عميد المفقودين محمّد طعان نصرالله 46 عامًا على الغياب
في الثلاثين من آب (أغسطس) من كلّ عام يُحيى العالم ومعه لبنان “اليوم العالميّ للمفقودين والمخفيّين قسرًا” الذي جعلته الأمم المتّحدة يومًا خاصًّا لإدانة هذه الجريمة. في رحاب هذه الذكرى الأليمة التي يتذكّر فيها لبنان 17 ألف مفقودًا لم يُعرف مصيرهم أو شيئًا عنهم حتّى الآن، تحضر قضيّة ابن بلدة شمسطار البقاعيّة محمّد طعّان نصرالله، كأقدم مفقودٍ لبنانيٍّ، إذ مضى على فقدانه 46 عامًا كانت كفيلةً أن تجعل من غيابه مأساةً لا يزال أهله يعيشون فصولها حتّى اليوم.
تاريخ ومكان الاختفاء
في شهر آبٍ من العام 1976 انطلق نصرالله وبرفقته أربعةٌ من أفراد عائلة زوجته من بلدة سكنه تعلبايا في البقاع متوجّهًا إلى العاصمة بهدف تسجيل سيارةٍ في مصلحة تسجيل السيّارات في منطقة الدكوانة ببيروت حيث كان موظّفًا هناك، ولدى وصوله إلى محلّة دير زنون فُقد أثره مع سيارته ومع من كانوا برفقته. قلِق أهله عليه وراحوا بدايةً يسألون عنه في مشافي المنطقة ومراكز القوى الأمنيّة فيها. وبعد أن تلقّوا أجوبةً سلبيّةً بدأوا يتّصلون بقيادات الأحزاب اللبنانيّة التي كانت موجودةً في تلك الحقبة، كون الحرب الأهليّة كانت في بدايتها وفي أوج اشتعالها، إلّا أنّهم لم يحصلوا على جوابٍ يثلج قلوبهم ويطمئن بالهم.
قصّة المفقود نصرالله التي يرويها شقيقه عبّاس لـ ِ”مناطق نت” لم تنتهِ هنا، بل وكما يقول شقيقه إنّ والدته وبعد أن طرقت أبواب القيادات الحزبيّة والسياسيّة والأمنيّة اللبنانيّة كلّها للكشف عن مصير محمّد وكانت دائمًا تعود خائبةً، قرّرت أن تطرق أبواب المرجعيّات الدينيّة “لعلّها تسمع جوابًا يطفىء نار قلبها لا سيّما وأنّ أخي لم يكن في حينه يتجاوز الـ 26 عامًا”.
اهتمام موسى الصدر
يتابع عبّاس أنّ والدته زارت السيّد موسى الصدر الذي كان يرأس آنذاك “المجلس الإسلاميّ الشيعيّ الأعلى” وكانت تربطه علاقةٌ وثيقةٌ بسوريّا، من أجل سؤال القيادات السوريّة عن مصير ابنها “إذ حصلت حادثة الاختفاء بعد أشهرٍ من دخول القوّات العربيّة السوريّة إلى لبنان، فلبّى السيّد طلبها وحمّلها كتابًا كي تسلّمه إلى أحد القياديّين في سوريا. حملت أمّي الكتاب وذهبت إلى الشّام لكنّها فوجئت بجواب النفي وعدم معرفة شيءٍ عن الموضوع، على حدّ ما أجابها القياديّ السوريّ.”
لم تستسلم والدة محمّد نصرالله إلى الواقع ولم تستكن عن البحث والسؤال والتفتيش عن فلذة كبدها بعدما فقدتها بين ليلةٍ وضحاها، بل بقيت تزور وتقصد وتسأل كلّ من يمكن أن يعرف شيئًا عن ولدها البكر، كما يؤكّد ابنها عباس الذي يقول “إنّ والدتي لم تكن تنام الليل ولم تكن تهدأ في النهار وبقيت على هذه الحال عشرات السّنين إلى أن تمكّنت في السنوات الأخيرة من لقاء أحد المسؤولين الحزبيّين النافذين الكبار الذي وعدها خيرًا، لنكتشف في ما بعد أنّ أخي ليس غاليًا إلّا علينا وكلّ الوعود ذهبت أدراج الريح”.
زيارة الصليب الأحمر
ويشير عباس إلى أنّ فريقًا من الصليب الأحمر اللبنانيّ زارهم في العام ٢٠١٩ بهدف أخذ عيّناتٍ من أجسادهم لإجراء فحص الحمض النووي الـ “دي إن أي” “فاستبشرنا خيرًا، وعلّقنا آمالًا كبيرةً معتقدين أنّ الصليب الأحمر لديه معلومات عن مصير أخي. أخذوا العيّنات وقالوا لنا إنّهم يتحضّرون مسبقًا، لأيّ مستجدٍّ عن مصير أخي، وألّا معلوماتٍ مؤكّدة عنه آملين الوصول إلى الحقيقة وكشف ملابسات القضيّة”.
لم تستسلم والدة محمّد نصرالله إلى الواقع ولم تستكن عن البحث والسؤال والتفتيش عن فلذة كبدها بعدما فقدتها بين ليلةٍ وضحاها، بل بقيت تزور وتقصد وتسأل كلّ من يمكن أن يعرف شيئًا عن ولدها البكر
ابنة المفقود الوحيدة
“كان عمري بضعة أشهرٍ حينما فُقد والدي، ولم أكن مدركةً لشيءٍ حتّى سنّ الوعي الطفولي، فبدأت أشعر بأنّ كلمة بابا لفظها فطريّ كباقي الأطفال، وأنا حين أنطقها لم أكن لأجد المنادى، لأنّه مسافرٌ كما كانوا يقولون لي كي لا أشعر باليتم” تقول رانيا ابنة المفقود محمّد نصرالله الوحيدة والغصّة تخنقها، وتردف: “فأنا حُرمت من والدي قبل أن أعرفه أو أضع يديّ على صدره وألعب معه كحقٍّ من حقوقي الإنسانيّة التكوينيّة في الحياة”.
وتضيف لِـ “مناطق نت”: “عندما كبرت وأصبحت مدركةً بتفكيري عرفت الحقيقة المرّة فتقبّلتها على غَصَصٍ محتسبةً إلى الله، صابرةً على ابتلاءٍ لم أختاره، معاهدةً والدي حيثما كان بأنّني سأخطّ سبيل الحياة كما كان يحلم، وها أنا نلت شهادة الماجستير في الأدب العربيّ وأعمل مدرسّة”.
تتابع رانيا: “إنّ فقدان الأب في الحياة صعبٌ جدًّا ومؤلمٌ حتّى الصميم لأنّه يشكّل العضد القويّ بالنسبة إلى الفتاة، وهو الملجأ والحصن الذي يحميها من أهوال الدهر والزمان لا سيّما إذا كانت وحيدةً مثلي، ولكن ما يواسيني ويخفّف عنّي ألمي هو عيشي مع بيت جدّي الذين أحاطوني بالرعاية والاهتمام والمحبّة منذ صغري وعوّضوني حنان الأب باحتضانهم لي في كل ما أحتاجه، حتّى صاروا أبي وأمي وأخي وكلّ ما أملك”. وتؤكّد أنّ أملًا دائمًا في قلبها وتفاؤلًا لا يفارقها “بأنّه سيأتي يوم أو لحظة وأحضن فيها والدي بعد ان أفتح له باب الدار”.
أخبروني في قبري
والدة المفقود محمّد نصرالله التي رحلت عن الدنيا منذ سنواتٍ قليلةٍ بقيت تردّد اسم ولدها محمّد وهي على فراش الموت، وتقول بأنّه لا يزال على قيد الحياة وهو في مكانٍ بعيدٍ “لكنّه قريب من قلبي وأشعر بأنفاسه على الدوام، وبين لحظةٍ وأخرى سيدقّ باب المنزل وينادي: أنا جيت يا أمّي. وإذا إجا بعد موتي زوروني في قبري وأخبروني”. كان هذا “آخر كلامٍ لجدّتي قبل رحيلها” تختم حفيدتها رانيا محمّد نصرالله.