دارين دلّول صامدة في علي النهري بنور عينيها المنطفئ
“باقيةٌ، باقيةٌ، باقيةٌ… لن أترك منزلي، ولن أُهجّر نفسي، ولن أنزح إلى أيّ مكانٍ في لبنان، وسأبقى أقاوم بصمودي تحت سقف بيتي الذي هو وطني حتّى النّفَس الأخير”. هي ابنة بلدة علي النهريّ البقاعيّة دارين دلّول الرافضة للخروج من بلدتها حيث الغارات الإسرائيليّة الوحشيّة تنهال عليها، حاصدة الأرواح والمنازل، ناشرة الدمار والرعب في كلّ مكان.
دارين الفاقدة لأبويْها تعيش مع شقيقتها عُلا في منزل والديهما صامدتيْن على رغم خلوّ بلدتهما من حوالى 95 في المئة من سكّانها، ممّن نزحوا وتوزّعوا في مختلف مناطق البقاع الآمنة.
تروي دارين لـ “مناطق نت” تفاصيل يوميّاتها فتقول: “أختي هي أبي وأمّي وكلّ حياتي، تتولّى تأمين احتياجاتنا اليوميّة من مأكل ومشرب وأدوية، كل ّذلك تحت أزيز الطائرات ورعب الشوارع الموحشة، لخلوّها من الناس باستثناء قلّة من المحال التجاريّة التي توفّر بعض المواد الغذائيّة”. تتابع دارين “أحيانًا تضطرّ أختي إلى الذهاب نحو بلدة رياق المجاورة الآمنة بعض الشيء، سيرًا على الأقدام لتأمين النواقص، أمّا أنا فأقوم ببعض الخدمات البسيطة في المنزل عن طريق التلمّس، طبعًا لا أستطيع الاستغناء عن عكّازي علا أختي”.
المقاومة الروحيّة
صامدةٌ دلّول في منزلها بكلّ ما أوتيَت من إرادةٍ وعزيمةٍ على المقاومة “الروحيّة” التي هي أسمى مراتب المواجهة والتحدّي لتحقيق بقاء الجسد واستمراريّة الحياة بجدارة كما تقول لِـ “مناطق نت”. فالمقاومة عندها ليست فعلًا عسكريًّا فحسب، بل هي تجسيد لحال روحيّةٍ داخليّةٍ تعكس توازن الإنسان بكلّ تجلّياته المكوِّنة لكينونته كي تجعله قابلًا للحياة على حدّ تعبيرها.
“منذ اليوم الأوّل للعدوان على البقاع اتّخذت قراري بأنّني سأكون مقاوِمةً بقناعةٍ، انطلاقًا من مبدئي الفكريّ في أنّ الإنسان المرتبط بمكانه قادر على الصّمود وإن كان وحيدًا، فالمعركة هي مع الذات، أوّلًا، حتّى تخرج إلى مواجهة الأعداء، وعندها يصبح الانتصار مسألة زمنٍ فقط”، تُعبّر دارين.
عينايَ لم تمنعاني من الصمود
لا ترى دارين دلّول الشّابّة الثلاثينيّة بعينيْها منذ ولادتها، لم يمنعها ذلك من أن تدخل إلى المدرسة وتتابع تحصيلها العلميّ حتّى المرحلة الجامعيّة، وتكون حاضرةً في ميدان الحياة. “لقد حُرمتُ نعمة البصر وأنعم الله عليّ بنعمة البصيرة، لذلك أنا صامدة في هذه المحنة التي نمرّ بها، وعينايَ لم تمنعاني من الصمود في بيتي حتّى هذا اليوم على رغم الخطر الكبير المحدق ببلدتي، إذ تُغير عليها طائرات الموت الإسرائيليّة كوجبة دائمة كلّما استهدف البقاع.”
تضيف دارين: “لم أضعف بسبب وضعي الخاصّ، ولم أخَف من الموت قتلًا بصواريخ العدوّ، بل إنّني قويّة ببصيرتي لا ببصري، كوني أرى بها القوّة والإقدام والتحدّي، وهي الأساس في الصمود والثبات ومنح الذات طاقة من عالمٍ آخر. هذا ما جعلني أقوى من أيّ إنسانٍ يمتلك القوّة الكاملة وقد لا يستطيع الوقوف أمام الشدائد والمحن. فليس الكمال إلّا بقدرة العقل على توجيه النفس نحو النجاة حتّى من الموت بغير قضاء الله”.
الكتابة بحبر الصمود
دلّول التي تعتنق الكتابة الفكريّة كتعبيرٍ عن هواجس النفس وخواطر الوجدان منذ نعومة أظفارها تكتب اليوم، من وحي المحنة التي تحلّ بالوطن والمواطنين وتبثّ في كلماتها أنين الجراح وعبق التحدّي، تقول: أنا أكتب بحبر الصمود لا بحبر القلم، فقلمي صورة عنّي وعن موقفي ممّا نحن فيه. أستعين به لتجسيد ما أختزنه بداخلي من قوةٍ وصمودٍ في منزلي العاري من الأمن، والمعرّض للقصف بين فينةٍ وأخرى”.
دلّول: أنا أكتب بحبر الصمود لا بحبر القلم، فقلمي صورة عنّي وعن موقفي ممّا نحن فيه. أستعين به لتجسيد ما أختزنه بداخلي من قوةٍ وصمودٍ في منزلي العاري من الأمن، والمعرّض للقصف بين فينةٍ وأخرى
وتقول:
لح إبقى هوْن مهما طال هالظلم
هُزّ الحبق تا شمّ
عطر تراب جنينتنا
متل الأرز لح ظلّ
متمسّكي بهالأرض
مهما يطول عتم الليل بضيعتنا.
“لن أبارح مكاني لأنّني متجذّرة في أرضي كالصباح الذي يشرق من خلف جبلنا الشرقيّ ويُفرد على سهل البقاع جناحات ضياءه حتّى صار جزءًا من انتمائي إلى هذا المكان…”
بيتها مكانها وزمانها وهويّتها التي لا تملك في الدنيا إلّاها كما تؤكّد. “وهل يتخلّى المرء عن هويّته مهما كان الثمن؟ وهل يَسلخ الإنسان ذاته عن ذاته فيصبح بلا انتماء وبالتالي بلا وجود؟”. وتضيف “أنا من هالأرض ومن ترابها، ولح إبقى هون مُوت وعود لترابها. وما بدّي موت بمكان تاني وصير أشلاء بهوا مش هوا ضيعتي.”
اشتقت إلى قهوة أمّي
شوْق دارين دلّول لوالدتها التي فقدتها، يهيمن على خوفها ويتجاوزه إلى أبعد من النجاة من الموت. فهي معتادة على قهوة أمّها كلّ صباح، وعلى لمسة يدها على خدّيها كلّما احتاجت إلى عون. هي اليوم فاقدة أكثر منها خائفة، فقهوة الصباح قتلها رعب المكان الذي اغتال فيها الأمان والطمأنينة.
لذلك تقول:
ما لي أشمّ، اليوم، عطرًا خجولًا
في لحظاتٍ يأتي ويخترق أنفاسي
ويُنعش أوراقي اليابسة منذ أيلول
ويأخذني من نومي وسُباتي
هي، حقًّا، قهوة أمّي الحنون
ودفؤها يلهبُ عبقَ صباحاتي
حلوٌ مذاقها نادرُ الطّعمِ
وطيبُ الحديثِ في مجلسها يطول.
“أنا أوراق عمري يَبِست باكرًا منذ أيلول الذي أتانا مضمّخًا بدماء الأبرياء، حيث لم يعد لنا أمنُ ولا أمان. وزاد في آلامي آلامًا أداويها بالصبر وهو خياري الأوّل والأخير، إذ بات الموت يأتينا كلّ ساعة، بل في كلّ وقتٍ، لكنّني أواجهه بروحي العصيّة على قتل العدوّ لنا حتّى وإن اغتال جسدي.”
تفضفض دلول كلماتها لتملأ بها فراغ منزلها الذي لا يزال يحتوي على قلمها واوراقٍ ودفترٍ وشقيقةٍ تُعينها على تدوين ما يجيش به وجدانها المعتصر ألمًا وصمودًا وحياةً بحسب ما تختم.