“بيروت سمير قصير” بعيون “روني شطح”

لا أظنّ أحدًا، في التاريخ اللبنانيّ الحديث أو القديم، استطاع تبسيط الجغرافيا المُركّبة لمدينة بيروت ومسارات تحوّلها عبر العصور كما ينبغي، لا في المدارس ولا في أيّ مراجع تربويّة، فالتلامذة يعرفون الحروب التي عصفت بالبلاد، وقلّة من رواها بأسلوب حكواتيّ ممتع. وحده سمير قصير حاول ذلك في كتابه “تاريخ بيروت”، على الرغم من أنّ العمل صِيغَ بلغةٍ أكّاديميّة كتبها مؤرِّخ شابّ متأثّر بالعروبة كما يراها وبفلسطين وسورية.
اليوم يبرز إعلاميّ شابّ هو روني شطح، اختصر تاريخ العاصمة في جولةٍ مدّتها أربع ساعات بعنوان Walk Beirut – “بيروت سيرًا على الأقدام”. روني المعروف ببودكاست “The Beirut Banyan” وبتجربته على شاشة MTV في برنامج “MTV Podcast” ، دأب على هذا المشروع منذ أكثر من خمسة عشر عامًا وتوقّف قليلًا إبّان الأزمة.
عاد روني هذا العام، ضمن “مهرجان ربيع بيروت”، المنظّم من قبل مؤسّسة سمير قصير، ليُهدي جولةً تحيّةً إلى روح سمير قصير، فخصّص ساعةً ونصف الساعة من برنامجه لاستعادة بعض معالم وسط المدينة التي شهدت حقبًا متعدّدة منها رومانيّة ومنها عثمانيّة، رابطًا إيّاها بالواقع السياسيّ الراهن وبانهيار الاقتصاد. ومن خلال ذلك، يُظهر شطح كيف يرى مدينةً تتقاطع فيها الذاكرة مع الحاضر. مؤكّدًا حاجتنا، نحن وأبناؤنا والأجيال اللاحقة، للتعرّف إلى بيروت بأسلوبٍ سلس وممتع. هذه هي “بيروت سيرًا على الأقدام”؛ مشروع روني شطح لإحياء الذاكرة المدينيّة.

فنّ الحكاية
يشرح روني شطح عمّا يميّز جولة “سيرًا في بيروت” عن سائر الجولات التاريخيّة في المدينة فيقول: “لا أدّعي امتلاك امتيازٍ حصريّ، لكنّ ما يختلف في جولتي هذه، هو تركيزي على فنّ الحكاية لا على سردٍ زمانيّ جافّ”. يتابع لـ “مناطق نت”: “أحرص على نسج الوقائع في قصصٍ قصيرة، تجعل المشاركين متشوّقين للمحطّة التالية، مضافًا إليها عناصر من المتعة والخفّة إلى أحداثٍ قد تبدو ثقيلة”.
يضيف “على مدى 20 عامًا تعلّمت أن أُبقي القصّة متدفّقة، بدءًا من تاريخ القرون الغابرة حتّى تاريخ ثورة 17 تشرين من العام 2019 من دون فجواتٍ مملّة، وهذا سرّ نجاح الجولة واستمرارها.”
وعلى رغم أنّ هذه المقاربة السرديّة، يصعب فيها فصل التجربة عن البُعد الرمزيّ لاسم الجولة “بيروت سمير قصير”، وما تحمله من إشارات، لذا يوضح روني أنّ الجولة “تستعيد شغف سمير قصير بالغوص في تاريخٍ لبنانيّ معقّد، بلا اعتذارٍ عن تناقضاته أو تعقيداته، أبدأ من محطّاتٍ تسبق حديقة سمير قصير، وأختتم في ساحة الشهداء، حيث يتقاطع حُلم انتفاضة العام 2005 مع روح ثورة 17 تشرين 2019. بهذا المسار نُحيّي كاتبًا امتلك جرأة مواجهة “الكابوس الأمنيّ” الذي قتله، فنُظهر كيف تحوّلت رؤاه إلى ذاكرةٍ حيّة عن الحرّيّة والسيادة”.
روني: من خلال هذه الوقفة أقاوم النسيان، وأذكّر الجميع بأنّ الفاتورة التي دفعها قصير كانت ثمنًا لجرأته. هذه الجولة هي تحية متواضعة لرجلٍ انغمس في كتابة مستقبلٍ أكثر عدالة
بين الأمكنة والذاكرة
يثير التداخل بين الأمكنة والذاكرة تساؤلات عميقة حول الدور الفعّال الذي تلعبه في تشكيل سرديّة التاريخ الجماعيّ، خصوصًا في ظلّ كون التاريخ ذاته موضوع نزاع دائم. وفي هذا السياق، يُشير روني إلى الأثر الذي تتركه هذه الجولة في الذاكرة الجمعيّة للحرّيّة والعدالة في لبنان، “لقد اتّخذت قرارًا بعدم تجاوز جريمة اغتيال سمير قصير، إذ تنتهي الجولة عند مكان التفجير الذي أودى بحياته، لأنّ الحديث عن شخصيّته كصحافيّ دون الإشارة إلى سبب استشهاده يعدّ انتقاصًا من الحقيقة”.
يتابع روني “من خلال هذه الوقفة أقاوم النسيان، وأذكّر الجميع بأنّ الفاتورة التي دفعها قصير كانت ثمنًا لجرأته. هذه الجولة هي تحية متواضعة لرجلٍ انغمس في كتابة مستقبلٍ أكثر عدالة، وامتداد لعمل زوجته الراحلة، الإعلاميّة جيزيل خوري، وكلّ من سعى إلى الحفاظ على أثره.”
وبينما تأخذ ردود فعل الجمهور المرافق في الجولة حيّزًا أساسيًّا من التجربة، بما تحمله من اختلاف وتنوّع، تتقاطع الذاكرة الفرديّة مع الجماعيّة، بما تحمله من مداخلات أهمّها ملاحظات وذكريات يشاركونها عند مرورهم مع روني بحيّ معيّن، يعلّق روني “الجولة تكشف للمشاركين أحياءً أُعيد تشكيلها، أو طُمست معالمها، وأرشيف الشتات يسترجع شوارع مُحيت إبّان الحرب، ثمّ خضعت “للتعقيم” العمرانيّ”. ويشير روني إلى أنّ التعليقات تختلف من جيل إلى جيل، “فكبار السنّ يستعيدون بيروت الستّينيّات، بينما يرى الشباب في الأماكن ذاتها ساحاتٍ للاحتجاج”.
استعادة المكان وصياغة التاريخ
الجولة بهذا المعنى ليست مجرّد استعادة للمكان، بل إعادة صياغة للتاريخ من خلال نظرات المشاركين المختلفة، ومن بين أكثر ما يُطرح خلال الجولات، تساؤلات حول واقعنا اليوم، وانعكاس هذا التاريخ على الأزمة التي نعيشها.
تناول شطح في جولته المحطّات الاقتصاديّة المهمّة التي مرّت بها البلاد، وبخاصّة بعد العام 2019، وهو عام ثورة 17 تشرين. خلال الجولة، يوضح روني للمشاركين العلاقة بين الأزمة الاقتصاديّة والأوضاع السياسيّة التي كان سمير قصير ينتقدها. ويشير إلى أنّه “ليس من السهل ربط الأزمة الماليّة الحاليّة بمقالات قصير، لأنّها تتجاوز مجرّد فترة الانهيار. لكنّني أستعيد من كتاباته تشكيكه المبكّر في اقتصاد يعتمد على الاقتراض، والفكرة الخاطئة عن السلام الاقتصاديّ في التسعينيّات”.
يضيف روني “كان قصير يعتقد أنّ الصحافي الذي يسعى إلى الحرّيّة يجب أن ينظر بعناية إلى السلطة، حتّى وإن اتّفق معها في بعض الأمور، وواجهها في أخرى. بمقدار ما كان يحارب الهيمنة السوريّة، انتقد أيضًا هيكلًا اقتصاديًّا ضعيفًا ساهم في ما نراه اليوم. من هنا، أوضح للمشاركين أنّ الأزمة الحاليّة ليست مفاجئة، بل هي نتيجة مسار حذّر منه قصير منذ عقدين.”
وفي نهاية الجولة، يبقى السؤال مفتوحًا: “هل نُعيد سرد القصص من أجل الأرشفة فقط؟ أم لأنّنا نؤمن أنّ الذاكرة قادرة على تشكيل وعي سياسي جديد؟”.