مفيد أبو مراد صاحب الرؤية التربويّة الرائدة


ثمّة إجماع على أهمّيّة التربية والتعليم للإرتقاء بالأمم، فالمدرسة أساسٌ في نقل المعارف والقيم الوطنيّة. كثر من التربويّين الناشطين يُغادرون بصمت كما كانوا يعملون بصمت. وهنا لفتة إلى أحد كبار المعلّمين والتربويّين، المربّي الدكتور مفيد أبو مراد (1930- 1999)، ابن بلدة القرعون في البقاع الغربيّ، واستعادة لبعض مسيرته الفذّة، إذ إنّه مارس التعليم الرسميّ الثانويّ، في زحلة العام 1956، وفي فرن الشباك العام 1960، ودرّس في تونس من العام 1957 إلى العام 1960 التاريخ الإسلاميّ، في الثانويّة الصادقيّة في القصبة، والتاريخ العام والتاريخ الإسلاميّ في الزيتونة. وانتقل إلى التعليم الجامعيّ في كلّيّة التربية– الجامعة اللبنانيّة في العام 1987. وقد كرّمته دولتنا المصونة بمنحه وسام الإستحقاق اللبنانيّ عن جدارة.

العملية التربويّة
كتب أبو مراد كثيراً حول العمليّة التربويّة والإشراف التربويّ (موضوع أطروحته للدكتوراه التي نالها في العام 1983 من جامعة باريس الخامسة)، وحاول التجديد بإدخال البحوث في إطار التعلّم، بدلاً من التعليم الأحاديّ، حيث ينفرد المعلّم فحسب في تقديم الدرس، ومادّة البحث المُنجز تكون موضع نقاش بين الطلاب، وغرضه من ذلك “تحوّل المعلم إلى مشرف ومُنظّم للعمليّة التربويّة، كما يتحوّل التلاميذ إلى طلّاب علم وصانعيّ قيم ومواقف”.
كان هاجسه في عمله “تفعيل القدرات والملكات” الخاصّة بالمتعلّمين. وفي ظنه أنّ المدرسة “مؤسّسة تعليم لا تربية”، ولا تهتمّ بهذه الأخيرة إلّا بالقدر الذي يتطلّبه التعليم، إذ إنّ التربية مبدئيّاً من مسؤوليّة العائلة والمجتمع.
كتب أبو مراد كثيراً حول العمليّة التربويّة والإشراف التربويّ، وحاول التجديد بإدخال البحوث في إطار التعلّم، بدلاً من التعليم الأحاديّ، حيث ينفرد المعلّم فحسب في تقديم الدرس، ومادّة البحث المُنجز تكون موضع نقاش بين الطلاب
في العام 1974 ألّف “الإدارة التربويّة في لبنان” (دار بيروت)، فاعتبر التربية جزءاً من السياسة الإجماليّة للدولة، ويساهم التخطيط التربويّ في عمليّة التنمية الشاملة. وعنده، غاية التربية الحديثة ليست اكتساب المعارف وتخزين المعلومات، وإنّما حصول التغيير في سلوك المتعلّم، بحسب ما عبّر ميشال عبد المسيح، في شهادته عن أبو مراد. فهو انطلق من معالجة مشكلات التربية من واقع حالنا، طامحاً إلى توفير ثقافة مشتركة تُقرّب بين اللبنانيين.
وندّد بالإمتحان الرسميّ، واقترح في مقالة له مسألة: “كيف نحرّر المدرسة من ديكتاتوريّة الإمتحان؟” (1995)، فبالطريقة التي انتهى اليها، تحوّل إلى “محنة” عند الطلّاب، فالهمّ الأكبر هو النجاح وتحصيل العلامات، بعيداً من الإنشغال المعرفي.


وفي نظرته الخاصّة إلى التربية، يُرتجي منها “تحقيق الوحدة في الإختلاف” (عنوان إحدى دراساته، 1999)، فرسالتها دعم اللُّحمة الاجتماعيّة، بحيث تتحقّق الوحدة في الإختلاف، ويتمّ الإنتقال من التعدّد إلى التعدّديّة، ويكون ذلك من طريق حدّ أدنى إلزاميّ ومشترك من المضمون التعليميّ، تراوح مدّته أو نسبته بين الثلثين والأرباع الثلاثة من مجموع الجهد التربويّ المدرسيّ.
ويستكمل ذلك بخيارات دينيّة وثقافيّة وتربويّة. وقد وضع خطّة طالب من خلالها: إلزام المدارس (خاصّة أم رسميّة) باللّغة العربيّة، وهو اذا ما تحقّق، يضمن قاسماً مشتركاً بين المتعلّمين. وطلب كذلك تدريس التاريخ والجغرافيا والتربية المدنيّة، حصراً باللغة العربيّة، وهدفه من ذلك “بلورة وعي وطنيّ وتوجّه سياسيّ ومدنيّ عصريّ، مستنداً إلى معطيات العلوم الإجتماعيّة والسياسيّة”.
دفاعاً عن التعليم العالي
دافع أبو مراد دفاعاً شرساً عن ضبط التعليم العالي في لبنان. فكتب مقالاً عن رؤيته “كي يظلّ التعليم عالياً” (1996)، وذلك حين استفحلت ظاهرة الجامعات المحسوبة على الطوائف الدينيّة، ورأى بضرورة الإتّفاق أولاً، على مرجعيّة العلم: أهي السماء أم الأرض، وما يعمل فيها من عقل واختبار لا حدود لهما؟ وصلة ذلك بالعمل، وكيف يندرج في حياة الناس ولغتهم اليوميّة والمعرفيّة وفي مسلكهم الإجتماعيّ. وخشيته من “تمذهب المعرفة”. وعنده، إنّ تمسّك الطوائف بالتعليم فيه منزلقات ويحمل أخطاراً كثيرة، لأنّه يتمّ على حسّاب المدرسة الرسميّة وجامعة الدولة “بما هما ركائز الوحدة الوطنيّة والقاعدة الحقيقيّة للعيش المشترك”، كما يقول.
دافع أبو مراد دفاعاً شرساً عن ضبط التعليم العالي في لبنان. فكتب مقالاً عن رؤيته “كي يظلّ التعليم عالياً” (1996)، وذلك حين استفحلت ظاهرة الجامعات المحسوبة على الطوائف الدينيّة، ورأى بضرورة الإتّفاق أولاً، على مرجعيّة العلم: أهي السماء أم الأرض
التعليم الديني
وجّه أبو مراد عنايته كذلك إلى التعليم الدينيّ، كما هو حاصل في المدارس. وتبيّن له أنّه يفرّق التلاميذ عن بعضهم “ويرسّخ الفرقة على قاعدة الطائفيّة ويجذّرها تدريجيّاً”. ولهذا، وضع منهج تثقيف دينيّ مشترك لكلّ الأديان، بدءاً من الإسلام والمسيحيّة السائدتين في لبنان. واعتماد منهجه المقترح، يجعل من المدرسة، في زعمه: “أداة تنوير دينيّ، وعاملاً فعّالاً في ترسيخ العيش المشترك”. واذا ما انتقد الطائفيّة والنظام الطائفيّ فلكي ينصر الدولة كسلطة عامّة، تمارسها على الجميع لفرض النظام.
وقوام مشروع أبو مراد للتعليم الدينيّ: أن تتولّى المدرسة شأنه، في وصفه مادّة علميّة، هدفها التعريف بالأديان. وعلى تعليم الدين الإسلاميّ والدين المسيحيّ المتمايزين كمادّة تدريسيّة، في مرحلة أولى، هي المرحلة الإبتدائيّة، والنصف الأوّل من التعليم المتوسّط، أن تقتصر على ما هو مشترك وعامّ وغير خلافيّ أو جداليّ في كلّ دين. وفي مرحلة تالية، تكون هناك مادّة موحّدة عن المسائل الخلافيّة، في إطار تاريخيّ لأسبابها، والشرط الموضوعيّ طبعاً هو وجود ذهنيّات تقبل الإختلاف وتقرّ بشرعيّته.
ويريد أبو مراد للتعليم الدينيّ أن يتعايش مع الحداثة، ما يتطلّب أن يعتمد الموضوعيّة والمنهجيّة، ويستفيد من مكتسبات علوم التربية وعلم النفس وعلم الإجتماع، فتكون له طرائقه العصريّة أسوة ببقيّة العلوم، ولا يبقى أسير الفوضى والذاتيّة والتجاذبات الفئويّة.
العالِم اللُّغويّ
أبو مراد مناضل عروبيّ من الصف الأّول، له نظرة في التعريب، وفي الموقف من اللغة العربيّة، وقدرة لغتنا الجميلة واللسّان الفصيح على مواكبة الحداثة. فنقل هذه الأخيرة إلى اللسّان القوميّ تفرض تطويره وتهيئته لتبنّيها، ولا تستقيم الحياة العربيّة، في عرفه، “بغير الإستجابة لمتطلّبات الحداثة، والمصالحة بين التجدّد والتراث، بلوغاً إلى تنمية مُستدامة تنبع من داخل الوجدان وتلتزم المستقبل، لا الماضي”.
يريد أبو مراد للتعليم الدينيّ أن يتعايش مع الحداثة، ما يتطلّب أن يعتمد الموضوعيّة والمنهجيّة، ويستفيد من مكتسبات علوم التربية وعلم النفس وعلم الإجتماع، فتكون له طرائقه العصريّة أسوة ببقيّة العلوم
لقد واجه اللسّان العربي على الدوام اللّهجة أو اللّهجات العامّيّة والإستعجام، وهو يدعو إلى إعادة النظر في جدوى علوم العربيّة لإكتسّاب اللّسان العربيّ، أيّ قيمتها بذاتها كعلوم، وتقوم مطالبته على إعادة بناء القاموس والنحو العربيّين، ومشروعه “المراديّ” الخاصّ يقوم على: إعادة الشرعيّة والسيادة للمعنى، فيحكم المبنى، وربط النحو بالحياة، وبناء علوم اللّسان على الواقع الحيّ والمتطلّبات العمليّة لتدريس اللغة العربيّة لا على الأيديولوجيا، واستنهاض الأمّة يكون بتجديد علوم العربيّة. وكان آخر كتب أبو مراد المطبوعة “الرياديّة في الثقافة والتربية” (1993).
رحم الله “أبو نداء” (نداء ابنه البكر الموسيقيّ المشهور)، الخالد بأفكاره الإصلاحيّة الرائدة، وسيبقى نموذجه الأكّاديميّ والموسوعيّ هذا ماثلاً “في ذهن الأجيال التي عرفته، طلّاباً أو زملاء في الأوساط الجامعيّة والبحثيّة والتربويّة”، بحسب شهادة د. عصام الجوهري عنه.