بنت جبيل تفتقد مغتربيها والتصعيد يغلب الأمل بقدومهم
لم تستطع المسافات البعيدة ولا السنوات الطويلة أن تقطع خيط الحبّ والانتماء الذي يربط بنت جبيل بأبنائها المغتربين الذين سافروا بعيدًا عنها ذات يوم، لتحقيق أحلامهم بغد أفضل.
وحدها الحرب المستمرّة منذ عشرة أشهر، تقف عائقًا بين هؤلاء المغتربين وزيارة الصيف المعتادة، والتي لا يمكن لأيّ مغترب “بنت جبيليّ” أن يفوّتها، فالمواسم كثيرة متناثرة على مساحة الصيف بانتظاره، ولقاء الأحبّة بعد طول غياب أشدّ ما يتوق إليه. ولا تكتمل طقوس الزيارة إلى بنت جبيل من دون المشي بين “بسطات” سوق الخميس وتذوّق “الفراكة” “الجنوبيّة” المميّزة، إلى جانب ذكريات وعادات يعود إليها المغترب وتُشعره بأنس لا يجده بين جدران الغربة وصقيعها.
المغتربون والصيف
لم تتطابق حسابات المغتربين هذا الصيف مع بيادر بنت جبيل التي ترزح تحت وطأة الاعتداءات الإسرائيليّة المستمرّة منذ عشرة أشهر، فلم يحجز المغتربون تذاكر سفر يهلّ أوانها مع بداية كلّ صيف، عائدين إلى مسقط رؤوسهم كي يمضوا في ربوعها عطلاتهم السنويّة، حيث تغصّ بنت جبيل بأبنائها المغتربين في أميركا وأستراليا وكلّ بقاع الأرض.
اليوم لم يأتِ المغتربون إلى بنت جبيل فحسب، بل إنّ أهلها المقيمين لم يستطيعوا البقاء فيها، وذلك إثر التطوّرات العسكريّة الأخيرة التي حصلت، وأبرزها الاعتداء الإسرائيليّ الأخير على منطقة حارة حريك في ضاحية بيروت الجنوبيّة والتداعيات المستمرة والمرتقبة حتّى هذه اللحظة. لكن وعلى رغم ذلك، بقيت بنت جبيل قبل تلك التطوّرات تعيش وضعًا شبه طبيعيّ، مقارنة مع البلدات والقرى الحدوديّة الأخرى، وسبب ذلك، أنّ الاعتداءات التي طاولتها كانت محدودة، إذ كان لافتًا في الأيّام الأخيرة إعلان عدد من المتاجر والمطاعم إعادة افتتاح أبوابها بعد الإغلاق القسريّ.
أعداد محدودة من مغتربي بنت جبيل قررت المغامرة والمجيء على رغم الوضع، أمّا الغالبيّة الكبرى فقررت التمهّل ومراقبة التطوّرات، على أمل أن تضع الحرب أوزارها قبل نهاية الصيف، فيظفرون بما تبقّى من فرص المدارس ويأتون إلى البلدة؛ إلّا أنّ التطوّرات المتسارعة منذ نحو أسبوعين، لم تُطح بآمالهم فحسب، بل دفعت عديدًا ممّن أتوا إلى تقديم مواعيد رحلاتهم، ومن كان قد حجز للقدوم إلى إلغاء السفر.
المغتربون قلوبهم مع أهلهم النازحين
“القلوب عند بعضها”، يمكن لهذه العبارة أن تلخّص حال أبناء بنت جبيل اليوم، فمن هو في لبنان يفكّر بأولاده وأشقّائه وأفراد عائلته ممّن لم يستطيعوا المجيء بسبب الحرب، وبمدينته وبيته اللذين غادرهما رغمًا عنه، أمّا المغتربون في البلاد البعيدة فيحملون همّ أهلهم في لبنان ويعيشون القلق بكلّ قساوته.
من يعرف بنت جبيل صيفًا، يعرف ماذا تعني هذه البلدة لأهلها المغتربين. فهذه البلدة لم تغب يومًا عن وجدانهم، وهم ينتظرون الصيف سنة إثر سنة، لـ”يطلّوا” على بنت جبيل وناسها وحاراتها، ويأكلوا من إهلال مواسمها. ولا يمكن التغاضي عن أنّ هؤلاء المغتربين لم ينسوا أهلهم يومًا، ففي كلّ الأزمات والمنعطفات، كانوا سندًا وكتفًا لا يميل لأبناء البلدة، من خلال كثير من المبادرات.
يشير رئيس بلديّة بنت الحاج عفيف بزّي في حديثه لـ”مناطق نت” إلى “أنّ ثمّة مغتربين من بنت جبيل أتوا إلى لبنان على رغم كلّ شيء، وزاروا البلدة، إلّا أنّهم وبسبب الأوضاع السائدة لم يقيموا فيها”. ويؤكد أنّ هذه النسبة ضئيلة جدًّا مقارنة مع الذين امتنعوا قسرًا عن المجيء.
أعداد محدودة من مغتربي بنت جبيل قررت المغامرة والمجيء على رغم الوضع، أمّا الغالبيّة الكبرى فقررت التمهّل ومراقبة التطوّرات، على أمل أن تضع الحرب أوزارها قبل نهاية الصيف
وعن الوضع الاقتصاديّ في ظلّ غياب الأهالي والمغتربين على حدّ سواء، يلفت بزّي إلى “أنّ الوضع صعب جدًّا، والمتاجر المفتوحة أبوابها قليلة، وهي فقط لتيسير أمور الأهالي الصامدين”، مشدّدًا على دور المغتربين قبل الأزمة والحرب “في تحريك العجلة الاقتصاديّة في المدينة على مختلف الصعد”.
وفي هذا السياق، يؤكّد بزي، بعيدًا من الوضع الحالي، “أنّ بنت جبيل تحيا على الاغتراب وأموال الاغتراب، ولولاهما لكانت بلدة ميتة”، لافتًا إلى “أنّ هؤلاء لن يتخلوا عن أرضهم، وبمجرد وقف إطلاق النار سيأتون بسرعة إلى ربوع بنت جبيل”.
المغتربون في اختبار القلق
يصف المغتربون عدم مجيئهم إلى بنت جبيل هذه السنة بالـ”حسرة” الكبيرة. وفي هذا الإطار تقول جوليانا التي غادرت بنت جبيل نحو “ميشيغان” الأميركية، بعدما أمضت طفولتها وأولى سنوات صباها فيها، “إنّ هذه الحرب تجعل الأمر أكثر صعوبة”. وتضيف لـ”مناطق نت”: “يعني لي كثيرًا الحضور إلى لبنان، والسبب ليس للتنزه والسهر، إنّما لرؤية بنت جبيل، وهذا يكفي كي يشعرني بالراحة”. وتوصّف جوليانا قلقها تجاه ما يحصل “بأنّني أعاني من حالة نفسيّة سيّئة بسبب عدم قدومي إلى لبنان، وعدم قدرتي على لقاء عائلتي”.
في المقابل تشير والدة جوليانا، ووالدة عديد من أبنائها المغتربين، إلى أنّ فكرة الهجرة عندها كانت ممكنة على المدى البعيد، أمّا اليوم فيبدو أنّها الخيار الوحيد لتكون بأمان مع عائلتها. وتضيف إلى “مناطق نت” أنّه “حتّى لو حضر أولادي جميعهم في زيارتهم المعتادة، ستبقى الفرحة ناقصة، إذ إنّنا مهجرون في داخل بلدنا وسنكون غائبين عن بنت جبيل”.
في السياق نفسه، توضح مواطنة أخرى من بنت جبيل تعيش في ميشيغان، أنّها كانت وزوجها وأشقائها يجهّزون أنفسهم للمجيء إلى لبنان، “إلّا أنّ الوضع القائم منع هذا الأمر”. وتضيف إلى “مناطق نت” أنّ زوجها كان يحثّها على المجيء والإقامة في مدينة صور أو بيروت، إلّا أنّها رفضت هذا الأمر، “فكيف سأزور لبنان من دون بنت جبيل؟ ما بتخيّل حالي إنزل عـلى لبنان واقعد بمطرح غير بنت جبيل”.
في المقابل، تؤكّد مريم من بنت جبيل لـ”مناطق نت” أنّها كانت تنوي القدوم إلى الوطن على رغم كلّ شيء، “إلّا أنّ خوف ابنتي ورفضها زيارة لبنان بعد سماع الأخبار والتطوّرات على رغم صغر سنّها، منعني من النزول”.
أمّا زينب التي حجزت تذكرتها بانتظار المجيء إلى لبنان على رغم كلّ الظروف، بعدما كانت قد غادرت نحو كندا منذ سنوات، تقف اليوم أمام الوضع المستجّد “حائرة”. وتقول لـ”مناطق نت”: “على رغم اقتراب موعد سفري، فأنا لا أعرف حتّى الساعة إذا كانت قدماي ستطئان أرض لبنان أو لن ينجح هذا الأمر، للمرة الأولى منذ هجرتي”.
بين الحرب والحنين
وعن قصص الحنين والحسرة، يؤكّد حسن سعد من بنت جبيل، المغترب في نيويورك، في حديث لـ”مناطق نت” أنّها المرة الثانية بعد العام 2006 التي لم يستطع فيها زيارة بنت جبيل.
وعن معنى الزيارة، يوضح حسن بلهجة عامّيّة تفيض بالشوق والحنين أنّ “الشعور الأجمل ليس في لحظة الوصول إلى مطار بيروت، إنّما الأجمل، بس تكون طالع صوب الجنوب على بنت جبيل وبتوصل لمدخل بنت جبيل، بتبلّش تشمّ ريحة الحبايب وريحة تراب بلدك، بتصير تطلع شويّ شويّ بالسيّارة وعيونك عم تطّلّع بكلّ شي حولك وعم تسأل حالك شو تغيّر؟ وبتترقّب، بتوصل على صفّ الهوا وبتصير تتطلّع مين أوّل شخص بدّك تشوف من بلدك لتسلّم عليه وتقلّو أنا جيت.. حتّى الحجر بتحسّه عم يستقبلك”.
ويلفت إلى أنّه كان يحاول إبقاء عائلته وأولاده في بنت جبيل “ليعيشوا هنا، إنّما الظرف الطارئ اضطرّني كي أجعلهم يسافرون إلى حيث أعيش في نيويورك، ريثما تهدأ الأوضاع”.
حسن سعد: الشعور الأجمل ليس في لحظة الوصول إلى مطار بيروت، إنّما الأجمل، بس تكون طالع صوب الجنوب وبتوصل لمدخل بنت جبيل، بتبلّش تشمّ ريحة الحبايب وريحة تراب بلدك.. حتّى الحجر بتحسّه عم يستقبلك
كثيرة هي قصص الحنين والحسرة، وصعبة شكوى المغتربين أمام أهاليهم وأبناء بلدتهم، ممّن يعانون في وطنهم، من خسارة فرصة زيارة الصيف. وتبقى لهؤلاء معاناتهم الخاصّة، إذ اضطروا سابقًا ورغمًا عنهم إلى الهجرة ومغادرة بنت جبيل التي يحبّونها، وها أنّهم اليوم لا يستطيعون المجيء إليها. وعلى رغم كلّ شيء، يؤمنون بأنّ هذه البلاد والديار ستبقى لأهلها، المقيمين والمغتربين، وأنّهم عائدون إليها مهما طال الفراق. عائدون إلى مواسم تينها وعنبها وزيتونها، وإلى مواسم حبّها وحنينها.
بنت جبيل الاغتراب
يتجاوز عدد مغتربي بنت جبيل في أميركا وحدها حوالي 25 ألف نسمة وذلك بحسب رئيس بلدية بنت جبيل الحاج عفيف بزي الذي يضيف “يتمركز معظمهم في ولاية ديربورن، وهناك نسبة أخرى تتوزّع بين عدّة دول أخرى بينها أستراليا وأفريقيا وكندا وبعض دول الخليج”.
في كتابه “بنت جبيل حاضرة جبل عامل” يقسّم الدكتور مصطفى بزي هجرة أبناء البلدة إلى هجرات متعدّدة في الزمان والمكان. لكنّه يقف عند الباب الذي فتحته الولايات المتّحدة الاميركيّة سنة 1967 للهجرة عندما احتاجت إلى اليد العاملة في مصانعها العملاقة. كذلك يقف عند تدفّق الهاربين من الحروب اللبنانيّة منذ 1975 والحروب والاعتداءات الاسرائيلية منذ زمن بعيد.
وما كان لافتًا أنّ بعض الظروف التي أجبرت أبناء بنت جبيل على الهجرة سابقًا، تتكرّر اليوم. فإبّان النكبة الفلسطينيّة العام 1948 وبعدما كانت البلاد مفتوحة على بعضها البعض، وكان أبناء بنت جبيل يعملون في فلسطين و”يكزدرون” يوميًّا بين حدود البلدين، اضطرّوا إلى الرحيل بعيدًا بعدما ضاقت سبل العمل أمامهم. واليوم يسلك بعضهم الطريق نفسه، فمن كان يفكّر في الهجرة قبل الأحداث الأخيرة، اقتنع بالفكرة بعدها، وبعضهم حمل بالفعل حقائبه ومضى، ومنهم من ينتظر.
وتعتبر الهجرة نحو ميشيغان الأميركيّة من أبرز وأكثر الوجهات التي تستقطب أهالي بنت جبيل حتّى يومنا هذا، هم الذين شكّلوا فيها نموذجًا مصغّرًا عن بنت جبيل المدينة في القارّة الأميركيّة. وهناك أسّسوا المشاريع والأعمال ومارسوا مختلف أنواع التجارة، وصارت المتاجر تحمل الأسماء العربيّة. كذلك استطاعوا أن يحجزوا لهم مناصب حسّاسة ومهمّة على صعيد المدينة والولاية.