“سِحر” بترا سرحال… عودة إلى زمن الأعشاب والبركة

في زمنٍ لم تكن فيه الصيدليّات تفتح أبوابها عند كلّ زاوية، كانت جدّاتنا يعرفن ما تجهله المختبرات اليوم. كانت الطبيعة مطبخهنّ وعيادتهنّ في آنٍ واحد، يحفظنَ أسماء الأعشاب وخصائصها، وترافق كلّ عشبة في ذاكرتهنّ حكايةٌ تشفي من الداء مهما استعصى.

اليوم، حين نمرض، نبحث عن رقم طبيبٍ أو تطبيقٍ لتوصيل الأدوية. نرتاح إلى فكرة أنّ العلم تقدّم، لكنّنا في المقابل فقدنا أشياء لا تُقاس بالدواء ولا تُباع في علبة: فقدنا علاقتنا بالشفاء كفعل حبّ وحنان. لم نعد نؤمن بأنّ رائحة كوب الزهورات قادرة على تهدئة أرواحنا، ولا بأنّ لمسة يد الجدّة على الجبين كانت تحمل في طيّاتها علاجًا يفوق المورفين. من هذه الفكرة تحديدًا، يولد العرض الأدائيّ الحسّيّ الذي تقدّمه الفنّانة بترا سرحال تحت عنوان “سِحر”.

طقوسٌ في حضن الجدّات

برفقة صوت فيروز وهي تغنّي “بيتك يا ستّي الختيارة”، تستقبلنا سرحال في حديقة غاليري “نو/ماد يوتوبيا” (الجمّيزة – بيروت)، مرحّبةً بنا برذاذ عطرٍ من النباتات البرّيّة وكأسٍ من ماء الورد. بهذه الطقوس البسيطة تبدأ رحلتنا في “سِحر”، عرضٌ يُعيدنا إلى الجذور، إلى زمنٍ كانت فيه النساء على تواصلٍ حقيقيّ مع الأرض، ينظرن إلى القمر، ويجدن في الوديان أعشابًا تشفي الجسد والروح. تجربةٌ سِحريةٌ مع النباتات العطريّة والطبّيّة والزهور، نخوضها بجميع حواسنا بينما نستمع إلى حكاياتٍ عن علاقة النساء بالحبّ والفقدان والطبيعة والسحر.

طاولة الأعشاب ووصفات الجدّات

يجلس نحو عشرين مشاركًا حول طاولةٍ مستطيلة تتصدّرها سرحال. تبدأ حديثها بكأس ماء الورد الذي، كما تقول، “يفتح القلوب”. تستحضر ذكرياتٍ عن جدّتيها، عن إيمانهما بالتعاويذ والأعشاب، وبالكلمات التي تُتلى لطرد الأرواح الشرّيرة.

من عرض “سحر” ل بترا سرحال في حديقة غاليري “نو/ماد يوتوبيا” (الجمّيزة – بيروت)

تستعيد وصفاتٍ قديمة تعلّمتها منهما ومن “الساحرات” اللواتي التقت بهنّ خلال رحلاتها، وتشارك الجمهور خلطاتٍ تجميليّة وأخرى طبّيّة وروحيّة. تقدّم لنا، مثلًا، ورقة الغار التي كانت الجدّات يضعنها في محافظ النقود وزوايا البيوت لجلب الرزق. وتحدّثنا عن أعشابٍ أخرى كان يُعتقد أنّها تجلب الحبّ أو تبعد الحسد. بين مفرش المائدة المزدان بالورود والأعشاب المعلّقة من السقف، تتحوّل الطاولة إلى مختبرٍ للحكايات والروائح، حيث تمتزج الذاكرة بالعِلم الفطريّ.

من زهر البيلسان إلى الجنوب

وسط الأعشاب المتدلّية، تبرز عشبةُ البيلسان اليابسةُ برائحتها الفوّاحة. تتحدّث سرحال عن سحرها، وتستحضر كلمات طلال حيدر التي غنّتها فيروز: “وحدن بيبقوا مثل زهر البيلسان”. تروي قصّة الفدائيّين الثلاثة الذين اعتقد كثيرون أنّ حيدر كتب كلماته لرثائهم، وتربط الحكاية بضحايا الاعتداءات الإسرائيليّة الأخيرة في الجنوب وفلسطين فيتملّك الجمهورَ صمتٌ وخشوعٌ يشبهان لحظةَ صلاة.

تقول سرحال لـ “مناطق نت”: “هذا الأداء هو تحيّة، وإعادة إحياء عبر النباتات، للأشخاص الذين فقدناهم في السنوات الماضية، فهم رحلوا كوسيلة لإعادة إحياء الأرض”.

تستعيد سرحال وصفاتٍ قديمة تعلّمتها منهما ومن “الساحرات” اللواتي التقت بهنّ خلال رحلاتها، وتشارك الجمهور خلطاتٍ تجميليّة وأخرى طبّيّة وروحيّة

الأسطورة والرقية

تشاركنا الأساطير التي ارتبطت قصصُها ببعض النباتات والزهور، كأسطورةِ أدونيس الذي وقع في حبّ عشتروت، فخطّطت بيرسيفون لقتله، حتّى سالت دماؤه بين يديّ عشتروت التي بكته طويلًا، ثمّ نبتت مكانه زهرةُ شقائقِ النعمان.

كثيرُ من قصصِ النساء، القريبةِ والبعيدة، التي تتناول الحبَّ والفقدَ والطبيعةَ، ترويها سرحال لنا وهي تشاركنا سِحرَ النباتاتِ المتنوّعة.

لكن، في زمنٍ مضى، لم تكن الأعشابُ وحدها في معركة الشفاء. تختتم سرحال جميع هذه القصص بحديثها عن “الرُّقية”، تلك الكلماتِ الموروثةِ التي تُتلى بصوتٍ خافتٍ إلى جانب المريض، حمايةً له من الحسد أو ممّا يُسمّى “صيبة العين”. كانت الجدّات يردّدنها بإيمانٍ مطلق، غيرَ آبهاتٍ بمن يسخر من هذه الطقوس. فالكلمةُ عندهنّ لم تكن مجرّدَ صوت، بل طاقةٌ تردّ الأذى وتُعيد التوازن إلى الجسد والروح.

سحر الطبيعة وحنين ما فقدناه

هكذا يُختتم العرض المستوحى من أدوات الشفاء التي استقتها سرحال من جدّاتها و”الساحرات” اللواتي التقت بهنّ خلال رحلاتها الاستكشافيّة.

مع كلّ التطوّر الذي يواكب عصر السرعة، انقطعت السلسلة التي كانت تربطنا بجذورنا، وصار الطبّ الشعبيّ مجرّد “تراثٍ فولكلوريّ” يُعرَض في المهرجانات، بينما كان في الحقيقة منظومةَ حياةٍ متكاملة: معرفةً بالنبات، وتواصلًا مع الأرض، وإيمانًا بالشفاء الطبيعيّ، وعلاقةً حميميّةً بين الجسد والكون.

هذا ما تحاول سرحال تقديمه لنا في رحلةٍ تمتدّ نحو ساعةٍ ونصف الساعة، تُعيدنا إلى الجذور وتُنعش فينا الإيمان بالقدرة السحريّة التي تمتلكها الطبيعةُ على شفاء الأجساد والأرواح، ومنحِ الجمال لمن يبحث عنه.

في زمنٍ بعيد، آمنت جدّاتُنا بأنّ الشفاء يبدأ من الأرض، وأنّ لكلّ داءٍ دواءً مختبئًا في الحقول وخلف الصخور. ربّما لم تكن الجدّاتُ يعرفن أسماءَ الأمراض الحديثة، ولا يملكن شهاداتٍ جامعيّة، لكنّهنّ كنّ أكثرَ اتّصالًا بأجسادهنّ وأرضهنّ منّا.

اليوم، في زمن السرعة والمضادّات الحيويّة، يبدو أنّ ما نحتاجه حقًّا ليس وصفة دواءٍ جديدة، بل عودة إلى الجذور التي تنتظر أن نُعيد وصلها بالأرض ونباتها. ذلك بالضبط ما تُقدّمه بترا سرحال في عرضها الأدائيّ الحسّي “سِحر”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى