حسين مروة.. صاحب العمامة الحمراء
غادر الفتى، حسين علي مروة، ابن السادسة عشرة ربيعاً، المولود في العام 1910، بلدته الجنوبية في العام 1924، متوجهاً الى النجف الأشرف لدراسة العلوم الدينية، آملاً أن يخلف والده الشيخ علي، المتوفي في العام 1920، وهو من أعد لهذه المهمة مبكراً، فألبس العمامة البيضاء في سن الثامنة.
النجف قبلة العامليين
لكن السفر الى العراق يتطلب مصاريف كثيرة، غير متوافرة، وقد تولى طقس جمعها المقدس السيد عبد الحسين شرف الدين. يكتب مروة، عن تلك الفترة، قائلاً: “أحسست أثناء الاستعداد لتسفيري إلى النجف بالمهانة، جاء السيد عبد الحسين شرف الدين إلى الزرارية، بلدة آل مروة الأولى، ليجمع “خرجية” السفر لإبن الشيخ، ليصير “شيخ” العائلة. كنت حاضراً مجالس “الجمع” في الزرارية، وشهدت محاولات الناس للتخلص من “الضريبة” ومحاولات السيد قمع محاولاتهم تلك المشروعة. لكنني أثناء “العملية” لم أتمثل شعور المهانة، لأن “وعييّ” كان منصرفاً كلياً إلى الاستمتاع بشعور الفرح لكوني سأخطو خطواتي الأولى نحو طموحي الذي أنشأني الوالد عليه وبعد أن “راحت السكرة وإجت الفكرة” بدأ شعور المهانة يتسرب إلى نفسي ويقلقني، ويدفعني للتمرد، على “طموحي” نفسه”.
ولم يفعل الفتى، طري العود، غير سلوك الطريق الذي سلكها أبوه وسلكها كثيرون من صحبه: “صدر الدين شـرف الـديـن، علي الزين، محمد شرارة، هاشم الأمين، محسن شرارة، لكأن الطريق إلى النجف كانت حج العامليين وفريضتهم. لكنها على طولها وخشونتها أهون على أهلها من الطريق إلى بيروت ودمشق. فالأولى رحلة إلى الأمان يقتفي فيها الأبناء خطى الآباء، يقفون حيث وقفوا ويحلون حيث حلّوا. يمشون على حدائهم وذكـريـاتـهـم، تلك هجرة إلى الداخل، أما الثانية فهي على قربها ودنوها تغريب وخبط في مطارح لا نهتدي فيها بعلم السلف ولا ذكرياتهم. تلك هجرة في الخارج ودونها آلام وتيه وانتفاء في الأصل والنفس”، على ما يقول الشاعر الكبير، عباس بيضون، كاتب سيرة مروة في “ولدتُ شيخاً وأموتُ طفلاً” (1990).
تمرد وكفاح
وفي سنته الأولى، من إقامته في النجف، كان خلالها “إبناً مطيعاً لنظام الدراسة، ولأفكار القوم، ولطقوسهم الدينية والأخلاقية والفكرية والاجتماعية، لكن، ما أن انقضت هذه السنة الأولى حتى رأيتني ” الإبن الضال” عن كل ذلك، الكاره لكل ذلك؟”، كما كتب بخط يده. وبدت حياته عبارة عن صراع محض ضد ظروف العيش، فعاد الى لبنان في العام 1928، تاركاً الدراسة الدينية، لكن المصاعب المادية أعادته الى النجف، ليعمل أميناً لمكتبة عامة في مدينة العمارة، جنوب العراق، تحت إشراف الشيخ حبيب العاملي، الذي كان يحتل مركز زعامة دينية.
لكأن الطريق إلى النجف كانت حج العامليين وفريضتهم. لكنها على طولها وخشونتها أهون على أهلها من الطريق إلى بيروت ودمشق
بيد أن الحال لم يدم به هناك، ففصل منها بحجة نشر الإلحاد بين الشباب، فترك العمارة متجهاً الى بغداد، العاصمة، حيث وجد عملاً في التدريس، وبعد ترحال بين دمشق وبيروت وزواج وانجاب. دارت الأيام دورتها وعاد الفتى المشاغب الى النجف مجدداً في العام 1934، لمتابعة الدراسة بجد واجتهاد. ويقول مروة إن زملائه الذين عاصروه في تلك المرحلة: الشيخ جواد مغنية، السيد هاشم معروف، الشيخ عبد الله نعمة، قد شهدوا له بهذه الحقيقة كما شهدوا “بغنى الحصيلة التي ظفرت بها من الدراسة الجادة المجتهدة”، حتى انتهى مروة من دراسته هذه بنجاح.
النضال على جبهة الثقافة
ومنذ العام 1926 اكتشف في داخله حب الحرف والكتابة، مرتحلاً في أصناف الفنون الأدبية، ومناضلاً على الأرض مع أخوانه العراقيين ضد املاءات التاج البريطاني، فأخرج قسراً من العراق في العام 1949، فعاد الى بلاده، وفي تلك الأرض القاحلة كان قد تسرب فكر كارل ماركس الى وعيه وملأ حياته، فكان “العاملي الأحمر”، بعبارة الكاتب اللبناني محمد ناصر الدين.
وفي ربوع بلاده وضياء شمسها انصرف الى الكتابة والنضال على جبهة الثقافة، فأصدر مع الناقد، محمد دكروب، رفيق دربه، مجلة “الثقافة الوطنية” بدءاً من العام 1952، فكانت منبراً للجديد في الأدب والفكر، فنشرت على صفحاتها كل الوجوه العربية التي برزت في الخمسينيات، من مصر وسوريا والعراق والجزائر وفلسطين، وترافق ذلك مع نهوض حركة التحرر العربي، مستفيدة من وهج الثورة المصرية بقيادة جمال عبد الناصر.
واسهام مروة في المجلة، بحسب ما يروي محمد دكروب في شهادة عنه، تقديمه الجديد في ميدان النقد الأدبي، وإعادة النظر والبحث في التراث الفكري العربي القديم، وذلك استناداً الى المنهج الماركسي “أداة للكشف عن كنوز ثقافتنا الوطنية ولإحياء تراثنا الفكري العربي القديم، حين يتيسر لنا أن نتوفر على إحياء هذا التراث وفق أسس نقدية موضوعية حية”، وفاقاً لما كتب أبو نزار، في تقديمه نصوص “في الثقافة المصرية” لمحمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس. وقد قدّر دكروب إن في أدب مروة “يمتزج الفكر العميق بالعاطفة الوطنية، بالحب العارم للحياة وللناس الكادحين دائماً”.
التراث ومعرفته جدلياً
انشغل مروة بقضية التراث، وكانت من المسائل الشائكة المطروحة على العقل العربي في صيغة ثنائية الأصالة والمعاصرة، ففي كتابه ”تراثنا، كيف نعرفه” (1985)، عد المسألة في جوهرها هي في بحثنا عن “معرفة” التراث، فجوهر المسألة هنا هو “كيفية” هذه المعرفة، من دون المعرفة بذاتها ولذاتها، أو دون المعرفة بالمعنى المطلق، فإن هذا “المطلق” لا وجود له خارج دائرة الوهم الذهني، لا وجود له إلا في دائرة المستحيل. إن معرفةً للتراث من دون “كيفية” ما، أي دون انتماء فكري معيّن، ومن دون منهجية تستمد “شرعية” من هذا الانتماء، إنما هي معرفة مستحيلة.
وقد تخطّى مروة الطريقة السلفية في معرفة التراث باعتباره قضية الماضي لذاته، وإسقاطه على الحاضر وإعادة إنتاجه بالتالي بصورته الغيبية، ليقدم سبل معرفة له، تقوم على الفكر العلمي الديالكتيكي، وتنظر إليه في تاريخيته، وتُصوّر الحاضر كحركة صيرورة تتفاعل من داخلها منجزات هذا الماضي وتؤسس للمستقبل، كما يعبر أحد الباحثين. وقد نجح في إعادة بناء “رؤيتنا للتراث الفلسفي مبرزاً ما فيه من كنوز الفكر المادي الموضوعي الذي طالما غُيِّب وما زال يغيَّب عند أغلب من يكتبون عن هذا التراث، فضلاً عن كشفه لحقائق الصراع الطبقي في قلب التراث الفكري والأدبي والديني والثقافي عامة، بغير جمود منهجي أو أيديولوجي”، وفاقاً لكلمات المفكر المصري محمود أمين العالم، في شهادته عن فكر ومسيرة الشيخ الماركسي الجليل.
نجح مروة في إعادة بناء رؤيتنا للتراث الفلسفي مبرزاً ما فيه من كنوز الفكر المادي الموضوعي الذي طالما غُيِّب وما زال يغيَّب عند أغلب من يكتبون عن هذا التراث
أتى السفر الضخم الذي أنجزه مروة “النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية” (1978)، مصداقاً لتطبيق المنهج المادي الجدلي على التراث، إذ السائد في الدراسات كان غلبة النظرات والمواقف المثالية، ما جعل المقاربة منفصلة عن جذورها الاجتماعية، فبدا التراث “سكونياً” و”لا تاريخياً”.
واعتبر مروة إن بحثه يتصل بالحاضر وقضاياه، ويقع ضمن مسائل “النهضة العربية” السابقة والراهنة، ورأى في مقدمة عمله الآنف الذكر، إن حل مشكلة العلاقة، حلاً علمياً، بين حاضرنا العربي، بكل أبعاده الوطنية والاجتماعية والفكرية، وبين تراث ماضينا الفكري، يتوقف على توافر الوضوح العلمي لدينا عن حقيقتين: أولاهما، حقيقة المحتوى الثوري لحركة التحرر الوطني العربية في حاضرها وفي آفاق تطورها المستقبلي. وثانيتهما، حقيقة الترابط الجوهري بين ثورية هذا المحتوى وثورية الموقف من التراث، بمعنى ضرورة كون الموقف من التراث منطلقاً من الحاضر نفسه، أي من الوجه الثوري لهذا الحاضر.
في 17 شباط من العام 1987، وبيروت غارقة في الفوضى، وعلى عتبة الثمانون، ورغم هزالة جسده وسماحة وجهه، انطلق رصاص المسدس كاتم الصوت، إلى صدغه، انتقاماً من عقله المستنير، فخضبت عمامته بلون الدم القاني، لون حزبه.