السلاح المتفلّت في بعلبك الهرمل.. الدولة في أبهى “تحلّلها”!
خلال شهر رمضان الفائت، وقبل آذان المغرب بدقائق معدودات، كان علي شومان (22 عامًا) متوجّهاً برفقة عائلته لتلبية دعوة إفطار في بعلبك، وبعد اجتيازه مفرق بلدته سرعين الفوقا بأمتار عدة، تعرضت سيارته لعدد من الطلقات الناريّة الطائشة، الناتجة من نزاع عائليّ في البلدة، وقد أصابت إحداها ساعده الأيمن بشكل مباشر، ما تسبّب بفقدان علي لقوّة يده بالكامل.
حالة علي ليست وحيدة، وإصابته التي تعرّض لها جرّاء السلاح المتفلّت لم تكن عابرة، بل هي امتداد للسلاح المتفلّت الذي يجتاح البلاد منذ سنوات، من دون حسيب أو رقيب، وهو لا يمكن وصفه بالظاهرة أو الحالة أو أيّ شيء آخر. له توصيف وحيد لا شريك له، هو تحلّل الدولة واندثارها، وغياب سلطة القانون.
لقد فرض هذا الواقع عدم خلوّ بيت واحد في بعلبك- الهرمل من السّلاح غير الشّرعي، والذي أصبح اللجوء إليه، بديلاً أسهل من اللّجوء إلى القضاء والسلطات المعنيّة، والّتي غالبًا لا تعير انتباهًا لمجتمع وبيئة بعلبك- الهرمل، حيث ثقافة السّلاح “زينة الرجال”، وهو ما تمّ ربطه بمعايير مجتمعيّة رجوليّة سائدة في المجتمع البعلبكيّ. الأمر الذي أدّى إلى استفحال انتشاره، حيث أصبح متاحاً لكلّ فردٍ في أيّ وقت وفي كلّ مكان.
نتيجة ذلك، لم يعد من السهل ليس نزع السلاح من أيدي المواطنين فحسب، بل التخفيف من آثاره المدمّرة على حياة الناس والمجتمع، فالسلاح أصبح سمة من سمات المجتمع البعلبكيّ، شأنه شأن السلاح المتفلّت المنتشر بكثافة في مختلف المناطق اللبنانيّة، لكنّ انتشاره وانفلاته يتفاوتان بين منطقة وأخرى.
تعدّى استعمال السلاح في بعلبك- الهرمل، الحروب أو الخلافات والنزاعات، سواء أكانت عائليّة أم فردّية، إذ دخل في صلب عادات المنطقة وتقاليدها، وبات استعماله وإطلاق الرصاص الحيّ جزءاً لا يتجزأ من طقوس الأفراح والأحزان والمناسبات كافّة. وصارت العائلات البعلبكيّة تتنافس في ما بينها بزخم وعدد الطّلقات الّتي يمكن لكلّ عائلة أن تطلقها هباءً في الهواء، وبالتالي بثّ الذعر والرعب بين النّاس بسبب الرصاص الطائش ونتائجه المميتة.
صارت العائلات البعلبكيّة تتنافس في ما بينها بزخم وعدد الطّلقات الّتي يمكن لكلّ عائلة أن تطلقها هباءً في الهواء، وبالتالي بثّ الذعر والرعب بين النّاس بسبب الرصاص الطائش ونتائجه المميتة
لا شكّ في أنّ للحرب الأهليّة التي اندلعت في العام 1975 دوراً رئيسياً في انتشار السلاح ووصوله إلى كلّ بيت في لبنان. لكن في بعلبك- الهرمل، كان الأمر أسهل حيث الغياب المزمن للدولة سهّل ذلك وصولًا إلى اليوم، فصار مشهد السلاح بين أيدي الناس أمراً عاديّاً لا يستدعي الاستغراب أو الاستهجان.
تبدّل مشهد بعلبك بين الأمس واليوم، فالمدينة التي لطالما كانت رمزاً للمهرجانات والفنّ وصورة لبنان التي يتباهى بها أمام العالم، تحوّلت بفضل السلاح المتفلّت والمنتشر بعشوائيّة، إلى منطقة يجري “تنميطها” وتشويهها جذريًّا، ووصفها دائماً كملجأ للمطلوبين والخارجين على القانون.
ضحايا الرصاص الطائش
في العام 2016 أقرّ مجلس النوّاب اللبنانيّ قانوناً يشدّد العقوبات على مطلقي الرصاص العشوائيّ، وعلى الرغم من ذلك سجّل العام التالي (العام 2017) زيادة في عدد ضحايا الرصاص الطائش، بحيث وصل عددهم إلى واحد وأربعين ضحيّة بين قتيل وجريح، وقد كان لمحافظة بعلبك- الهرمل النسبة الأكبر من عدد الضحايا بحسب معلومات قوى الأمن الداخليّ.
للسلاح المتفلّت في بعلبك- الهرمل مفاعيل خطيرة، تتمثّل بضحايا الرصاص الطائش الذي يطلق ابتهاجاً او حزناً، إضافة إلى ارتفاع وتيرة العنف عند نشوب النزاعات. تكرّرت هذه الحالات في المنطقة على مرّ السّنوات وفي كلّ مناسبة فرح أو حالة حزن. في العام الفائت أصيبت نورا جعفر وهي شابّة من بلدة تلّ أبيض في بعلبك، برصاصة طائشة في عامودها الفقري في أثناء إطلاق النار ابتهاجًا عند صدور نتائج الثّانويّة العامّة.
نورا جعفر لم تكن الضحيّة الأولى ولا الأخيرة للرصاص الطائش في بعلبك- الهرمل. علي شومان الذي فقد قوّة ساعده الأيمن برصاصة متفجّرة طائشة طالته في خلال إطلاق النار بسبب نزاع عائلي في بلدته سرعين، يقول لـ “مناطق نت”: “إنّني أحمّل المسؤولية الكاملةً للدولة التي أعتبرها شريكة في ما حصل”، معتبراً أنّها السبب في تسيّب الوضع الأمنيّ في المنطقة. وقد أكّد أنه لم يتمّ توقيف أو معاقبة مطلقي النار، على الرغم من أنّه قدّم إفادته للشرطة العسكريّة وقوى الأمن الداخلي.
قبل نورا وعلي، كانت حنان هاشم (17 عامًا)، والتي قضت جراء السلاح المتفلت، حيث كانت تتجوّل في سوق الهرمل. كانت حنان تقف عند باب صيدليّة عندما تلقّت رصاصة طائشة ظالمة اغتالت صباها، كان مصدرها إطلاق نار نجم عن خلاف بين عائلتين، تطوّر إلى اشتباكات مسلّحة، لطالما اعتاد عليها أهل بعلبك- الهرمل، كنتيجة طبيعية لانتشار السلاح المتفلت.
قُدّر لحنان أنّ تُقتل بالرغم من أنّ لا ذنب لها، سوى أنّها قدّرت أنّ سوق المدينة مكان آمن للتسوّق وشراء احتياجاتها، مثله مثل كلّ أسواق العالم، ليكون مشوارها إليه الأخير، وتسوّقها الأخير، في بلدٍ أصبح فيه التسيّب الأمني عادة إجتماعيّة وليس حالة استثنائيّة.
غياب الإحصاءات
لا توجد إحصائيّات رسميّة في ما يخصّ معدّلات الجرائم في محافظة بعلبك- الهرمل، ولكن ممّا لا شك فيه أنّ السلاح المتفلّت وغير الشرعيّ في منازل المدنيين، يؤثّر بشكل مباشر في ازدياد معدّلات الجريمة. وذلك لسهولة اقترافها مع توافر السلاح، وغياب الرادع القانونيّ، واستسهال المعالجة القانونيّة، مع جرم إطلاق النار. وقد تكون لذلك جوانب أخرى، منها التغطية السياسيّة للمرتكب، والتي تساهم في التملّص من العقوبة، وتصل إلى حدّ حمايته أحياناً. كلّ ذلك شجّع على انتشار السلاح المتفلّت وحدوث الجرائم وتهديد حياة الآمنين في كلّ الأوقات، حتّى بين أهل البيت الواحد.
لا يقف منسوب السلاح المتفلّت عند حدود حادث فرديّ أو آخر عابر، بل يتعدّاه في أحيانٍ كثيرة إلى اشتباكات عنيفة تحدث بين الحين والآخر، وتدور رحاها بين عائلات وعشائر، غالباً ما تستعمل فيها قذائف صاروخّية ومدافع رشّاشة، من دون أدنى اعتبار لوجود الدولة والمؤسّسات الأمنيّة.
وثائق ومعاهدات
من جهته، يؤكّد رئيس بلدية الهرمل صبحي صقر لـ “مناطق.نت”: “إدانتنا لجميع أنواع إطلاق النار، سواء في مناسبات الحزن أو الفرح أو غيرها”، ويحمّل صقر “الدولة مسؤوليّة السلاح المتفلّت في المنطقة، باعتبارها الجهة المعنيّة مباشرة بهذا الأمر”، مطالبًا بفرض العقوبات. وبسؤاله عن الإجراءات المتّخذة في المنطقة أشار صقر إلى “قيام بعض العائلات والمجموعات في منطقة الهرمل- وبالتواصل مع شرائح المجتمع- كافّة بمبادرات عدّة للتخفيف من وطأة هذه الظاهرة، حيث كانت النتائج إيجابيّة وخاصّة بعد تعميم هذه المبادرات على وسائل التواصل الاجتماعيّ، بالإضافة إلى رفض بعض العشائر والعائلات الكبرى في المنطقة إطلاق النار العشوائيّ في مناسبات الحزن، وكان ذلك عبر توقيع وثيقة وتعهّد بذلك”.
ويختم صقر بتأكيد رفضه التام لظاهرة إطلاق النار في أيّة مناسبة، “يجب أن يكون السلاح موجّهًا فقط نحو العدوّ، وفق آليّة منظّمة ومعتمدة من الدولة. إنّني أناشد جميع أطياف المجتمع تحمّل المسؤوليّة الذاتيّة ونشر التوعية”.