناجحٍ لزميلاتٍ في العمل، ممّا جعلني، في نظرهنّ أو ربّما في شعوري، كائنًا يُشفق عليه
لم تمضِ هذه التجارب من دون جروح نفسيّة بليغة. فاقم المعاناة استخفاف الأطبّاء في رغبة ريتا بالإنجاب الثاني، وكذلك فعل أصدقاء اعتنقوا دور الطبيب العارف بأسباب إجهاضها، “ولكنّني محظوظة بزوجي، إذ يؤكّد لي على الدوام أنّه اختار امرأة ناضجة ليقترن بها وتكون شريكته، وكلّ ما يعيبه الآخرون في انجابيّتي ليس في اعتباره”.
تعدّدت الأشكال، والتخاذل الطبّيّ واحد: “طبيب كان يراني مصدرًا للمال، وأخضعني لعلاجات مكلفة ليستفيد من تغطية التأمين. وطبيب آخر قطعت علاجي معه لأنّ نظراته إلى جسمي لم ترحني. وطبيب تنمرّ على وزني الزائد الذي كسبته في الحمل الأول، وطبيبي الأخير كاد يودي بحياتي بسبب جرعة زائدة وصفها في الحقنة الهورمونيّة، وتعرّضت بسببها إلى نزيف حادّ، وكنت حينها مقيمة وحدي في قرية بعيدة خلال ورشة عمل”.
وتنتقد بعض التفاعلات التي واجهتها، قائلة “كان حملي يتزامن مع حملٍ ناجحٍ لزميلاتٍ في العمل، ممّا جعلني، في نظرهنّ أو ربّما في شعوري، كائنًا يُشفق عليه. لم تدرك بعضهنّ حساسيّة حدادي على جنيني المجهَض، فكنّ يردّدن على مسمعي: “بسيطة”، أو “شدّي الهمّة”، وكأنّ عبور هذا الحداد، إن اعترفن أصلًا بوجوده، أمرٌ سهل وبديهيّ، وكأنّ كلّ ما يُنتظر منّي هو أن أبدأ من جديد، أن أحمل من جديد”.
في حملها الأوّل، أشعلت ريتا شمعة، ونذرت مولودتها للقدّيسة ريتّا. واليوم، يساعدها إيمانها الثابت، والشعور بالأختيّة والتضامن مع النساء، في بلوغ مرحلة التصالح “لم أرزق بطفل ثانٍ، ولكن رزقت بخمسة ملائكة ستشفع لي في السماء. وأؤمن كذلك بأنّ الطفل الثاني الّذي لم أنجبه، ستنجبه امرأة من بين نساء كثيرات يكافحن لتحقيق حلمهنّ بالأمومة، ويصمدن على رغم المعاناة، أملًا بإنجاب طفل واحد فقط”.
“العقم الثانويّ” بمنظور الطبّ
تقول الطبيبة اللبنانيّة ومستشارة العقم جيسيكا عازوري، في حديث إلى “مناطق نت”: “إنّ الصعوبة في إنجاب طفل ثانٍ، على الرغم من حدوث حمل سابق، سواء انتهى بولادة الطفل الأوّل أو بالإّجهاض، هو تعريف ‘العقم الثانويّ‘”.
عازوري: كثيرًا من الرجال يرفضون الاعتراف باحتمال العقم عندهم، وبخاصّة إن أنجبوا طفلًا سابقًا، معتبرين ذلك دليلًا قاطعًا على خصوبتهم. غير أنّ الإنجاب الأوّل تحقّق بفرصة ضئيلة ربّما لا تتكرر
توضح أنّ “العقم الثانويّ”، مثل سائر مشكلات الخصوبة، لا يُشخّصه الأطبّاء بشكل مباشر، بل يُلاحظ على أنّه ضعف في القدرة على الإنجاب الثاني. وتذكر أنّ هذا النوع من العقم ربّما يصيب النساء والرجال على حدّ سواء، في الحالات الآتية:
– مضاعفات ناتجة عن الولادة الأولى، خصوصًا بعد الولادة القيصريّة التي قد تؤدّي إلى التصاقات في جدران الرحم.
– تقدّم العمر عند المرأة، إذ تبدأ الخصوبة بالانخفاض بشكل ملحوظ بعد سن الـ37.
– ضعف الحيوانات المنويّة لدى الرجل.
وتلفت عازوري إلى تداخل بين العوامل الطبّيّة والاجتماعيّة، مشيرة إلى أنّ “تأخّر سنّ الزواج إلى ازدياد، ويُعدّ من أبرز أسباب هذه الظاهرة. فمثلًا، حين تتزوّج المرأة في سن الـ34 وتنجب طفلها الأوّل في الـ36، تكون قد ناهزت سن الـ40 عندما قرّرت الحمل مجدّدًا”.
وتُبيّن الطبيبة أنّ كثيرًا من الرجال يرفضون الاعتراف باحتمال العقم عندهم، وبخاصّة إن أنجبوا طفلًا سابقًا، معتبرين ذلك دليلًا قاطعًا على خصوبتهم. غير أنّ الإنجاب الأوّل تحقّق بفرصة ضئيلة ربّما لا تتكرر. وهنا تبرز ضرورة التمييز بين “العقم” (Infertility)، الذي يشير إلى الصعوبة في الإنجاب، و”اللاخصوبة” (Sterility)، التي تعني العجز التام عن الإنجاب.”
أما العلاج، فـيختلف تبعًا للسبب الكامن وراء المشكلة، ويتراوح بين علاجات بسيطة، وأطفال الأنابيب، وفي بعض الحالات، التدخل الجراحي، بحسب الطبيبة.
وتلمس عازوري تفاوتًا واضحًا في تقبّل الفحوصات الطبية بين الرجال والنساء. فالنساء يُبدين تعاونًا طبيعيًا في الخضوع لمجموعة واسعة من الفحوصات، وبعضها قد يؤلمهنّ جسديًا، بينما يُظهر العديد من الرجال مقاومة شديدة لإجراء تحليل بسيط للسائل المنوي. وتُرجع هذا الموقف إلى المعتقدات الاجتماعية الراسخة، التي تمنح الرجل افتراضًا مطلقًا بالقدرة على الإنجاب، وتربط الرجولة بالخصوبة. كما أن هناك اعتقادًا خاطئًا لدى معظم الرجال، بأن وجود الدافع الجنسي والانتصاب والقذف، دليل كافٍ على قدرتهم على الإنجاب.
هل الدين يُقرّر؟
تجربة ريتّا مع الإنجاب الثاني، كما هو حال زينة، وريما، وماندي، وسواهنّ من النساء، تندرج ضمن قضايا “العدالة الإنجابيّة” المنتهكة. هذا المفهوم، الذي طرحته لأوّل مرة العام 1994 المناضلة النسويّة الأميركيّة لوريتّا روس، لا يزال بعيدًا من التحقّق في المجتمعات اللبنانيّة والعربيّة عمومًا. ويقوم جوهره على الاعتراف بحقّ الإنسان في الحفاظ على استقلاليّته الجسديّة، واختيار إنجاب الأطفال أو عدمه، وتربيتهم ضمن بيئات آمنة ومستدامة.
من هذا المنطلق، وفي حديث لـ”مناطق نت”، ترى الدكتورة ميراي ربيز، رئيسة قسم دراسات الشرق الأوسط وأستاذة دراسات المرأة والجنسانيّة في كلّيّة ديكنسون الأميركيّة، أنّ “جسد المرأة عومِل عبر التاريخ كمادّة إنجابيّة، ما سلبها السلطة على نفسها وحقّها في اتّخاذ القرار بشأن الإنجاب”.
وتتابع: “نعيش في مجتمع محافظ وأبويّ تُقاس فيه قيمة المرأة الاجتماعيّة بقدرتها الإنجابيّة، لذا تُمارَس عليها ضغوط لإنجاب أكثر من طفل”.
ولا تتوقّف الضغوط عند هذا الحدّ، “فالأمومة المثاليّة يُنظر إليها في إنجاب طفلين، يفضّل أن يكون أحدهما ذكرًا والآخر أنثى. أمّا من تنجب طفلًا واحدًا، فعادة ما تُواجه بسؤال متكرّر: متّى تنوين إنجاب الطفل الثاني؟ بعبارة أخرى، لا يُكتفى بتقييم المرأة من خلال قدرتها على الإنجاب، بل يُفرض عليها أيضًا نموذج نمطيّ لـ”الإنجاب المثاليّ”، يقوم على التنويع الجنسي ذكر/أنثى”.
السؤال الإنجابي للمرأة حصرًا
تشير ربيز إلى أنّ السؤال الإنجابيّ يُوجَّه عادة إلى المرأة وحدها، لارتباط خصوبة الرجل، بشكل خاطئ، بمفهوم الرجولة: “لا يُنظر إلى الرجل على أنّه “رجل كامل” إلّا إن كان قادرًا على الإنجاب. وبالتالي، فإنّ مجرّد طلب إجراء فحوصات الخصوبة قد يُفسَّر ضمنيًّا على أنّه انتقاص من رجولته، بل مصدر للعار. ومع ذلك، يمكن التحدّث عن عقم المرأة، وبخاصّة إذا كان قابلًا للعلاج. أمّا عقم الرجل، فيظلّ غالبًا موضوعًا مسكوتًا عنه، يحوطه الصمت والإنكار”.
وتذهب إلى القول: “في مجتمعاتنا، تُلام المرأة على كلّ شيء، من عدم الإنجاب إلى كثرته، وحتّى في حالات الاغتصاب والاعتداء الجنسيّ. فمجتمعنا يضع غايته في إنجاب الأطفال فوق كلّ اعتبار، على رغم أنّ الدين يشترط موافقة الطرفين”.
وتختتم أستاذة دراسات المرأة والجنسانيّة، بالإشارة إلى تناقض قائم بين الضغط المجتمعيّ ومنبته الدينيّ المفترض، متسائلة: “إذا كان الخالق، في هذه الحال، قد أوكل إلى المرأة دور الإنجاب، أفلا يُعدّ تدخّل المجتمع مخالفةً لمشيئته؟”.