عندما يكون الجدار لسانًا ثرثارًا
ماذا لو يكفّ الجدار عن أن يكون جدارًا؟ ماذا عندما يتحوّل الجدار إلى أن يكون مساحة شاسعة لفضّ الانفعالات، وخريطة مباشرة أو مواربة لِما يعتمل في داخل الأفئدة والأذهان؟
منذ سنوات طوال كفّ ذلك الجدار الممتدّ على طريق ما يُعرف بأنفاق المطار عن أن يكون محض جدار بالنسبة إليّ. كلّما أمرّ من هناك أكثر ما يناوش ذهني أنّني بصدد جمع غفير من الألسن التي تتناوب على الجدار.
في قصّة “الجدار” يخبرنا جان بّول سارتر عن النظر بعين قاسية، عن تلك المباغتة العنيفة التي غالبًا ما ترافق تبادل النظرات. لطالما حسبت أنّني وجدار الأنفاق ذاك محلّ تبادل لنظرات قاسية و”الأنكى” أنّ ذلك الجدار لم يكن مرّةً واحدة محايدًا إزاء علاقته بعينيَّ.
… “حبيبتي يا زينب”… “أولاد الجبل مرّوا من هنا”… “دمي فداك يا رسول الله”… “…فيكِ وبإختِك وبالمسرحيّة!”… “يا ريت بسوق طيّارة” وغيرها كثير من العبارات التي تشي أن ذلك الجدار الضخم هو في بعض تعيّناته مأربًا لأصحاب هذه العبارات.
ثمّة كثير من الشتائم ومن الأدعية والصلوات، ومن أرقام الهواتف ومن الأسماء والألقاب والأخبار، حتّى ليقع بي الظنّ أنّ جدار أنفاق المطار هو الخبر الأعظم، الذي يتنكّر خلف كلّ هذه الأخبار.
براثن فكرة
تدفعني تلك الرغبة العارمة لتتبّع كلمات ذلك الجدار إلى الوقوع في براثن فكرة مفادها أنّ هذا الجدار الطويل هو تكثيف جمّ من انفعالات ومشاعر “وفشّات خلق” أولئك المجهولين الذين يدوّنون تلك الكلمات.
إنّه جدار لبنانيّ بامتياز، يحمل شبح انتماءات الماضي وفجيعة الحاضر، وكثير الكثير من سوداويّة ما سيلي من أيّام. هو جدار شديد المتانة والصلابة، وربّما صلابته تعود إلى صراحة بل بساطة تلك الكتابات، فالعابر قرب هذا الجدار يلمح عبر تلك المدوّنات المنتشرة فوقه بكثافة، صدق القلق وصلابة اليقين، ندم الانفصال وعشق الرجوع، راية النصر وسخريّة الهزيمة، حبّ الوطن وعدم أخذ هذا الوطن – للأسف الشديد- على محمل الجدّ.
في بعض تجليّاتها تبدو الكلمات “المزتوتة” هناك وكأنّها أوشام للتدليل على وجود جسد يتّخذ في تلك المساحة صيغة جدار.
رسوم ترافق كلمات
… “تركتِك قبل ما تتركيني…” مع وجه مبتسم، … “أنا ومن بعدي الطوفان” تتقدّمها شارة النصر، و”لا تلحقني مخطوبة” مع رسم شديد الضبابية واللاوضوح. نحن هنا إزاء وهم احتواء الذات عبر رسم صورة محدّدة عن هذه الذات فوق جدار الأنفاق.
إنّه جدار لبنانيّ بامتياز، يحمل شبح انتماءات الماضي وفجيعة الحاضر، وكثير الكثير من سوداويّة ما سيلي من أيّام. هو جدار شديد المتانة والصلابة، وربّما صلابته تعود إلى صراحة بل بساطة تلك الكتابات
ثمّة عبارات أخرى نكون حيالها رهن العزلة، أو رهن الفرار وصولًا إلى اللامبالاة. بعض كلمات جدار أنفاق المطار هي أنفاق بدورها، كلمات أخرى تنمّ عن أنّها الجدار، فضلًا عن بعض الكلمات التي توقظ تلك الرغبة بالقفز من فوق كلّ الجدران في العالم، وليس فقط جدار أنفاق المطار.
فضلًا عن كونها كيانات مؤلّفة من تراصف الحروف والكلمات، بعض عبارات ذلك الجدار هي أقرب إلى العيون، إلى النظرات الزائغة أو النظرات المركّزة، بالإضافة إلى نظرات أخرى أقصى ما تستجدي التلويح للمارّ من هناك. عبارات تتشامخ بأبّهة وغلوّ، وأخرى لا تُقرأ إلّا بالهمس. عبارات تتراوح بين الحمق والذكاء، وأخرى لبنانيّة جدًّا تتراوح بين “الحربقة” و”كيف ما تْزتّو بيجي واقف” و”شوفة الحال”!!
بين محمود درويش و… “طزّ”
لا أحسب أنّ الجدار في هذا السياق هو واقعة محايدة إزاء كلّ تلك الكلمات التي تتسلّق ذلك الجدار، بل تراه وعبر بعض “نتعات” الكلام أقرب إلى واحة مجاملة أو واحة احتضان منتصبة على جانبي الطريق، واحة أنس تحتضن أصحاب تلك الكلمات.
…”على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة” (محمود درويش). أمام هذه العبارة مباشرة وبخطّ آخر كلمة “طز”. لا أظنّ أنّ ثمّة من يستطيع الموازاة بين عبارة الشاعر الفلسطيني وكلمة “طزّ” ما خلا جدار أنفاق المطار.
في كتاب “لذّة النصّ” يقول الفيلسوف الفرنسيّ رولان بّارت، إنّ النصّ هو (وعليه أن يكون) ذلك الشخص اللامبالي الذي يعرّي مؤخرته في وجه الأب.
لطالما تمثّلتُ رولان بّارت مارًّا قرب جدار الأنفاق ذاك، وفي البال على الدوم عبارته تلك، إذ ثمّة صفعٌ مدوٍّ لوجه الأب عبر بعض الكتابات “المتطاوسة” فوق الجدار. عبارات رائعة، محتالة، جاهزة أو قيد الإعداد، وما علينا نحن العابرون من هناك إلّا قراءتها بتلك الروحيّة التي قد دُوّنتْ بها.
جدار ثرثار
بالعودة إلى رولان بّارت، ليس علينا إلّا قراءتها وكأنّنا ذباب يطير في كلّ اتّجاه. نعم، فذلك الجدار الثرثار “الحكوجيّ”، “اللتلات” يستوجب منّا أن ننصت إلى انعطافات مفاجئة تمامًا، كحركة الذباب أثناء طيرانه هنا وهناك. يستوجب ذلك الجدار من متلقّفه نمطًا آخر من الانهماك، إنّه الانهماك اللامجدي، مضافًا إليه بعض الانشراح أو تقطيبة جبين لا عدائيّة على الإطلاق.
ثمّة بين أولئك المشتغلين بأصول وجذور وتاريخ اللغات، من يرى أن تغذية اللغة بخبرات لا لغويّة يساهم في عدم وقوع اللغات في بؤرة الاضمحلال، بل ويغني معجم تلك اللغات.
ربّما جدار الأنفاق ذاك وما ساواه من جدران في مدن هذا العالم الأصمّ، هو واحد من تلك التجارب التي تدفع باللغات إلى أن تستجيب لما يحايثها من ممنوع. ربّما جدار أنفاق المطار هو عبر بعض “ملفوظاته” فضحٌ للمكبوت في المعجم الفصيح. لعل ذلك الجدار محاولة جادّة من قبل الذي يكتبون عليه، للقفز فوق جدران العيب وجدران الحلال والحرام، وما شاكل من جدران متصلّبة، ترسم حدود علاقتنا ببلدنا بما يفوق قدراتنا البسيطة على البوح والعيش بهناء.