كيف تصبح شاعرًا في بيروت؟

ما يُكتب في هذه الزاوية لا يُعبّر عن آراء “مناطق نت”، بل عن آراء الكاتبة وحدها.

إذا كنتَ تعاني من حساسيّةٍ مفرطة، وتتّخذ كلّ الأمور على محملٍ شخصيّ، أو إذا كنتَ تحمل السُلَّم بالعرض وتمشي، فننصحك بتجنّب قراءة هذه المقالة.

“أسئلة من الفقّاعة”: هي سلسلة مقالات ساخرة، تسخر من الواقع وتواكبه، تهزأ من تناقضاتنا وتحبّها، وتحاول أن تشرح لك، بخطوات بسيطة، كيف تنجو في هذه المدينة… أو كيف تغرق بأناقة؟

“أسئلة من الفقّاعة”

كيف تصبح شاعرًا معروفًا في بيروت؟ (قهوة، حزن، وفيسبوك)

هل سئمت من محاولتك العثور على فقّاعة مناسبة تنتمي إليها في بيروت؟ ما رأيك في الفقّاعة الشعريّة؟ لا تقلق، في بيروت، لا تحتاج إلى موهبة كي تصبح شاعرًا معروفًا، ولا إلى تجربة، أو حتّى علاقة صادقة مع اللغة. كلّ ما تحتاجه هو معرفة كيفيّة عمل المنظومة في هذه المدينة: تلك الشبكة المعقّدة من المقاهي، الأمسيات، صور فيسبوكيّة، والخيبات الشخصيّة التي تتحوّل إلى “بيان وجوديّ” كلّ يوم.

هنا، في بيروت، الشعر ليس كتابة… بل أداء اجتماعيّ.

إلى الشاعر الصغير الذي في داخلك، أضع بين يديه خارطة الطريق نحو النجوميّة الشعريّة في العاصمة التي تُنتج شعراء أكثر ممّا تُنتج كهرباء.

تذكّر، الكتابة في بيروت تبدأ بنشر صورة كوب القهوة، لا بنشر قصيدة

أوّلًا: اختر مقهاك بعناية!

اختر مقهى يطلّ على شارع الحمرا المزدحم، ولا تجلس في الداخل، حيث يكتب الناس فعلًا؛ اجلس على الطاولة المواجهة للشارع، كي يراك كلّ من يمرّ… بخاصّة أولئك الذين لا يعرفونك.

اطلب قهوتك سوداء ومرّة، ليس لأنّها تعجبك، بل لأنّها تبدو حزينة بما يكفي أمام الكاميرا. ضع دفتر ملاحظاتك على الطاولة، واتركه مفتوحًا على صفحة بيضاء، فالشاعر الحقيقيّ لا يكتب، بل يُرى وهو لا يكتب.

تذكّر، الكتابة في بيروت تبدأ بنشر صورة كوب القهوة، لا بنشر قصيدة.

ثانيًا: الحزن ليس شعورًا… بل علامة تجاريّة

احذر من الفرح، فهو يدمّر مسيرتك الشعريّة قبل أن تبدأ. الجمهور يريدك حزينًا، يتغذّى على صورك مع جدارٍ متهالك وابتسامة نصف مكتومة. في بيروت، الشاعر هو من ينجو كي يحزن، لا ليعيش. اكتب دائمًا عن الخسارة، عن الفقد، عن ذكريات لا يريد أحد سماعها.

كلّ دمعة تساوي متابعًا جديدًا، وعلى كلّ شاعر أن يحمل في داخله حزنًا غامضًا. لا بأس إن لم يكن لديك حزن شخصيّ، استعِن بحزن المدينة، حزن الحرب، حزن صديقك مكتوم القيد الذي ما زال غير ناشط على منصّات التواصل الاجتماعيّ… المهمّ أن يكون حزنك “قابلًا للاقتباس”.

اكتب جملة مثل: “أعتذر لكلّ شيء تركته خلفي. حتّى الظلّ”.

لن يفهم أحد ما الذي تركته خلفك، لكنّ الغموض هو الوقود الذي تقتات عليه الفقّاعة.

كلّما كتب لك أحدهم “تُبهرني”، تصبح أقرب إلى الحصول على دعوة لقراءة نصوصك في أمسية يحضرها 11 شخصًا.

ثالثًا: فيسبوك هو ديوانك الجديد

لم يعد أحد يطبع دواوين في بيروت. الناشرون مشغولون بتصوير الافتتاحات، والقرّاء صاروا يتصفّحون القصائد بين فيديوهات القطط. أنشِئ حسابك الفيسبوكيّ وابدأ بالنشر اليوميّ:

قصيدة صباحيّة تبدأ بـ”إلى الذين مرّوا ولم يعودوا”، ومنشور غامض مساءً من جملة واحدة: “ما عاد الوطن يسكنني”.

لا تنسَ أن تردّ على التعليقات بعبارة: “أشكر مرورك العميق”.

هكذا سيبدأ الناس بإضافتك إلى مجموعات “الأدب البديل”، وستجد نفسك بعد أسبوع مكرّمًا في مقهى يحمل اسم نبتة ما.

تذكّر أنّ الشاعر البيروتيّ الحقيقيّ لا يكتب للناس، بل يكتب للتعليقات. وكلّما كتب لك أحدهم “تُبهرني”، تصبح أقرب إلى الحصول على دعوة لقراءة نصوصك في أمسية يحضرها 11 شخصًا.

رابعًا: العلاقات الأدبيّة

انضمّ إلى نادٍ أدبيّ، أو بالأحرى إلى مجموعة أصدقاء يكتبون لبعضهم البعض نصوص المديح. صفّق لهم طويلًا في الأمسيات الشعريّة، حتّى لو لم تفهم شيئًا، فاليوم تصفّق لهم، وغدًا يصفّقون لك.

لكي تُصبح جزءًا من الفقّاعة الشعريّة:

امدح الجميع.

شارك منشوراتهم.

علّق بجملة مثل “يا لعظمة هذا الوجع”.

وإذا نشر أحدهم نصًّا رديئًا، تجاهل رداءة النص… وامدح الخلفيّة البصريّة للصورة.

هكذا سيبادلونك الجميل. هكذا يعمل السوق!

خامسًا: الأمسيات الشعريّة… أو قاعة الانتظار نحو الخلود

إن أردت أن تُحسب على “المشهد”، عليك تنظيم أمسية.

يكفي أن تجد مقهى يوافق على إطفاء الموسيقى نصف ساعة.

اختر عنوانًا وجوديًّا للأمسية:

“نبوءات الخسارة”، “أغنيات لم تحدث”، أو “أحاول أن أكون”.

لا تُلقِ قصائدك بصوت عاديّ. يجب أن يوحي صوتك بأنّك على وشك البكاء… أو على وشك النوم. كلاهما يؤدّي الغرض.

عزيزي الذي تلاحق فقّاعة الشعراء في بيروت، لكي تصبح شاعرًا معروفًا في هذه المدينة، أنت لا تحتاج إلى أن تكتب شعرًا عظيمًا… بل أن تكتب كما لو أنّك شاعر

بعد الأمسية، انشر 14 صورة من الحدث، إحداها لك وأنت تحدّق في الفراغ، وكأنّك تتفاوض مع مصيرك.

أخيرًا: لا تنسَ أن تترك مساحة للغموض

حين يسألك أحدهم: “ماذا تحاول قوله عبر قصائدك؟”، لا تُعطِ جوابًا مباشرًا.

قُل: “ما زلت أحاول أن أفهم، هي أشياء لا تُقال”.

لا تقل ما الذي تحاول فهمه. انظر بعيدًا، كأنّك تتذكّر حربًا أو حبًّا أو فاتورة كهرباء لم تُسدّد بعد.

الغموض المقصود هو أقوى أدوات الشعر الحديث.

عزيزي الذي تلاحق فقّاعة الشعراء في بيروت، لكي تصبح شاعرًا معروفًا في هذه المدينة، أنت لا تحتاج إلى أن تكتب شعرًا عظيمًا… بل أن تكتب كما لو أنّك شاعر.

قُم بتأدية دورك بإتقان:

الكوب، الصورة، الأمسية، المديح المتبادل، الحزن المدروس، والمنشورات التي لا تقول شيئًا لكنّها تُشعر القارئ أنّه فهم شيئًا مهمًّا.

تذكّر أنّ الشاعر في بيروت ليس من يكتب، بل من يُصوَّر وهو يكتب.

احرص على صورك: أنت أمام البحر، في منتصف جملة وجوديّة، والريح تلامس صفحات دفتر لم تُكتب فيه سوى كلمة “أنا”. أو صورة لك في بيت قديم، وبجانبك كوب ماء نصف فارغ، كرمز لفراغك الداخليّ. لا تبتسم أبدًا، فالشعر لا يحبّ الأسنان.

هنا في بيروت، الشعر ليس نصًّا… إنّه حالة، والحالة أهمّ من القصيدة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى