ألف باء مجالس العزاء.. “صولفيج” و”شيرازيّات”
قطعة “كيك”، حبّة شوكولا، معمول بالفستق، كعكة العبّاس، زجاجة عصير. من المفترض أن تحتشد هذه الأصناف المحلّاة اللذيذة في المناسبات السعيدة، غير انّها غدت ضيفاً ضروريّاً، في كلّ مجلس عزاء حسينيّ، يحييه الرجال أو النساء في البقاع، كما في الجنوب، والضاحية (الجنوبية لبيروت). فنتيجةً لمرحلة الترف النسبي، ما قبل الأزمة الاقتصاديّة التي يشهدها لبنان منذ ثلاثة أعوام، لم يعد بالإمكان التراجع إلى المربّع الأوّل، حيث التقشّف في كلّ تفاصيل المجلس، من أَجر قارئ العزاء و”القرّاية” حتى الحلوى المقدّمَة، التي كانت تقتصر على قطعة راحة حلقوم مسحوقة بين دائرتي بسكويت.
معالجة الأخطاء
ليس في عاشوراء فحسب، بل على مدار العام، يقوم قرّاء العزاء بأداء مهامهم في الحسينيّات، والبيوت، وعلى الشاشات الدينيّة، وهُم بذلك “قادة رأي” يتوزّعون على المناطق كافة، يعملون على شدّ العصب الحزبيّ، في خطاب تتخلّله مقاطع تعبويّة من الزمن الحاضر، متعلّقة بحزب الله والقادة في لبنان وإيران، وشهداء المقاومة الاسلاميّة، أو حركة أمل، والإمام المغيّب موسى الصدر، ورئيس الحركة نبيه برّي، إضافة إلى الشهداء.
بمعنى صريح: هناك مجالس حسينيّة “حزبيّة”، ومجالس حسينيّة “حركيّة”. يتّفق الطرفان فيها على سرد الوقائع التاريخيّة، فتتخلّلها عظات آنيّة ذات مضامين سياسيّة. أمّا المجالس “المحايدة” التي يتلوها الشاعر عباس فتوني في الكلّيّة العامليّة مثلاً، فهي تحمل “الطابع الرسميّ”، وينقلها تلفزيون لبنان في كلّ عام.
يعمل حزب الله منذ أكثر من عشر سنوات، على عملية إعداد القرّاء، تحديداً في مجال ضبط النصوص، اتّقاءً للشطح، وكذلك لتحسين اللغة العربيّة الفصحى، وأيضاً يتمّ التدريب على “الصولفيج” وهو دراسة كلّ ما يتعلّق بالتنغيم والعزف، والألحان والإيقاع، والأصوات الموسيقيّة، والمقامات. دورات قدّم بعض نتائجها عازف عُود من آل “نظام” في إحدى قاعات مجمّع القائم في الضاحية الجنوبية.
الأجور والجندر
تتفاوت الأجور بين القرّاء الرجال والنساء، بنسبة عالية، حتى تصل في حالات كثيرة إلى واحد على عشرة! ففي عالم الرجال، هناك قرّاؤون نجوم، لهم مستمعون، يقصدونهم حيث يكونون، ويحتفظون بأقراص ممغنطة لمجالسهم (سي دي)، كما هو حال السيّد نصرت قشاقش. قراءة هذه الفئة، لا تقتصر على حسينيّات الجنوب والبقاع والضاحية، بل تُنظَّم لهم جولات في بلاد الاغتراب، حيث الاكثريّات الشيعيّة، في أوروبّا وأفريقيا، كذلك في الاميركيّتين، وفي الغالب يعيش هؤلاء القرّاء حالة ترف معيشيّة واضحة، يتجسد بالبيوت، والسيّارات، وبعضها هدايا من المغتربين، يقدّمونها من باب الإعجاب، والتبرّك، وليس لقاء تلاوة المقرئ للمجلس بالضرورة.
يتمّ تدريب القرّاء على “الصولفيج” وهو دراسة كلّ ما يتعلّق بالتنغيم والعزف، والألحان والإيقاع، والأصوات الموسيقيّة، والمقامات
يتجنّب القرّاء تحديد أجورهم بشكل صريح، لكنّ العُرف حدّد الأرقام بين مئة دولار، وألف دولار، وربّما أكثر. هذا عند الرجال، أمّا النساء فيتقاضين أقلّ بكثير من هذا، حتى النجمات منهنّ.
ما أن يبدأ شهر محرّم حتى تضيق أجندات القرّاء بالمواعيد، وبعضهم يقرأ أكثر من أربعة مجالس في اليوم الواحد، لتكون الحصيلة الماليّة ما فوق الخمسين ألف دولار في الشهر، في حال كان القارئ شهيراً، وله جمهور واسع.
العناية بالصوت
من ناحية العناية بالصوت، فالأمر هو عينه بين المطرب، والمقرئ، فكلاهما يتجنّب شرب المياه الباردة، وتناول الأطعمة الحارّة، والتوابل، وغالبيتهم لهم طقوسهم اليوميّة في شرب الماء الفاتر صباحاً، المكسور بملعقة من العسل، ومَن لم يتورط منهم بالتدخين، فهو يحرص على تجنّب “الدخان” بأشكاله، ويترافق الأمر مع رياضات لتفتيح الرئتين، وربّما تدريبات في تحريك الفكّ السفليّ.
من ناحية الطقس، يتجنّب القارئ، أو القارئة لفحات البرد، ويحذرون من أجهزة التكييف في الغرف، ويحرصون على عدم الخروج من مكان حار إلى بارد، أو العكس.
البكاء في المناسبات السعيدة
ليس من المستغرب أن تقام مجالس العزاء في ذكرى عاشوراء، أو ضمن حفل تابينيّ لشهيد أو فقيد، لكن هناك عادة مستحدثة، شاعت منذ سنوات، تتمثّل بإحياء المجالس في مناسبات يفترض أن تكون سعيدة، مثل الانتقال للسكن في منزل جديد، أو افتتاح مؤسّسة تجاريّة، أو حتّى نجاح الإبن في الجامعة. علماً أنّ الموالد الاسلاميّة قد تقوم بالأمر، وهي شرعيّة ومستوفية الشروط، لكنّ الشيعيّ يختزن المظلوميّة، والحزن في صلب كيانه، لذلك ينسجم أكثر مع المجلس بما فيه من أحزان، ومواساة لأهل البيت.
هذا يحيلنا إلى كتاب “يوم الدم” للدكتور رالف رزق الله، وهو قراءات في مشهديّة عاشوراء في جبل عامل، ولدت كأطروحة (1975) عكست رؤية متخصّصة نفسيّة، اجتماعيّة لظاهرة شيعيّة يتمازج فيها خطاب الإسلاميّين مع الخطاب الإسلاميّ، والفكرة الأساس في البحث، مستندة إلى عقدة الذنب التي يستبطنها المجتمع الشيعيّ في اللاوعي الجمعيّ، حيث تمّ خذلان الحسين وآل بيته، منذ 1400 سنة، وما إحياء ذكراهم سوى تكفير عن ذلك التخاذل القديم. من هنا، يصعب على الشيعيّ التكيّف مع الأفراح، حتى لو كانت شرعيّة، وفي الغالب لا يلجأون إليها سوى في الأعراس، وذكرى ولادات الأئمّة، وبالطبع في عيد الغدير.
تاريخ المجالس
يقال إنّ المجالس الحسينيّة بدأت بإشارة من الامام جعفر الصادق، الذي طلب من الشعراء الموالين لأهل البيت، بخطّ القصائد لتجسيد واقعة الطفّ، على أن تحمل كلّ مضامين الإباء والرثاء. لم تكن تلك القصائد تُقرأ بصوت منغَّم، ولم يكن النحيب مرافقاً للسرديّات، حتى تعدّدت تلك المجالس، فكان التنافس على التأثير، واجتذاب المريدين، فجرى الانتباه للأبعاد التعبويّة التي تحملها مضامين تلك القصائد، وأهمّيّة انعقادها في الوجدان، لتتحوّل مع الوقت، إلى العمود الفقريّ في بناء الخصوصيّة الشيعيّة، فصارت المجالس ذات أبعاد طقوسيّة، ولو لم تكن من ضمن الفرائض المعروفة كالصلاة والصوم والحجّ.
المجالس الحسينيّة بدأت بإشارة من الامام جعفر الصادق، الذي طلب من الشعراء الموالين لأهل البيت، بخطّ القصائد لتجسيد واقعة الطفّ، على أن تحمل كلّ مضامين الإباء والرثاء
ضمن التراث الاسلاميّ الحامل لما هو دقيق، ومبتدع، جرى إقحام روايات تحكي عن بكاء آدم على الحسين، بل إنّ نوح قد سمّي باسمه هذا، لكثرة نواحه على ما جرى في كربلاء.
على العموم، كانت المجالس حاملة للواقع والمتخيّل، وهو أمر طبيعيّ في بناء القصائد، لكنّ المتخيَّل أصبح واقعاً، وصار يُقرأ على هذا الأساس، فكانت الصدمة في منتصف القرن الماضي، حيث كان العصر الذهبيّ للشيوعيّة، التي انتشرت في النجف، والعراق عموماً، كما في إيران ولبنان. المفاهيم الرأسماليّة أيضاً، كانت ولا تزال حاملة للعلوم المبنيّة على الوقائع، والمنطق، فبدا أن السيرة الحسينيّة بمعناها التقليديّ، في طريقها للأفول، وهو ما تنبّهت له مجموعة من رجال الدين، ومن بينهم الشيخ مرتضى مطهّري في إيران، وراح يشتغل على تحديث النصوص، ليصبح بمقدورها الاستمرار بأداء المهمّة والقضيّة التي تحملها. بالطبع كانت هناك صعوبات، وتطلّب الأمر سنوات، حتى وصلنا إلى الصيَغ الحاليّة، التي تكثر فيها عبارة “ولسان حاله”، أيّ وكأنّه يقول، وليس فقال.
المبالغات الشيرازيّة
بين الحزب، والحركة، ظهر تيّار ثالث، أو سبقهما، راح يقضم من حصص الفئتين، ونجح في مهمّته في وقت سريع، حيث نافسهما على النصّ، المحشوّ بالمبالغات، والإكثار من الطقوس، والاهتمام بإبراز جمالية الأصوات وأجملها.
إنّه التيار الشيرازي، الذي صارت له حسينيّات، ومريدون كثرٌ في جنوب لبنان والبقاع، وحتى في الضاحية الجنوبية، والأغرب أن هناك حزبيين، لا ينسجمون إلاّ في هذه الحسينيّات. أمّا حركة أمل فقد استوعبت الحالة الشيرازيّة، بحيث استفادت من نجاح مجالسها، كما استفاد الشيرازيّون من جمهور الحركة الجاهز، من دون عناء التأسيس والتراكم.
المؤسّس هو المرجع محمد مهدي الشيرازيّ، وهو من أصول ايرانيّة، لكن نقطة ارتكاز الشيرازيّين، تُعتَبر في لندن، والتأثير كبير على شيعة البحرين، والكويت، والعراق، بل والشيعة في بلدان الانتشار، فكانوا ولا يزالون دعويّين، حركيّين، لهم أكثر من عشر فضائيّات تبث بلغات عدّة، بما فيها الأورديّة.
التيار الشيرازي، صارت له حسينيّات، ومريدون كثرٌ في جنوب لبنان والبقاع، وحتى في الضاحية الجنوبية، والأغرب أن هناك حزبيين، لا ينسجمون إلاّ في هذه الحسينيّات
بدأ الشيرازيّون كخطّ ثوريّ، تجديديّ، وانتهى بهم المطاف، مشروعاً مستغرقاً في الطقوس، وبعضها مستلهم من الهنود، والصوفيّين، فأمعنوا في تبنّي التطبير، وأضافوا المشي على الجمر إلى لائحة الشعائر، كذلك المشي على الزجاج، والزحف على البطون، وارتداء ثوب الأسد، كتجسيد رمزيّ لشخصيّة الإمام عليّ، كما قدّموا اللطم في قوالب استعراضيّة راقصة، لم يعرف لها مثيل من قبل، هذا عدا عن ضربهم على الدفوف، وحملهم لأخشاب ثبّتت عليها الشموع والأضواء، وعزّزوا ضرب الظهر بالسلاسل (الجنازير)، وبعضها مزوّد بشفرات حادّة عند أطرافها. كذلك ابتدع الشيرازيّون مناسبات عدّة على نحو: العشر الفاطميّات، والعشر الزينبيّات…
يعيش هؤلاء اليوم بيننا، ويحاججون، ويجادلون، وصارت لهم منابر، ومن خلال رواديدهم (وأشهرهم باسم كربلائيّ) أضحت لهم مواطئ أقدام في معظم البيوت الشيعيّة، وغالباً ما تنغمس الادبيّات الشيرازيّة في مشاحنات حادّة، سببها سبّ الصحابة، مباشرة، أو تلميحاً.
فترة الأزمات، والخيبات، والإنهيارات الاقتصاديّة، تأخذ شريحة كبرى من الناس نحو الغلوّ، والتمسّك بكلّ ما هو غيبيّ، وهو ما يفصل بعض الجماعات عن الواقع، على أن تتمّ مقاربة المشهد المعاش من زوايا متطرفة، وهنا الطامة الكبرى.