ابنة بعلبك سحر حيدر من التعليم إلى الشعر والرواية

من مدينة بعلبك حيث نشأت وترعرعت، بدأت سحر نبيه حيدر رحلتها الأدبيّة، حاملةً عشقها لتلك المدينة أينما حلّت. حيدر، الحائزة على دكتوراه في التاريخ والتي أصرّت على نيلها بعد انقطاع عن الدراسة، تركت بصمتها في عالم الكتابة بأعمال متنوّعة.

قدّمت أولى خطواتها الشعريّة بديوان “عبق الرياحين” (2003)، تلاه “خزانة الريح” (2010)، ثمّ “غلالة الشمس” (2019). من الشعر انتقلت إلى القصص القصيرة بكتابها “أكتبني… حين أحببتني” (2022)، لتتوّج مسيرتها أخيرًا بدخول عالم الرواية مع إصدارها الأوّل “جرح النازفة” (2025)

بعلبك جذور أنبتت الحروف

تستمدّ سحر إلهامها من مسقط رأسها بعلبك، حاملةً إرث المدينة الثقافيّ وعاداتها وتقاليدها. تقول في حديث إلى “مناطق نت”: “بعلبك هي أمّي وأبي، هي الأرض والجذور والانتماء، هي الهويّة التي شكّلتني لأكون على ما أنا عليه اليوم”.

تستشهد سحر بالمثل الشعبيّ: “اللي بيطلع من ثوبه بيعرى، وأنا مجبولة بتراب بعلبك”.

الروائية سحر حيدر

بعلبك حاضرة دائمًا في كتابات حيدر، فتزيد: “لا بدّ من أن يلمس القارئ الفيض الذي ارتويت منه. فنحن نكتب من مخزون الذاكرة”.

بعلبك القلب وبيروت الخبرة

حالها كحال كثيرين من أهل بعلبك ممّن اضطروا إلى مغادرتها لظروف مختلفة، تربّت حيدر في بعلبك ثمّ غادرتها، إلى أن استقرّت لاحقًا في بيروت، لكن بقيت بعلبك حاضرة في أعمالها ورفيقة دائمة لها.

تقول حيدر: “بعلبك أثّرت فيّ، شكّلت شخصيّتي، أنا التي تربّيت في بساتين القلعة وعند رأس العين. بعلبك كملابسنا لا يمكن نزعها، والكاتب ابن البيئة وابن الأرض”.

في المقابل، تشير حيدر إلى أنّ بيروت علّمتها كثيرًا خلال 25 عامًا، فقد احتضنتها ثقافيًّا وفكريًّا واقتصاديًّا وأكّاديميًّا، إلّا أنّ بعلبك تبقى الأساس بالنسبة إليها.

بين الوظيفة والهواية

تجمع حيدر بين مهنتها في التعليم وموهبتها في الكتابة، فهي أستاذة محاضرة في الجامعة الأنطونيّة، حيث تدرّس مادّة “المواطنة”، معتبرةً أنّها تنقل صورة لبنان الذي تحبّه وتؤمن به.

حيدر: النثر الفنّيّ والقصص القصيرة تجعلني قادرة على أن أعيش وأجسّد واقع الناس وأعبّر عنه

وتشير إلى أنّ “التعليم بالنسبة إليّ كالكتابة: رسالة ومسؤوليّة. لم أفكّر يومًا في أنّني موظّفة، بل أرى عملي سبب نشاطي واستمراريّتي وشبابي”.

في المقابل، تتحدّث حيدر عن اختيارها اختصاص التاريخ، الذي لم يكن خيارًا حرًّا في البداية، حيث عادت إلى الجامعة بعد 17 عامًا، وهي أمّ لأربعة أولاد.

تقول: “اخترت التاريخ لسهولة المتابعة حضوريًّا، وتعلّمت منه أنّ التاريخ هو أساس كلّ العلوم والفنون. من دون جذور، لا أساس ثابت”.

الشعر بداية التعبير

كانت انطلاقة حيدر الأدبيّة مع الشعر من خلال ثلاثة دواوين، إذ “كان الشعر متنفّسي الوحيد. كنت أكتب لأخفّف من حزني، غضبي، وفرحي، وعن كلّ ما يمرّ في حياتي”.

ومع التحوّل إلى المجال الأكّاديميّ، شعرت حيدر بضرورة تطوير ذاتها والانخراط في الواقع لتستغلّ موهبتها في الكتابة.

تقول: “النثر الفنّيّ والقصص القصيرة تجعلني قادرة على أن أعيش وأجسّد واقع الناس وأعبّر عنه، لا سيّما وأنّ الكاتب هو صوت من لا صوت لهم”.

جسر إلى الرواية

بدأت مرحلة التحوّل في مسيرة حيدر، من الشعر الذي قادها إلى القصّة القصيرة ثمّ الرواية، حينها اقتربت حيدر أكثر من الناس، من معاناتهم وهمومهم اليوميّة.

رواية “جرح النازفة” لسحر حيدر تروي حكاية “أمل”، طفلة فائقة الجمال اعتدى عليها والدها، وعندما افتضح أمره قرّر تزويجها إلى رجلٍ كبير السنّ. حينها بدأت رحلة هروبها المتكرّرة من ماضيها، لتمتهن”الدعارة” بهدف الانتقام من الرجال.

رواية “جرح النازفة” للروائية سحر حيدر

وقعت أمل في الحبّ مرّات عدّة، هي التي كانت بين الحين والآخر تبحث عنه وعن الاستقرار والزواج. وفي كلّ مرّة كانت تحمل معها خيبة أمل جديدة، سواء في علاقتها مع عُديّ، رشيد، ساهر وسهاد. كلّ واحد منهم خدع أمل على طريقته.

تشير حيدر إلى أنّ رواية “جرح النازفة” رواية واقعيّة، وتتمنّى لو لم تكن كذلك، لما تحمله من ألم ونزف. وتضيف: “للأسف، نحاول أحيانًا الابتعاد عن كلّ ما يؤلمنا ونعيش في حال إنكار، ولكن هذا مستحيل، بخاصّة في مجتمعنا”.

الرواية كرسالة توعية

توضح حيدر أنّها عمدت إلى كشف الحقائق كما حملتها أمل، معتبرةً أنّ الرواية وسيلة لنقل الحقائق التي قد تساعد على تفادي الظلم وتهدف إلى نشر التوعية.

تستدرك حيدر أنّ “جرح النازفة” تعكس واقعًا معاشًا، إذ التقت بالبطلة الحقيقيّة التي طلبت منها أن تروي قصّتها. وتعتبر حيدر أنّ لكل تجربة رسائلها، حتّى لو كانت سلبيّة أحيانًا.

تُعدّ رواية “جرح النازفة” محاولة جريئة لتسليط الضوء على واقع مؤلم لكنّه من رحم مجتمعاتنا، حيث إنّ كثيرًا ما تُكمّ أفواه الضحايا تفاديًا للعار

وتضيف: “يجب ألّا نجمّل الوقائع، فالعبر ربّما تكون مبطّنة أو غير مباشرة، لكنّها تدفع القارئ إلى إعادة النظر في حياته وحياة من حوله”.

المرأة بمواجهة أحكام المجتمع

على الرغم من استخدام حيدر ألفاظًا مثل “امرأة عاهر”، “فتاة غير شريفة”، “بائعة هوى”، “الحقيرة الساقطة”، “عاهرة غير شرعيّة” و”المومس”، فإنّها تقدّم هذه الكلمات على أنّها نظرة المجتمع القاسية إلى المرأة في مثل هذه الحالات والقصص.

وترى أنّ الجوهر يكمن في بعض العبارات التي أكدّت عليها، مثل: “لم يكن لديّ خيار.. لا خيار لي سوى مواجهة الواقع… حاسبوا أنفسكم… من منك بلا خطيئة فليرجمها بحجر…”.

رواية “جرح النازفة” بالنسبة إلى حيدر، هي بمثابة إعادة قراءة للواقع، بالاستناد إلى بعض الدراسات والتعاون مع متخصّصين نفسيّين. وتوضح أنّ العمل لم يُكتب للدفاع عن أحد، بل لتصويب الحقيقة ومحاولة التعديل والتغيير ونشر التوعية.

جسور بين النصّ والقارئ

تُكثر حيدر في روايتها من الاستشهاد بالأقوال والحكم والأمثال، سواء لأدباء عالميّين مثل جبران خليل جبران وفيكتور هيغو، أو بأمثال شعبيّة مثل: “الفتاة كالزجاج إذا انكسر يصعب إصلاحه”.

تقول حيدر: “هذا يدعم النصّ ويعزّز الفكرة. لا يوجد كاتب ليس لديه رسائل يضمّنها في نصوصه، على أمل أن أكون قد استطعت إيصال رسالتي إلى القارئ”.

تُعدّ رواية “جرح النازفة” محاولة جريئة لتسليط الضوء على واقع مؤلم لكنّه من رحم مجتمعاتنا، حيث إنّ كثيرًا ما تُكمّ أفواه الضحايا تفاديًا للعار، من دون النظر إلى حقوقهنّ. من خلال روايتها، تمنح حيدر صوتًا لمن لا صوت لهم، وتفتح نافذة للتوعية والتغيير.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى