سنة من الحرب عام من النزوح
النزوح مفردة من مفردات الحرب، وهو بالتأكيد ليس كالاستشهاد أو الإصابة أو الوقوع في الأسر، وربّما لا يعادل فقدان المنازل ومصادر الرزق، لكنّه الفصل الأطول زمنيًّا، إذ ربما يبدأ قبل الحرب ولا ينتهي بعدها، وهو الذي يُحدِث أحيانًا تبدّلات ديموغرافيّة تُغيّر كثيرًا في بُنية الدول والشعوب ومستقبلها، وفي خرائط المناطق والأقاليم.
والنزوح يطال أكبر عدد من الناس، يفوق الجرحى والشهداء، ويطال الجميع رغمًا عن إرادتهم، ويلقي كذلك على الدولة عبئًا يوميًّا على الصعيد الاقتصاديّ وتأمين المساعدات وأماكن الإيواء. والنزوح يفضي أحيانًا إلى مشاكل أمنية أو اجتماعيّة أو ديموغرافيّة .
على المستوى الشخصيّ مررت بعشرات التجارب من النزوح المتكرر، منذ بداية الحرب الأهلية، 1975، وقاسى أهلي وأجدادي النزوح أكثر من مرّة، منذ العام 1948 بعد مجزرة حولا قريتي، وتتابع الأمر على مدى الاجتياحات والحروب إبّان الصراع العربيّ- الإسرائيليّ المستمرّ منذ 76 عامًا وأكثر.
النزوح والمسؤوليّة
لكن النزوح الأخير، كان النزوح الأوّل لي كأب وربّ أسرة وأطفال عليّ حمايتهم، وهنا القلق يتضاعف والمسؤوليّة تصبح أكبر وأخطر. كان أوّل نزوح من حولا بعد نحو شهر من الحرب التي بدأت في الثامن من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، إلى كفررمان تلك البلدة الجميلة، حاضنة أبناء “الشريط الحدوديّ” وخصوصًا أبناء حولا وبليدا وكفركلا وغيرها، منذ خمسينيّات القرن الماضي، حيث كانت الاعتداءات الإسرائيلية تقتلهم وتدمر بيوتهم وتشردهم، منذ ذاك الحين، وثمّة عدد من هؤلاء النازحين استقرّ في كفررمان وأصبح من أهلها مثل عائلة عبدالله فوعاني (أبو خالد) التي استقبلتنا ومن خلالها تعرّفنا إلى شخص من آل نجم من كفررمان، فقدّم لنا بيته مجّانًا، وكان مثال الإنسان الشهم والمضياف والكريم.
في كفررمان التي تحوّلت من بلدة إلى مدينة مكثنا ثمانية أشهر، ثم وجدنا بيتًا أكبر في زوطر الشرقيّة، تلك القرية الهادئة الوادعة والتي استقبلنا أهلها في أهداب العيون، ومكثنا عند أصدقاء من آل حرب، فغمرونا بطيبتهم ووداعتهم وكرمهم بما يفوق الوصف. ثم ومنذ أسبوعين تقريبًا، بعد التطوّر الأخير انتقلنا إلى وادي الزينة شمالي صيدا، فنزلنا عند أقارب لنا في محطّةٍ موقّتة، حتّى كان الاستقرار الأخير في طرابلس، المدينة التي نتعرّف إليها لأول مرّة ونكتشف وجهها الأجمل الذي يختلف أو يُعاكس تمامًا ما يتداوله الإعلام وكثيرون ممّن لا يعرفونها على حقيقتها، فوجدنا فيها حضنًا دافئًا وقلوبًا طيّبةً ومحبّةً وتواضعًا.
النزوح الأخير، كان النزوح الأوّل لي كأب وربّ أسرة وأطفال عليّ حمايتهم، وهنا القلق يتضاعف والمسؤوليّة تصبح أكبر وأخطر كان أوّل نزوح من حولا بعد نحو شهر من الحرب التي بدأت في الثامن من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، إلى كفررمان
الفصل الأصعب
خلال رحلة النزوح والتي كان فصلها الأصعب هو الخروج من زوطر الشرقيّة إلى وادي الزينة، إذ استغرقت المسافة القصيرة هذه 14 ساعة من الوقت، في حين أنها في الأيام العاديّة لا تحتاج إلى أكثر من نصف ساعة، وكان يوم كيوم القيامة: القصف حولنا، وخطوط السيّارات تمتدّ من النبطية حتّى صيدا، بشكل متواصل ومتراص، وكان بعض الناس كالهائمين على وجوههم لا يدرون أين يذهبون.
قطع عديد من الناس مسافات النزوح الأولى سيرًا على الأقدام ووصلوا قبل السيارات. كان مشهدًا يشبه مشاهد النزوح في غزّة التي بقينا نعاينها أكثر من سنة على شاشات التلفزة ومواقع التواصل الاجتماعيّ، ونحزن لها ونردّد: “الله يكون في عونهم”. مثلهم بتنا نحن، هذا يحمل ابنه على كتفه، وذاك يحشر أولاده الأربعة فوق درّاجته الناريّة، وتلك سيّارة معطّلة وأخرى متضررة من القصف. وكان أكثر ما آلمني مشهد امرأة عجوز وزوجها بجلسان في صندوقة سيارة.
لن أنسى مشهد طفل أغلق على نفسه صندوقة السيارة خجلًا عندما رآنا ننظر نحوه. أمّا أنا فقد احترقت سيارتي نتيجة احتكاك الفرامل، وكان مشهدًا فظيعًا إذ إنّها بدأت تحترق وأولادي فيها، وأنقذناهم في اللحظة الأخيرة، وكانت ليلة عذاب طويلة، لن تغيب مشاهد الذين يفترشون الطرقات والأرصفة وتحت الجسور وفي الملاعب والمدارس.
نزوح الروح الأصعب
النزوح يعني ان تترك البيت والضيعة وملاعب الطفولة. وبالنسبة لي تركت كلّ ذاكرتي، كتبي ودفاتري ومقتنياتي، وكَمًّا من الصور والتحف والطوابع والعملات والقطع التراثية التي جمّعتها على مدى عشرات السنين، وكنت أنوي أن أعرضها في متحف تراثيّ كبير يحكي تاريخ بلدتي حولا والمنطقة المجاورة لها، والتي لا أعلم حتى الآن عن مصيرها شيئًا، وأعيش قلقًا دائمًا عليها، لأنها إذا ذهبت لا يمكن الإتيان بمثلها من جديد.
النزوح يقصيك جسديًّا وقسرًا عن المكان الحميم، أمّا الروح فتبقى في مكانها لا تبرحه، خصوصًا قلوب وأرواح كبار السن الذين يعانون أكثر من غيرهم، لِما تعنيه لهم تلك القرى التي عاشوا أعمارهم كلها فيها، وبعضهم لم يسبق له أن غادرها إطلاقًا، وهم يتعذّبون نفسيًّا، ويُعذِّبون معهم أبناءهم الذين يحتارون في كيفيّة التخفيف عنهم.
انظر نحو أطفالي الذين خسروا مدرستهم وألعابهم وطفولتهم، وهم يذوقون مرارة التهجير ورعب القصف والغارات، ويمرّون بما مررت به ومرّ به أهلي وأجدادي، ربّما هو النزوح الأصعب لأنّ هذه الحرب هي الأعنف والأشرس والأوسع، ولأنّ الوضع الاقتصادي يُلقي بظلاله على المشهد، ولا وجود لدولة تقوم بالحدّ الأدنى من واجباتها، والناس متروكون لمصيرهم المجهول يتخبّطون خبط عشواء، من منطقة إلى أخرى، ومن بيت إلى بيت، أو من رصيف إلى آخر بعدما ضاقت بهم المدارس والجامعات والجوامع والكنائس.