من إهدن إلى فيتنام.. مسيرة الروائي رشيد الضعيف
“انفجاران حدثا في الوقت نفسه في 6 أغسطس آب 1945: انفجار القنبلة الذرّيّة التي ألقيت على هيروشيما وانفجار رحم ياسمين فولّدت رشيد”. هكذا يصف الروائيّ اللبنانيّ رشيد الضعيف، لحظة ولادته في ذلك التاريخ المفصليّ للبشريّة بين أميركا واليابان، بينما أطلّ هو برأسه في نهار صيفيّ من نهارات إهدن الحارّة، تلك البلدة ذات الطبيعة الجبليّة الخلّابة، التي تشكّل امتدادًا للقرنة السوداء. ويقال إنّ الاسم إهدن محرّف من كلمة عدن، أيّ الجنّة، وكانت تعرف قديمًا بـ “عدن بتلاسار”، أيّ جنّة الدائرة بالفارسيّة.
في أرض الرهبان والكاتدرائيّة والكنائس الكثيرة، ترعرع ذاك الطفل الذي سيغدو شيوعيًّا عضويًّا، منتميًا إلى الحزب في لبنان، كما في فرنسا، وبقي كذلك حتّى بداية الحرب اللبنانيّة في العام 1975، حيث خلق مسافة بين قناعاته، وبين كلّ ما جرى في الميدان من تجارب ومحاولات، كانت تُختبَر باللحم الحيّ، ولحمه لم يكن في منأى عن دائرة العبث، إذ أصابته شظيّة في تلك الأيّام، ليغادر بعدها إلى باريس حيث توجد نتالي، الفرنسيّة التي نادته، فلبّى “ماشيًا على الماء”، كما يصف الضعيف، المشهديّة آنذاك.
ساكن التاريخ والأزقّة
في إهدن تحرّك الطفل رشيد في فضاء عريق، ضارب في عمق التاريخ، حيث تشهد حجارة كنيسة “مار ماما” على بقايا الزمن الوثنيّ الذي بنيت على أنقاضه، سنة 749.
في مطارح كثيرة، منها روايته “ألواح”، حكى الضعيف عن والده الحلّاق، الذي لا يتقن أيّ شيء يفعله، كما كان مهملًا في لباسه، وما يدور معه وحوله، ليخلص رشيد إلى أنّ الزراعة كانت العمل الأنسب لأبيه لو أنّه اتخذ هذا الخيار. أمّا عن والدته، فيقول الضعيف: “إنها جميلة، ومؤذية ببراءتها”، بينما يشيد بدور جدّه الذي حبّبه بالغناء.
هناك في البلدة البعيدة، عاش الضعيف مع عائلته الكبيرة في منزل ضيّق، بحال لامس الفقر في غالب الأحيان، بل والجوع أيضًا، أو بمعنىً أدقّ، عدم الشبع. في فضاء البلدة، لعب بالتراب، وعذّب الحيوانات والحشرات، مثل معظم أبناء جيله، لكنّه كان كذلك خير مراقب، ومدقّق لما يجري حوله من صراعات بين العائلات، وتباينات طبقية، وغيرها من الأحداث والمواسم والضجر والتهوّر. كل هذا صار زادًا لرواياته في ما بعد.
الساخر شيخ الطريقة
في ملحق “النهار” قام أنسي الحاج بنشر قصيدة لرشيد الضعيف، ممهّدًا لها في اليوم الذي سبقه، فكانت خطوة أولى، من أوسع الأبواب، وإلى يومنا هذا، يقدّر الضعيف ذلك النبل، والأبويّة في تصرّف أنسي، “الذي لا يشبه الشعراء”، فيقول الضعيف في حوار تلفزيوني: “الناس ما بيحبّو الشعر، ولا الشعرا. إذا بتاخد ديوان شعر للناشر، كأنّك آخدلو كيس همّ”.
يقول الضعيف في حوار تلفزيوني: “الناس ما بيحبّو الشعر، ولا الشعرا. إذا بتاخد ديوان شعر للناشر، كأنّك آخدلو كيس همّ”.
علمًا أنّ الضعيف بدأ حياته الأدبية شاعرًا، مفتتحًا لائحة إصداراته بـ “حين حلّ السيف على الصيف”، سنة 1979، ليلمس النقّاد حسّ السخرية والهزل، المستبطنين في قصائده، وهو أمر سوف يلازم جلّ أعماله الروائيّة والشعريّة لاحقًا.
درس رشيد الضعيف، الأدب العربيّ في الجامعة اللبنانيّة في بيروت، وحصل على درجة الدكتوراه في الأدب الحديث من جامعة السوربون في العام 1974، متخصّصًا بالألسنيّة والنقد الأدبي. كذلك عمل قبلها مدرّس اللغة العربيّة للأجانب في جامعة باريس الثالثة في العام 1972، وأستاذًا للغة العربيّة في الجامعة اللبنانيّة ببيروت العام 1974.
وكان الضعيف أستاذًا زائرًا في جامعة تولوز الفرنسيّة العام 1999. بينما يقوم اليوم بتدريس “الكتابة الإبداعيّة” في الجامعة الأميركيّة في بيروت، مادّة يعطيها من ذاته وتصوّراته، فيتعمّد تحرير طلّابه من قيود الشائع، والجاهز، وكأنه شيخ طريقة.
الروائيّ التبسيطيّ
عبر “المستبدّ” ولج رشيد الضعيف عالم الرواية سنة 1983، لتكرّ السبحة مع أعمال ذات طابع تجريبيّ غير غرائبيّ، مع شيء من اللامبالاة العابثة، صحبة السخرية، متحرّرًا من الألفاظ المفخّمة والأطناب، نحو لغة تقارب عاديّة، مشغولة بأصابع المحترف القابض على لعبة التبسيط كمشروع، بل كمغامرة غير مضمونة النتائج، فهناك المجدّد المستعرض للعضلات، بينما سلك الضعيف دربًا جانبيًّا، متخفّفًا من “البلاغة” ليقول في حوار معه: “أنا لست أديبًا”، وهو يقصد صورة الأديب ومنتجه الأدبيّ الذي نعرفه بتلك الألعاب اللفظيّة، مع شيء من الفلسفة والنثر والمعلومة والألغاز السحريّة.
عبر “المستبدّ” ولج رشيد الضعيف عالم الرواية سنة 1983، لتكرّ السبحة مع أعمال ذات طابع تجريبيّ غير غرائبيّ، مع شيء من اللامبالاة العابثة، صحبة السخرية، متحرّرًا من الألفاظ المفخّمة والأطناب.
في “ليرنينغ إنغلش” الصادرة في العام 1988، قارب الروائيّ الإهدنيّ، أسئلة الحرب اللبنانيّة ومنابعها، من زوايا مختلفة، بينما اعتمد في “تصطفل ميريل ستريب” على جدليّة العلاقة المبهمة بين رجل تقليديّ بسيط، وزوجته المحنّكة، التي تتأفّف منه، بينما يقوم هو بتحليل شخصيّتها بشخصيّته المرتابة.
وها هي إحدى القارئات، تلخّص الرواية بكلمات قليلة: “مونولوج على شكل تداعٍ حرّ عن العلاقات بين الرجل والمرأة، وعن الجسد والجنس والعذريّة”. مع ذلك، يتجنّب الضعيف إبداء رأي حاسم بروايته ومشروعه، ليقول: “ممكن الأديب ينتج نصّ ولا يدرج مقصده ليكون التفسير عند الآخر. مشّ ضروري عطول الكاتب بيعرف شو بيقصد”.
فنّ نحو الترجمة والمسرح والسينما
ترجمت أعماله الروائيّة إلى 14 لغة، منها المتوقّع، كالفرنسيّة والإنكليزيّة والأسبانيّة، وغير المتوقّع، مثل الفيتناميّة واليابانيّة واليونانيّة. أمّا “تصطفل ميريل ستريب” فقد تحوّلت إلى مسرحيّة، كتابة محمّد القاسميّ، وإخراج نضال الأشقر. وتحوّلت “انسى السيّارة” إلى مسرحيّة أيضًا، وهناك روايات له أصبحت أفلامًا بالتعاون مع المخرج بهيج حجيج وغيره.
“الرواية مش فن العصر. فن بالعصر”، يقول الضعيف، محاولًا توليد تعريفاته الخاصّة للأدب والحياة، هو الذي يفضّل الكتابة في منزله، موقنًا أنّ المثقّف ليس سيّد قراره في جميع الأوقات، وأنّ التاريخ يقوم بتغييراته ونقلاته بمعزل عن الآراء التي تطلق هنا وهناك، لذلك “على التاريخ أن يكون في خدمة الرواية وليس العكس”، ويقول عن سطوة النصّ: “النصّ يعيش وحده وماشي وبيتطوّر بعيد عنّي وخارج تأثيري”.