التشكيلي جميل ملاعب نقل العواصم إلى متحفه في بيصور
لعبت الأماكن دوراً كبيراً في تشكيل هويّة الفنان جميل ملاعب الذي ولد في العام 1948 في بيصور، البلدة الجبلية المطلّة على جبليّ الباروك والشيخ، وتتصل من بعدهما بالمطلق. في بيصور اختلط ملاعب بالطبيعة، بكامل انتباهه الحدثيّ، كأن الحجاب قد سقط عنه، فصار يحاكي الألوان، ويرسم لها هويّات وأدوارًا.
“الليلكيّ أقرب الألوان الى قلبي، فيه بعد حسّي عميق، وتصوّف وألوهيّة. الأسود صامت، يحكي بصمت. الابيض لون ضاحك، بينما البنّي منزوٍ، يطوي يديه وقدميه ولا يسأل. عكس الأحمر الصارخ الذي يغنّي. أمّا الاصفر فيتأمّل، ويخبرنا الحقيقة، ويبوح بالاسرار”، يقول ملاعب.
اشتغل الفتى جميل ملاعب مع والده في الأرض، متابعاً أكثر من ثلاثمائة شجرة تفّاح، وصولاً إلى موسم القطاف، ليتمّ جمعها في أقفاص وتباع في الأسواق. الأمر عينه تكرّر مع العنب، وهو من أفخر الأنواع في تلك الكروم. وكذلك اهتمّ بالزيتون زراعة وقطافاً وعصراً وتسويقاً. وفي بيصور زرعَت العائلة الملفوف والسلق ومروج القمح.
اشتغل الفتى جميل ملاعب مع والده في الأرض، متابعاً أكثر من ثلاثمائة شجرة تفّاح، وصولاً إلى موسم القطاف، ليتمّ جمعها في أقفاص وتباع في الأسواق الأمر عينه تكرّر مع العنب، وهو من أفخر الأنواع في تلك الكروم
نحت قبل الاختمار
كبر الصبيّ على أصوات الطيور، بأنواعها وصار يميّزها قبل أن يراها. اختزن كلّ هذا السحر ليعيد مسرحته في لوحاته التي خطّها بعد عشر سنوات أو ثلاثين سنة، أو ستّين سنة. لم تجفّ محبرة الذاكرة، ولم يضجر يوماً من محتويات صندوقه السحريّ إذ اغتنى أكثر وأكثر حينما طافت ريشة ملاعب البلدان، فمكث في كلّ عاصمة بما يكفي ليرسم ألف الف لوحة جديدة، كيف وهو “ابن الدهّان” كما يطيب له ان يكنّى، إذ إنّ والده اهتم بالرسم واشتغل بطلاء الجدران، كما عزفَ على آلة الكلارينيت، وكان ذواقّة شعر، بما فيه النوع الحديث منه.
قبل اختمار تجربة جميل ملاعب اللونيّة، كانت أصابعه سبّاقة باتّجاه حفر الخشب لتؤلّف منحوتات طبيعيّة، لوجوه وأشكال حيوانيّة. في المرحلة الثانية كان النحت بالصخر، مستعيناً بالإزميل والمطرقة، في عمليّة استنطاق عنيد للجماد.
لكنّ الشاب جميل لم يسأل نفسه آنذاك عن مشروعه الفنّيّ في المستقبل. لم يكن يعرف أنّ الفن سيكون طريقة عمليّة لكسب العيش، حيث كان مطمئنًّا للأرض التي لم تبخل عليه يوماً بجواهرها، وها هو يقول في إحدى مقابلاته: “لم أكن جدّيًّا في البداية أنّني أريد أن أكون فنّانًا. كنت أريد أن أعيش فقط. كنت أعيش من إنتاج الضيعة، والرسم كان هواية غير جدّيّة. وعندما دخلت الجامعة لأدرس الفنون، قالوا لي: كيف ستعيش؟ كنت دائمًا أتساءل كيف سأستمر؟”.
جائزة سرسق إقراراً بالموهبة
في عمر السادسة عشرة، باع ملاعب إحدى لوحاته لأوّل مرّة، وكانت تمثّل بدويّة مشغولة بألوان مميّزة. وقتذاك لفتت اللوحة أحد أصدقاء والده ودفع للفتى مالاً لقاء اقتنائها.
النقلة النوعيّة في حياة جميل ملاعب، كانت في العام 1966 حين حصل على الجائزة الثالثة من متحف سرسق، وكانت بمثابة اعتراف رسميّ بموهبته في وقت مبكر، حيث لم يكن قد أكمل عامه الثامن عشر، لتكون دراسة الفنّ في كلّيّة الفنون الخطوة الاحترافيّة من بعدها، ويتعرف إلى المواد جميعها، وتاريخ الفن والحضارات، وأساليب اساتذته الذين تأثّر بهم، من بول غيراغوسيان إلى عارف الريس وشفيق عبّود.
رحّالة المدن والألوان
بعد الجامعة اللبنانيّة، توجّه الفنان جميل ملاعب إلى الجزائر ليدرس هناك مدّة سنة، وبعدها استكمل دراسته في نيويورك، ونال الدكتوراه من إحدى جامعاتها. لقد اعتمد ملاعب السفر وسيلة اكتساب خبرات، وتشبّع بالهندسة المدنيّة والثياب وتنسيق الحدائق، ومن هنا نفهم ذلك التنوّع في أعماله؛ فنراه معالجاً لثيمة ناطحات السحاب في نيويورك، كما البيوت في موسكو، وطبيعة البحرين، أو المغرب العربيّ، كذلك هي بيروت دائمة الحضور في ألوانه.
يعتمد ابن “الجبل” على حمل عدّته الفنّيّة والتنقّل من مكان إلى آخر، راسماً بشكل مباشر، اذ يعتبر أن قيمة اللوحة في البلد الذي رسمت فيه أعلى من تلك المختزنة في الرأس ويعاد تنفيذها في المرسم بعد أشهر أو سنوات.
ينحاز ملاعب لألوان الغواش المائية الصعبة والحزينة “فهذا النوع لا يلمع على الخامة”، كما يحبّ تلك الأبديّة في الألوان الزيتيّة، “فالزيت رائع إذا استطاع الفنّان السيطرة عليه”.
كثيرة هي المواد والخامات التي تعامل معها واستطاع ترويضها، منها اشتغاله على الحجارة بهدف تحقيق أعمال فنّيّة بالموزاييك، وقد انجز منه سبعين لوحة، بينما عديد أعماله يفوق ألفي لوحة بكثير. بعضها في متاحف لبنانيّة وبعضها الآخر محفوظ في متاحف عربيّة وعالميّة، أو مقتنى من قبل أفراد مهتمّين بالفنّ، خصوصاً أنّ ملاعب من أبرز التشكيليّين اليوم، بل من الخمسة المميّزين في البلد.
الفرشاة همزة الوصل
يرى ملاعب أنّ الفنّ يسمح بتجميد اللحظة ومراقصة الزمن حتى توسعته، لذلك هو من أكثر الفنّانين عملاً بمعدل معرض كلّ سنة تقريباً، فينوّع في موضوعاته ليرسم العاريات في مرّة، وفي مرّة أخرى يقيم معرضًا للزهور، أو العصافير، أو البحر.. لكن ضربات فرشاته تعتبَر همزة وصل بين المعرض والآخر، حيث الوضوح اللونيّ، والإشراق الضوئيّ، والتجريد التقنيّ.
يرى ملاعب أنّ الفنّ يسمح بتجميد اللحظة ومراقصة الزمن حتى توسعته، لذلك هو من أكثر الفنّانين عملاً بمعدل معرض كلّ سنة تقريباً، فينوّع في موضوعاته ليرسم العاريات في مرّة، وفي مرّة أخرى يقيم معرضًا للزهور، أو العصافير
يقول: “أرسم لأنّني أعيش كثيرًا من لحظات القلق. الرسم يطفئ قلقي”، ويعتبر ملاعب أنّ “الألوهة التي بداخلنا تلوّثَت”.
رسم ابن بيصور، اللوحة السياسيّة، كما اللوحة الوطنيّة، فكانت أعمالاً ملوّنة، أو بالأسود والأبيض، تحديداً في العام 1978، بعد أن اجتاحت “إسرائيل” الجنوب لأوّل مرّة، بشكل نسبيّ، وكانت حركات المقاومة والفدائيّين قد تشكّلت ضمن موجة النضال، واليسار في العالم، لتكون تلك الأعمال ألبوماً فنّيّاً، هو واحد من تسع كتب تعكس مشروع ملاعب الفنّيّ ورؤيته الخاصّة للألوان.
المتحف
منذ أكثر من عشرين عاماً، أجرى كاتب هذه السطور لقاءً تلفزيونيّاً مع جميل ملاعب في بلدته بيصور. وقتذاك كانت فكرة المتحف قد تبلورت، بل وارتفعت كعمارة من ثلاث طبقات، إنّما بشكل غير منجَز، فكان التصوير في تلك المساحات التي احتاجت سنوات من السعي الدؤوب ليتحقَّق الحلم بـ”متحف جميل ملاعب” وقد صار اليوم مقصداً للمهتمّين بلوحته، تاريخاً وحاضراً، كما بأعمال فنّانين آخرين أثروا المشهد التشكيليّ اللبنانيّ مثل قيصر الجميّل ومصطفى فرّوخ وعمر الأنسي وبول غيراغوسيان، وعارف الريّس، وآخرين.
يدرك ملاعب أنّ الدولة اللبنانيّة قاصرة ومقصّرة عن إنجاز متحف للتشكيل اللبنانيّ، ولأنّ الوقت لا ينتظر، كان لا بدّ من صناعة الحلم حجراً حجراً، في بلاد تغضَب من وقت لآخر، فلا تبقي حجراً على حجر!