“علبة سجائر قديمة” للبعلبكي أحمد شيبان توقظ الذاكرة وتفوز

سيجارة واحدة كانت كفيلة بإيقاظ ذاكرة نائمة، بإرشاد صاحبها إلى جارور منسيّ، تختبئ فيه بقايا سنوات مضت: قصاصات ورق، صور باهتة، و”علبة سجائر قديمة” تنبعث منها رائحة الزمن الغابر. من هناك، يبدأ رحلة استرجاع حميميّة إلى أيّام الشباب والمراهقة، إلى مقاعد الدراسة ورفاق الزمن الأوّل، إلى حياة مضت، لكنّها لا تزال تتنفّس في زوايا الذاكرة.

“علبة سجائر قديمة” قصّة قصيرة لا تتجاوز السبع صفحات، للكاتب أحمد شيبان، نالت المركز الأوّل ضمن جائزة “أوسكار المبدعين العرب” عن فئة القصّة القصيرة، ومن المقرّر أن تُنشر ضمن مجموعة تضمّ أفضل عشر قصص. كذلك سيُقام مهرجان رسميّ في القاهرة لتكريم الفائزين. شيبان ابن مدينة بعلبك يشقّ طريقه الأدبيّ بخطى ثابتة، عبر مجموعة من الأعمال الأدبيّة، كان أبرزها مجموعته القصصيّة الأولى “قناع واحد لا يكفي”، التي تضمّ 18 قصّة قصيرة كتبها في سنّ العشرين، بالإضافة إلى روايته “كندة بعلبك” الصادرة في العام 2020.

حكاية من رماد سيجارة

تبدأ القصّة هناك، على شرفة هادئة، حيث يجلس البطل، يحمل سيجارةً في يد وهاتفه المحمول في يده الأخرى. إلى أن يسقط رمادٌ من سيجارته، ويميل مسرعًا لالتقاطه، فتهوي من يده الأخرى لحظة صغيرة، ويقع الهاتف.

من هذا التفصيل البسيط، يأخذنا الكاتب في مشهد يتتابع بخفّة، من الشرفة إلى الشارع، من تفقّد الهاتف إلى محاولة إنقاذ الشريحة، ثمّ إلى رفّ قديم يحمل هاتفًا من زمن آخر، ما إن يعثر عليه، حتّى ينفتح له باب لم يكن في الحسبان، باب ذاكرة غافية، وحساب “فيسبوك” قديم، يعيد إليه صورًا ورسائل ومشاعر اعتقَد أنّه نسيها. رحلة تبدأ من حادثة عابرة، وتمتدّ في الداخل، حيث الحنين لا يزال حيًّا، ينتظر شرارة صغيرة ليشتعل من جديد.

هذا هو واقع الحال: كلّ هاتف قديم يحتفظ في داخله بصور ومحادثات لم تنتهِ، بل تجمّدت في الزمن، بانتظار اللحظة المناسبة للعودة. في القصّة، تترافق عمليّة استرجاع الذكريات مع السيجارة التي تصبح رفيقة البطل في رحلته مع الحنين. سيجارة تلو أخرى، وذكرى تلو ذكرى، تنبعث من رمادها صور من حياته المدرسيّة، صداقاته القديمة، علاقاته العاطفيّة، وكلّ ما شكّل ملامح حياته السابقة.

يجد نفسه أمام مقارنة صامتة بين ما كان، وما أصبح عليه الآن. بين ماضٍ لا يزال ينبض في ثنايا ذاكرته، وحاضرٍ يبدو غريبًا عنه.

محاكاة للواقع اليوميّ

طوال القصّة تنساب الأحداث بهدوء يشبه التيّارات الخفيّة في ذاكرة البطل، حيث الضجيج الحقيقيّ يكمن في داخله. ذاك الضجيج الذي لم يكن من نصيبه وحده، بل من نصيبنا أيضًا نحن القرّاء، فبحسب شيبان “القصّة تحاكي قصّة كلّ الناس في لحظة استرجاعهم لذكرياتهم، واختلاف تفاعلهم معها”، إذ إنّها ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالواقع اليوميّ الذي نعيشه جميعًا.

تشكّل المشاعِر المحرّك الأساسيّ في القصّة، ينقلها الكاتب بعفويّة وصدق، إذ إنّ الحدث بحدّ ذاته بسيط جدًّا، لكنّه يحمل البطل نحو مرحلة سابقة من حياته، مليئة بالأحداث والذكريات.

يمزج أحمد شيبان بين الأسلوب السرديّ، الذي يُعدّ ركيزة أساسيّة في الفنّ القصصيّ، والأسلوب الوصفيّ الذي يستخدمه عند الحاجة، بما يخدم بنية النصّ ويُبرز الحال الشعوريّة للشخصيّة. يعتمد على جمل إنشائيّة تمنح النصّ طابعًا مشهديًّا، كأنّ القصة تتحوّل إلى شريط بصريّ تتجسّد فيه الشخصيّات والأحداث والتفاصيل، في توازن يجعل من النصّ تجربة حسّيّة وعاطفيّة في آن.

أمّا من حيث المبنى، فتنثال كلمات القصّة بلغة سهلة وبسيطة، بعيدة من التكلّف والمصطلحات الأدبيّة الثقيلة التي ربّما تحتاج أحيانًا إلى معجم. لا يجهد القارئ نفسه في فكّ المعاني أو تأويلها، إذ إنّ الوضوح هو السمة الغالبة على النصّ.

أمّا في المعنى، وكما أشرنا سابقًا، فالقصّة تنقل مشهدًا واقعيًّا مصاغًا بأسلوب أدبيّ فنّيّ، يترك للقارئ متعة التقدّم نحو النهاية واكتشاف الرابط بين التدخين والذكريات، وعمليّة الاسترجاع التي تتسلّل بهدوء بين السطور.

جائزة “أوسكار المبدعين العرب”

“جائزة أوسكار المبدعين العرب”، التي نشأت في مصر وتُعنى بالمواهب من مختلف أنحاء الوطن العربيّ، تتميّز برعايتها الرسميّة من وزارة الشباب والرياضة المصريّة، وزارة الثقافة اللبنانيّة، جامعة الدول العربيّة، اتّحاد الكتّاب اللبنانيّين، إضافة إلى عدد من البلديّات والأندية الثقافيّة والمؤسّسات الإعلاميّة من لبنان ومصر وسائر البلدان العربيّة.

يشير أحمد شيبان في حديثه إلى “مناطق نت” إلى أنّ قصّته “علبة سجائر قديمة” عُرضت على لجنة تحكيم مؤلّفة من 13 كاتبًا ومتخصّصًا في علم النفس من بلدان عربيّة عدّة، فنافست ضمن فئة القصّة القصيرة وسط آلاف المشاركات من دول مثل تونس والمغرب والجزائر والعراق والسعودية وسوريا ولبنان ومصر.

بهذه البساطة، تتحوّل سيجارة وهواء شرفة إلى مدخل لذاكرة لم تنطفِئ. لا حدثًا كبيرًا ولا حبكة معقّدة، بل لحظة عابرة تُشعل سلسلة من الذكريات، وتُعيد تشكيل صورة الذات كما كانت، ومثلما أصبحت. “علبة سجائر قديمة” ليست مجرّد قصّة قصيرة، بل مرآة لكل من عاد يومًا إلى رسالة منسيّة أو صورة باهتة، واكتشف أنّ الماضي لا يُمّحى، بل ينتظر بصمت لحظة استدعائه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى