للبلاد المحفوفة بالأسى والحب نكتب ونصلّي

حدّ المراهقة، كان الطفل المخدوع في داخلي يحبّ بلاده كما يعرفها، كما علّمته دروس الجغرافيا والتربية المدنيّة، يحبّ “لبنان” درّة الشرق، البلد الذي يربط أقطاب العالم بعضها ببعض، غابات الأرز وسهل البقاع الوافر، تعدّد الطوائف وساعة بين البحر والجبل، مطبخ شهيّ وتراث من ألف حضارة مرّت عليه.

في الجامعة الملاصقة للبحر، البحر الذي لم أكن قد رأيته في حياتي، عديد مراتٍ أكثر من أصابع اليد الواحدة، أدركت أنّني لا أعرف هذه البلاد حقًّا، وأنّ كثيرًا من الكلام يختبئ خلف هذه العناوين العريضة، كثير من الأمور التي لا يخبرك بها أستاذ المدرسة، كي لا يفسد فيك حبّ الوطن الجميل، ولم تكن مقرّرات كليّة الإعلام وحدها من عرفتني حقيقة هذه البلاد المتعثّرة الأزمات والانقسامات، بل عشرات الوجوه القادمة من مختلف أطرافها، والمحمّلة بتاريخٍ وحاضر وصورةٍ لا تشبه كلّ ما عرفته في حياتي عنها.

أمضيت ثلاث سنوات وأنا أكتشف البلاد من جديد، كأنّني ضيفٌ ثقيل يتنصّت على أحاديث أبناء البيت ليعرف ما يدور في أروقته، وهكذا، صار الزملاء أساتذتي أيضًا، أساتذتي الصادقين، وصارت المقاهي الواقعة بين البحر وحرم الكلّيّة، قاعات أتعلم فيها جغرافيا الوطن التي لا تروق للسائح المستعجل، وتاريخه الطويل مع الحروب والمجاعات والصراعات الداخليّة والخارجيّة، وحاضره الأشبه برمالٍ متحرّكةٍ، قد تبتلع أقدامك في أيّ لحظة.

حدّ المراهقة، كان الطفل المخدوع في داخلي يحبّ بلاده كما يعرفها، كما علّمته دروس الجغرافيا والتربية المدنيّة، يحبّ “لبنان” درّة الشرق، البلد الذي يربط أقطاب العالم بعضها ببعض

حينها، عرفت أنّ هذه المساحة الصغيرة من العالم شاهدةٌ على كثير ممّا لم يشهده غيرها، ولهذا وأكثر، علينا أن نحبّها، أن تحبّ البلاد يعني أن تعرفها، أن تعرف ماضيها، المظلم منه والمضيء، وحاضرها كما هو، لا كما يحلو لأستاذ الجغرافيا أن يوهمك. أن تحبّ البلاد يعني أن يكون صدرك رحبًا لما يخبّئه لك المستقبل فيها، لما يخبّئه لها المستقبل.

البقاء لمن يحبّ أكثر

عندما بدأت الأزمات تتوالى على البلاد، الواحدة تلو الأخرى، عندما انهار اقتصادها الهشّ، وأفلتت الأمور نفسها من أيدي الجميع، عندما حلّت جائحة كورونا وعمّقت من جراح الدولة المنهكة، عندما فُجِّر المرفأ ومات كثيرون، وعمَّ الخراب كلّ شيء، صار الرحيل لمن استطاع إليه سبيلًا خيارًا أوّل، جميع من أُتيحت لهم الفرصة غادروا، شبانٌ وشابات في مقتبل العمر، عائلات بأكملها شقّت طريقها نحو حلمٍ جديد في أرض أكثر خصوبةً، أكثر حياةً، زملاء دراسة وأصدقاء طفولة ووجوهٌ أحببنا بها البلاد أكثر، لفظتهم الأماكن كلّها، وأصبح في كل قلبٍ وبيتٍ غائبٌ بعيد، لا يستطيعون مطالبته بالعودة، ولا يطيقون غيابه.

ضاقت علينا البلاد، تضاءلت الشوارع والحدائق وفرص الحياة الكريمة، وصار الهرب نجاةً حتميّة، أمّا البقاء، فمخاطرة بما تبقّى من انتمائنا العميق لها، وبالمتاح لدينا من أفقٍ وأحلام، رسمناها في خيالاتنا الواسعة، في مواضيع الإنشاء، وعلى دفاترنا المدرسيّة.

كُثرٌ غادروا البلاد، وكثرٌ- أكاد أجزم- لم تغادرهم البلاد، وظلّ غيابها عنهم جرحًا غائرًا، وعائقًا أمام سعادتهم بما يمتلكون، وبما لا نملك. كثرٌ شتموا البلاد، نقموا عليها، أعلنوها وطن موتٍ لا حياة، وطنًا لا عودة إليه. وكثرٌ أدركوا حينها كم يحبّون البلاد، لا لأنها قدّمت لهم كلّ شيء، بل لأنّها راوغتهم، لأنّها حرّكت في دواخلهم شعورًا بالحنين لم يعرفوه من قبل، لأنّها علمتهم كيف ينجو المرء بالبقاء، لأنّها علمتهم ما معنى أن يحبّ المرء بلاده.

عذابات الحبّ في الوداع

لم أرد يومًا الرحيل، وعذبتني عناقات الوداع مع الأصدقاء، القُبل التي زرعناها على الجباه المغادرة، الرسائل التي قلنا فيها إنّنا بخير معًا، وإن كانت بيننا مدن وعواصم وساعاتٌ من الوقت، والمقاعد التي ظلّت خاليةً منهم، ولكنّني في النهاية توقّفت عن السؤال: هل يلسعك صقيع كندا؟ هل أميركا أرأف فيك من هذه البلاد؟ هل صار للأصدقاء أصدقاء جدد، يتكلّمون الفرنسيّة ولا يلفظون أسماءهم كما هي؟ هل رحل الجميع حقًّا، وهل حقًّا تعوّض مكالمات الڤيديو الطويلة هذا الفراغ الفجّ في ذاكرتنا؟

لم أرد يومًا الرحيل، وعذبتني عناقات الوداع مع الأصدقاء، القُبل التي زرعناها على الجباه المغادرة، الرسائل التي قلنا فيها إنّنا بخير معًا، وإن كانت بيننا مدن وعواصم وساعاتٌ من الوقت، والمقاعد التي ظلّت خاليةً منهم

في النهاية عرفت أن لا مفرّ لنا من غياب الأصدقاء، وأنّ جلد البلاد الممزّق لن يسعنا جميعنا، وربّما رحيل البعض أهون عليها وعليهم من البقاء.

هل يحبّ البلاد من غادرها؟ ربما، لكن يحبّها أكثر من كان لديه كلّ الأسباب، وكلّ الدروب ليغادر، واختار البقاء، وربّما، ربّما يحبّها أكثر بعد من عرف مآسيها، وعرف الحياة بعيدًا عنها وعاد.

مؤلمةٌ ودافئةٌ البلاد

في كتابهما “مسألة موت وحياة”، يطرح الكاتب والطبيب النفسي الأميركي “إرفين د. يالوم” وزوجته المؤرّخة النسويّة “مارلين يالوم”، فكرة الحزن كنتيجة تلقائيّة للحب: “الحزن هو الثمن الذي ندفعه لقاء شجاعتنا كي نحبّ الآخرين”. وكذلك فعل الطبيب النفسيّ الأستراليّ “كولين موراي باركس”، في كتابه “الحرمان: دراسات الحزن في حياة البالغين”، إذ قال “إنّ ألم الحزن جزء من الحياة، مثله مثل متعة الحب: ربما يكون الثمن الذي ندفعه مقابل الحب”.

استخدم رؤساء العالم هذه العبارة في تعزية شعوبهم بوقوع مُصابٍ جلل على بلادهم، كارثة يأخذ حزنها مجراه في قلوب الكثيرين، لكنّ أحدًا لم يقلها لنا، لم يعلّمنا إيّاها، عندما كنّا نرى البلاد التي نحبّ، تأكل بعضها، تقتل بعضها، تحرق نفسها بنفسها، تذوب أمامنا، تحيا يومًا وتموت يومين، ثمّ تقوم رغمًا عنها، لأجلها ولأجلنا، لأجل من لم يغادرها وهي في ذروة وجعها ويأسها وخرابها.

لم يخبرنا أحد من قبل، أنّ حبّ بلادٍ كهذه، سيظلّ دائمًا مرهونًا بحزن سخيّ، وألمٍ يترك ظلاله على وجوهنا. حبّ بلادٍ كهذه، سهلٌ إنكاره، سهلٌ التخلّي عنه، لكنّه الحبّ الذي متى أدركته في داخلك، متى عرفته، تمسكّت به، لأنّه الحبّ الذي سيمنحك الدفء أينما كنت، ومهما حدث، بوصلتك التي من خلالها تعرف الأشياء وتعرفك الأشياء.

لم يخبرنا أحد من قبل، أنّ حبّ بلادٍ كهذه، سيظلّ دائمًا مرهونًا بحزن سخيّ، وألمٍ يترك ظلاله على وجوهنا. حبّ بلادٍ كهذه، سهلٌ إنكاره، سهلٌ التخلّي عنه، لكنّه الحبّ الذي متى أدركته في داخلك، متى عرفته، تمسكّت به

هل يشترط أن نكون سعداء في هذه البلاد لكي نحبّها، لا، ليس بالضرورة، لقد علمتنا الأيّام أنّ شرط الحبّ هو التآلف مع ما تشعر به البلاد، وما دامت كلّ البلاد تتألّم، فمن البديهيّ أن نتألّم معها، أن نكون مرآتها، أن نصفّق لها حينما تقرّر أنّها اليوم ستفرح، وأن نعانقها بالدمع عندما يُكتب لها الحزن، وأن لا نستكثر عليها أن تكون ما تكون. ولذا، لا أمانع الحزن فيها اليوم، لا أنبذه ولا أمقته، ولا أنشد سعادةً وهميّة مصطنعة، بعيدةً عن واقعها، أحبّ البلاد والحزن الذي يلبسني كقميصٍ واسعٍ في حبّها.

هل نحبّ البلاد اليوم؟

أكثر من ستّة أشهر من الحرب الإسرائيليّة على غزّة وجنوب لبنان، ستّة أشهر طويلة من الاعتداءات اليوميّة على بلادنا وشعبها وبيوتها وأشجارها وشوارعها، ستةُ أشهر والبلاد تتهاوى من كلّ حدب وصوب، كأنّ لعنةً حلّت بها من جديد، لعنة الماضي الذي لم يعرف كيف يغادرها، لعنة الموت الذي صار جزءًا لا يتجزّأ من أحداثها، ولعنة أعدائها الذين لا يحبّونها، لكنّ شموخ أبنائها وجبالها وبحرها وزيتونها جعلها عقدتهم الأبديّة.

هل نحبّ البلاد اليوم؟ هل نحبّ صورتها المستحدثة، هل نحبّ البلاد التي تعيش كأنّها ألف بلاد، كأنّها عازمة على ألّا تموت كلّها، ما دام نجاة بعضها ممكنًا؟ هل نحب البلاد التي تبدو كأنّها غير مكترثة بنا، وكأنّها تفرض علينا فاتورة بقاء ثقيلة، سندفعها ما دمنا قرّرنا أن نحبّها، وأن نكترث لأمرها؟

هل نحبّ البلاد اليوم؟ عن نفسي أقول أحبّها أكثر، وأعرفها أكثر، أعرفها بلادًا كُتب عليها ألّا ترتاح، وألّا نترك كي نرتاح معها، أعرفها بلادًا عجيبةً، باستطاعة الغرباء أن يقولوا عنها كثيرًا ممّا لا يشبهها، ولكن وحدهم من أحبّوها عرفوا قدرها وصدّقوها.

أحبّ البلاد، وأعرفها، محفوفةً بالأسى، مجبولة بالألم، مهزومة ومنتصرةً دائمًا، فريدةً من نوعها، تشبهنا ونشبهها، تعرفنا ونعرفها، ولا يعرفنا سوانا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى