بلديات النبطية تحتضر ولن تنقذها الانتخابات لو حصلت!
أطاحت الأزمة الماليّة والانهيار الاقتصاديّ في السنوات الأخيرة بعمل البلديات وتقديماتها وخدماتها، وجاءت الحرب الأخيرة لتطلق رصاصة الرحمة عليها. تقف البلديات الجنوبيّة اليوم عند منعطف خطير، إمّا الموت قسرًا أو البقاء شكلًا، أي في موت سريريّ. أمّا رؤساء البلديات الذين أتت بهم القوى السياسيّة الباسطة سلطتها في المناطق الجنوبيّة، وتحديدًا ما يعرف بالثنائيّ الشيعي، لا يُحسدون هذه الأيّام على واقعهم المرير، إذ تُركوا لقدرهم يواجهون أخطر أزمة مرّت بها بلدياتهم منذ انتخابات العام 1998، وباتوا ينتظرون إمّا الانتخابات، كي يغادروا، يرحلوا ويتركوا الأزمة لـ”أصحابها”، أو هناك من يفكر بالاستقالة قبل ذلك، بعد وصولهم إلى حائط مسدود.
لا ترقيع ولا من “يحزنون”
لا انتخابات بلديّة تلوح في أفق أيار المقبل، موعد إجراء الاستحقاق البلديّ والاختياريّ، ربّما تفرض الحرب ترحيلها إلى أجلٍ غير مسمّى. واقع يراه عديد من رؤساء البلديّات ضربة قاضية لهم، إذ كيف سيكملون وصناديق البلديات فارغة تمامًا، وإمكانياتها معدومة. ويتساءلون، ما هي المقوّمات التي ستدفع بها الدولة لتدعم الاستمرار أو تطيل أعمار المجالس البلدية القائمة؟
مرّ زمن طويل على ترقيع الطرقات في البلدات والقرى وحتى في المدن الجنوبية، وبالرغم من أنّ الأهالي نسوا شكل الزفت الأسود، لكنهم يعيشون ألوانه يوميًّا في تفاصيل حياتهم المتعبة في ظل غياب دور البلديات وسلطاتها؛ إذ تكفيهم النفايات التي ما فتئت ترتفع في الطرقات.
لذلك تتخبّط البلديّات بأزمات لا تعدّ ولا تحصى، تحتاج لكسرها حُزْمَة مال ضخمة توازي بين ميزانيّاتها الضئيلة التي تصرف لها بالقطارة من الصندوق البلديّ المستقلّ، على “العهد القديم” يوم كان سعر صرف الدولار لا يتخطّى 1500 ليرة، وبين تكلفة المعالجة المقدّرة بالدولار ليس دونه وبأسعار تفوق أحلام البلديات ورؤسائها بكثير. فعلى من تقرع البلديات مزاميرها؟
بلديات “لا معلّقة ولا مطلّقة”
منذ الثورة في تشرين الأول/أكتوبر العام 2019، وما تبعها من انهيار كلّي للدولة ومؤسساتها، أفرغت الأزمة الماليّة وانهيار العملة صناديق البلديّات فباتت على درجة الصفر أو ما دونه، أي مديونة، في الوقت الذي تعاني عديد من بلديّات النبطيّة مثلًا، من خلافات داخلّية عطّلتها وشلّت قدراتها، وباتت بحكم “لا معلّقة ولا مطلّقة”، ما انعكس سلبًا على أبناء البلدات والقرى هذه، إذ لا مرجعيّة محلّيّة يلجأون إليها لحلّ أمورهم الإداريّة والخدماتيّة وغيرها من أمور تشكّل البلدية مرجعيتها الوحيدة.
لم تنجح القِوَى الحزبيّة المهيمنة بسلطتها على البلديّات في إنعاش هذه البلديات، وتركتها إلى قدرها المحتوم، “إلّا قليلًا”. يقول رئيس اتّحاد بلديات إقليم التفاح بلال شحادة لـ”مناطق نت”: “إنّه لولا المازوت الهبة المقدّمة من حزب الله منذ مدّة للبلديات لتشغيل مولدات آبار المياه وآليّات البلديّات لكانت الأزمة أخطر بكثير، فالأزمة غير المسبوقة أدخلتنا في غرفة الإنعاش”.
يتابع شحادة: “توقّف الإنماء منذ زمن طويل، وما يصلنا من مال لا يكفي رواتب ما تبقّى من موظّفين، وبالرغم من أنّ الدولة ضاعفت رواتب الموظفين، إلّا أنّها لم تضاعف مستحِقّات البلديات، ما جعلنا أمام صعوبة حتّى دفع الرواتب، وكأنّ الدولة تقول “باي باي” للسلطات المحلّيّة”.
لا انتخابات بلديّة تلوح في أفق أيار المقبل، موعد إجراء الاستحقاق البلديّ والاختياريّ، ربّما تفرض الحرب ترحيلها إلى أجلٍ غير مسمّى.
بلديات مترهّلة أصلًا
أثقلت الأزمات كاهل البلديّات، كثير من رؤسائها باتوا ينتظرون الانتخابات بفارغ الصبر، مع يقينهم أنّها باتت بحكم المؤجّلة، لكن “لن تشيل الانتخابات الزير من البير” يقول رئيس بلديّة كوثرية السيّاد علي موسى ويعلّل “لسبب بسيط أنّه سيتم ترحيل الأزمة المالّية من بلديّة إلى أخرى، وسيتمّ تغيير الوجوه فقط، وهذا بحدّ ذاته كارثة عظمى بحقّ البلديات”.
“توقفت خدْمَات البلدية منذ زمن، وما تقوم به، لا يعدو عمليّة رفع النفايات بدعم وتبرعات من أبناء البلدات والقرى، وإلّا يمكن القول إنّ زمن هيبة البلدية ولّى، فكّكته الدولة بسياساتها العوجاء”، يتابع موسى لـ”مناطق نت”: “لم تدعم الدولة السلطات المحلّيّة، مع أنّها رمت عليها كلّ الأزمات، الكهرباء، إصلاح أعطال المياه، متابعة ملفّ النزوح، النفايات وغيرها، وهذه كلّها تحتاج إلى المال، وهو غير متوافر، فكيف نعمل ونستمرّ؟”.
تبعًا لموسى “بدأت أزمة البلديات قبل ثماني سنوات، إذ ترهّلت المجالس البلديّة، كثيرون من أعضائها إمّا غادروها أو أصابهم الملل من رداءة الوضع المادّيّ وغياب الإنتاجيّة، وهذا أدّى إلى تحلّل البلديّات وإنهاء وجودها الفعليّ، وهذا أمر تتحمّل وزره الدولة التي تخلّت عن المجالس البلدية”.
ثمّة مشكلة في عديد من بلديّات النبطية وبلديات الجنوب، تعود إلى أصل الانتخابات البلديّة، إذ أدّى تحالف “حركة أمل” مع “حزب الله” في الانتخابات إلى الإتيان بمحازبين ومناصرين لهما، وتنافر عديد منهم في داخل البلديّات ما سبّب اضطراب عملها وتباعد أعضائها إلى حدّ المقاطعة أو الاستقالة، ناهيك بأعضاء مجالس بلديّة أو رؤساء هم غير مؤهّلين أصلًا لإدارة البلديات من دون أزمة، فكيف مع الأزمات؟
يضاف إلى أنّ بعض بلديات النبطية بقيت من دون مجالس بلديّة بسبب عدم توافق “الحركة” و”الحزب” فيها فأطيح بانتخاباتها وبقيت تحت إدارة القائمقامين أو المحافظين أو رؤساء الدوائر الإدارية، وتعاني البلدات والقرى التي لم تنتخب بلدياتها هذه أكثر من غيرها، وتعتبر جميع خدماتها شبه معدومة.
ولّى زمن العزّ
“ما حدا قادر يعمل شي” يردّد موسى ويشير إلى أنّه “لولا بعض الخيّرين، كنّا توقفنا تمامًا منذ زمن. ثمانون في المئة من خدمات البلديّة متوقّفة، لا مشاريع خدماتية ولا إنمائية ولا شيء، كيف نكمل بأيّ طريق؟ لا نعرف، الوضع مأسويّ للغاية، وأنا شخصيًّا أتمنّى أن تتمّ الانتخابات لأزيح هذا العبء عن كاهلي، يكفينا أنّنا تحولنا إلى كبش المحرقة”.
في زمن الـ1500 ليرة وعزّ الليرة، اعتادت بلديات النبطيّة على “البذخ”، لكن حالها اليوم مأسويّ، وهي تحتضر بمعظمها، لم يعد بمقدورها حتّى على رفع النفايات، فكيف لها القيام بباقي الخدمات الأساسيّة الأخرى؟ لذلك لا يُحسد رؤساء البلديّات على أحوالهم اليوم، طارت ميزانيات بلدياتهم التي كانت قبل الأزمة تبدأ من مئة وخمسين ألف دولار لأصغر بلديّة، لتصل اليوم إلى نحو أربعة آلاف دولار؛ ميزانيّة يجدها رؤساء البلديات “هزيلة” جدًّا ولا يمكن لها إحياء دور البلدية، في حين أنّ صيانة الآليات وكلّ الخدمات تتمّ وفق دولار الـ89 ألف ليرة.
في زمن الـ1500 ليرة وعزّ الليرة، اعتادت بلديات النبطيّة على “البذخ”، لكن حالها اليوم مأسويّ، وهي تحتضر بمعظمها، لم يعد بمقدورها حتّى على رفع النفايات
لا يخفي رئيس اتحاد بلديات إقليم التفاح بلال شحادة الواقع الصعب، يضيف لـ “مناطق نت”: “إنّنا نمر بأسوأ مرحلة من تاريخ البلديات، ما يحصل يدفع بالبلديات نحو الاحتضار فالموت”. ويتّهم شحادة الدولة بأنها “تريد القضاء على السلطات المحلّيّة في القرى”.
خدمات من صناديق مفلسة؟
“لم نعد قادرين على الاستمرار” عبارة تسمعها من غالبيّة رؤساء بلديّات النبطية، ويهدد معظمهم بالاستقالة، لكنهم يتمنّعون عنها حتّى الآن، إذ ربّما لم تصدر الموافقة الحزبيّة لهم على ذلك، بعد. “رمت الدولة كلّ الأزمات على عاتق البلديات”، أمر وصفه رئيس بلديّة عبّا الحاج محمّد عميص بـ”الطامة الكبرى”، وأضاف: “إنّ معظم البلديات باتت شبه منحلّة، وأعضاؤها تخلّوا عن مسؤوليّاتهم، ما أوقع الحمل على رئيس البلدية وحده”.
يُفكّر عميص جدّيًّا “بالاستقالة”، لأنّه كما يقول: “من الصّعب مواجهة ما يحصل من دون إيرادات. المال مفقود، والأزمات تضغط علينا أكثر، ثمّة أزمة نفايات باتت على قاب قوسين أو أدنى، وصلنا إلى طريق مسدود، والناس لا تتجاوب مع دعم البلديّة، كيف نكمل بـ300 مليون ليرة تحوّلها الدولة من الصندوق البلديّ المستقل سنويًّا، في حين حجزت أموال الهاتف والخلويّ منذ أكثر من ثلاث سنوات. وفوق كلّ ذلك ضاعفت الرواتب، فكيف ندفعها والصندوق مفلس؟”. “تستمر البلديات عالشحادة” يقول عميص، أمّا الدولة “فقد رفعت الأجور والضرائب ولم تلحظ واقع البلديّات وما يواجهها من تحديات”.
“لوبي” يحلحل المعضلة
يقتصر عمل البلديات اليوم وفق شحادة “على ملف النازحين من القرى الجنوبيّة والبحث عن حل للمشاكل التي تعصف بنا”. يسعى شحادة لتشكيل “لوبي ضاغط يضمّ رؤساء بلديّات واتّحادات بلديّات من كلّ لبنان، للضغط على الحكومة لحلحلة معضلة أزمة البلديات”. ووفق قوله: “500 مليون ليرة لا تتنج إنماءً، وهذا المبلغ لا يكفي رواتب شهر واحد”.
ويتوقّع شحادة “أن يلتقي اللوبي البلدي رئيس الحكومة نجيب ميقاتي في المقبل من الأيّام، لطرح واقع البلديّات وآلية دعمها ورفع ميزانيّاتها وفق سعر الصرف الحالي للدولار”. ويعوّل شحادة على “اللوبي” في “إنجاح مهمة تحسين ميزانيّة البلديّات لتتمكّن من العمل وإلّا فإنّ الإبقاء على سياسة إفلاسها يوصل إلى نتيجة واحدة فقط إنهاء البلديات”.
يغيب الإنماء كلّيًّا عن هذه القرى أو كما يقول شحادة: “كلفنا خاطرك” في إشارة منه إلى اختفاء الإنماء منذ بداية الأزمة الماليّة، أي منذ ما قبل الـ2019. أمّا عميص فيتمنّى إجراء الانتخابات “لإزالة الحمل عن كاهلنا”، لكن موسى يؤكّد “إنّنا مع انتخابات أو من دونها، الحال سيّان، طالمَا لا يوجد أموال ولا دعم”.
من المسؤول
يرمي معظم رؤساء البلديّات أسباب انهيار البلديّات على الدولة وسياساتها، لكن يبقى السؤال الأكثر إلحاحًا، من هي الدولة التي تُكال لها التهم وبمن تتمثّل؟ ومن يهيمن اليوم على قرار البلديات؟ وهل هي بلديّات مستقلة بالفعل، أم إنّها تخضع للتدخّلات وللتجاذبات السياسيّة والحزبية؟ وهل بقيت تلك البلديّات بمنأى عن الفساد والمحسوبيّات؟
أسئلة عديدة قائمتها تطول، تبقى الأجوبة عليها برسم المعنيّين الفعليّين بالبلديّات وبالقيمين عليها، ومن رأس الهرم، من الحكومة ووزارة الداخليّة، مرورًا برؤساء البلديات أنفسهم، وصولًا إلى أصغر عضو في المجالس البلدية المتروكة، كما يردّد رؤساء البلديات إلى قلّة قليلة، فيما تخلّى الجميع عن حماستهم واندفاعهم وتنافسهم يوم جرت الانتخابات إلى هذه المجالس، ثم تفكّكت بوجودهم فيها، وهي اليوم بحكم المنحلّة لو ترفع القوى السياسيّة يدها عنها.