«كما في السماء كذلك على الأرض» معرض أيقونات تنسج نفسها

حينما ندخل «دار النمر» في الحمرا، ندخل نصًّا بصريًّا متراكبًا يفيض بهالات روحيّة من زمن آخر. الأيقونات المشرقيّة تقف شاهدة على حكايات الخلق والقدّيسين، مرسومة بلون الذهب على الخشب، أشبه بصلوات مرئيّة تكتب نفسها بلا كلمات. هنا، كما قال رولان بارت: «النصّ يتفتّت إلى لذّات»، وكلّ أيقونة تتحوّل إلى جسد من العلامات يفتح أمام القارئ احتمالات لا تنتهي.

رأس بيروت: خصوصيّة المكان

تضيف إقامة معرض «كما في السماء كذلك على الأرض» في رأس بيروت إلى الحدث بُعدًا رمزيًّا يضاعف قيمته. هذه البقعة التي وصفها المؤرّخ كمال الصليبي بأنّها «تشكيل فريد في رقيّه»، تؤلّف منذ عقود مختبرًا حيًّا للهويّات المتجاورة. الأزقّة والمقاهي، الجامعات والمكتبات، المقيمون والوافدون، جميعهم صاغوا فسيفساء بشريّة وثقافيّة جعلت من رأس بيروت مرآة لبيروت وروحها في آن.

رأس بيروت تمثّل ذاكرة متحرّكة للمدينة. خلال الحرب الأهليّة استمرّت في أداء دورها كنبض مدينيّ وثقافيّ، وأبقت على مساحاتها منصّة للقاء المختلفين. وفي أيّام الانهيار والقلق الراهن، تواصل أداء هذا الدور؛ فساحة الحمرا ما زالت تضجّ بالحركة، والمقاهي تتحوّل إلى منتديات للنقاش، والجامعة الأميركيّة تفتح باحاتها للحوار بين الأجيال، والمكتبات الصغيرة تواصل حفظ الذاكرة.

معرض “كما في السماء كذلك على الأرض» في رأس بيروت

حين تصل أيقونات القدس إلى هذا المكان، يتجسّد لقاء بين مدينتين تحملان فرادة التاريخ والروح. الأيقونة التي تختصر القدس كرمز للقداسة والذاكرة، تجدُ في رأس بيروت فضاءً معاصرًا يعيد إنتاج حضورها، نصًّا حيًّا يعبر الأزمنة. الحمرا، بحيويّتها وازدحامها، تتحوّل إلى جسر يربط النصّ المقدسيّ بالحاضر، و«دار النمر» يتّخذ هيئة جسد حيّ يكتب تاريخًا جديدًا: لقاء زمن القدس بزمن بيروت.

هذا اللقاء يتجاوز عرض اللوحات على الجدران؛ إنّه حوار بين مدينتين صاغتهما التجارب والقلق والبحث الدائم عن معنى. القدس تحضر في بيروت كامتداد طبيعيّ لذاكرة المكان، والمعرض يعلن أنّ الفنّ يربط بين المدينتين في قوّة ذاكرتهما المشتركة. الأيقونة هنا تكتسب وظيفة مضاعفة: صورة مقاومة، وجسر مفتوح بين زمنين ومكانين.

الأيقونة خطاب بلا كلمات

الأيقونة تمثّل خطابًا بصريًّا كاملًا يتجاوز حدود الزينة الكنسيّة أو الأدوات الطقسيّة. في المعرض، تتجاور مشاهد الميلاد والمعموديّة والجلجة، وصور يوحنّا الرسول وقيافا رئيس الكهنة وأيقونات العذراء. هذه المجموعة تعود بمعظمها إلى القرن التاسع عشر، منجزة بتقنيّة التيمبرا على الخشب، وهي التقنيّة التي ارتبطت بالقداسة منذ القرون المسيحيّة الأولى.

من بين الأعمال ما يحمل توقيع رسّامين فلسطينيّين بارزين مثل ميخائيل مهنّا القدسيّ (1885)، وما بقي منها من دون توقيع لكنّه مفعم بالأسلوب المحلّيّ الذي ميّز مدرسة القدس.  المدرسة جسّدت امتدادًا حيًّا للتراث البيزنطيّ مع ملامح فلسطينيّة أصيلة؛ وجوه مستديرة وعيون لوزيّة تستحضر الفنّ الشعبيّ العربيّ، وحروف يونانيّة وعربيّة تتجاور على سطح اللوحة لتكشف هويّة مزدوجة، إيمانيّة ووطنيّة في آن.

 حينما تصبح العلامة هويّة

في القرن التاسع عشر، ظهرت مدرسة القدس التي جعلت من الأيقونة علامة محلّيّة متفرّدة. فرس مار جرجس مثلًا تحوّل إلى مشهد يحمل سرجًا قرمزيًّا مرصّعًا بالنجوم، يوحي بعمامة سلطان عثمانيّ. النصوص المكتوبة جمعت بين اليونانيّة والعربيّة، والتوقيع بكنية «القدسيّ» أكّد أنّ الهويّة تكمن في المضمون والتوقيع معًا.

كلّ لوحة من هذه المدرسة تجسّد تمثيلًا للقداسة، وفي الوقت ذاته خطابًا بصريًّا عن الانتماء، حيث يكتب الرسّام اسم مدينته داخل اللوحة نفسها.

جاءت النكبة لتجزّئ المسار الفنّيّ كما جزّأت حياة الشعب الفلسطينيّ. بعض الفنّانين سقطوا في معارك يافا، آخرون رحلوا في فقر مدقع

 من القداسة إلى العلمانيّة

الأيقونات المقدسيّة عبرت حدود المدينة وانتشرت في بلاد الشام. الحجّاج حملوا نسخًا صغيرة بصيغة تذكارات، بينما زُيّنت الأديرة في لبنان وسوريا بأيقونات أكبر، ووصل أثرها إلى مصر. النصّ البصريّ المقدسيّ تكاثر في الأطراف بعد أن انطلق من المركز، محقّقًا حيويّة استثنائيّة عبر التكرار والتحوير.

في مطلع القرن العشرين، شهد الفنّ الفلسطينيّ تحوّلًا نوعيًّا. الأيقونة التي حملت الهالة الذهبيّة قرونًا دخلت فضاءات جديدة. نقولا الصايغ وخليل الحلبي، برفقة رائدات مثل زلفة السعدي ونهيل بشارة وصوفي حلبي، نقلوا الإرث المقدسيّ إلى لوحات تحاكي الحياة اليوميّة والوطنيّة.

·زلفة السعدي رسمت شخصيّات وطنيّة أيقونات.

·نهيل بشارة جعلت شوارع القدس مرادفة للقداسة.

·صوفي حلبي حمّلت أشجار الزيتون وهجًا يوازي الملائكة.

هكذا تبدّلت العلامة: اللاهوتيّ أصبح يوميًّا، والمعجز اتّخذ هيئة المشهد الطبيعيّ. إنّها لحظة «انفجار النصّ» التي وصفها بارت، حيث تغيّر العلامة وظيفتها من دون أن تفقد سحرها.

النكبة صمت العلامة

جاءت النكبة لتجزّئ المسار الفنّيّ كما جزّأت حياة الشعب الفلسطينيّ. بعض الفنّانين سقطوا في معارك يافا، آخرون رحلوا في فقر مدقع، وبعضهم هاجر إلى المنافي. الأيقونة فقدت جمهورها الأصليّ لكنّها واصلت العيش كنصّ مقموع في الهوامش، في انتظار قارئ يعيد إليها صوتها.

ما يقدّمه المعرض في «دار النمر» يتجاوز العرض الكلاسيكيّ للأيقونات. خرائط طوبّوغرافيّة تجمع بين الأرض والسماء، أيقونات منمنمة على أصداف وعظام أسماك حملها الحجّاج كتذكارات، ومشاهد الدينونة الأخيرة فوق كنيسة القيامة. التعدّد يمنح القراءة طابعًا متشظّيًا، متعدّد الأصوات، كما أراد بارت للنصّ: «نسيج اقتباسات» لا ينحصر في أصل واحد.

 الفنّ وظيفة ضدّ المحو

اليوم، يواصل «مركز بيت لحم للأيقونات» هذا التراث، عبر تلامذة يسعون إلى الحفاظ على الهويّة البصريّة المقدسيّة. الأيقونة تظهر على نحو كائن حيّ يواصل إنتاج المعنى، والمعرض في بيروت يثبت أنّ هذا الفنّ ليس مجرّد أثر معلّق بل شهادة مقاومة ضدّ النسيان، وحفظ للذاكرة في وجه المحو.

“كما في السماء كذلك على الأرض” أكثر من عنوان معرض؛ إنّه جملة بصريّة ونصّ مضاعف يجمع بين قداسة السماء وتجربة الأرض. الأيقونة هنا تتجلّى صورة وكتابة معًا، والكتابة تتحوّل إلى خطاب يتجدّد باستمرار.

المعرض يمنحنا درسًا سيميائيًّا عميقًا: الفنّ الفلسطينيّ، شأن النصّ العظيم، يعيد كتابة ذاته في كلّ مرة، في عين كلّ متلقٍّ يقرؤه، وفي ذاكرة كلّ مدينة تحتضنه. وفي بيروت، كما في القدس، تستمرّ الأيقونة علامة مقاومة وذاكرة حيّة تكتب نفسها عبر العصور.

وهنا لا بدّ من تحيّة للفنّان والمؤرّخ محمود زيباوي على جهده الكبير في ترتيب المعرض ومنهجته وتوثيقه ليكون بهذه الانسيابيّة التي تجمع شروط عرض اللوحات بشروط تدوين مواصفاتها كشرح ضروريّ لفهم كلّ عمل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى