ميس الجبل في عين الحرب خسائرها بملايين الدولارات
منذ السابع من تشرين الأوّل/أكتوبر من العام الماضي يتردّد أسماء القرى الحدوديّة المحاذية لفلسطين المحتلة بشكل يوميّ، أو شبه يوميّ، في نشرات الأخبار ومواجزها و”فلاشات” الأخبار العاجلة، والترداد هذا إنّما للإفادة بوقوع القصف والغارات والدمار وحرائق الأحراج وسقوط ضحايا، قبل ذلك كانت عديد من هذه القرى والبلدات نسيًا منسيًّا.
من بين أسماء القرى والبلدات ميس الجبل، ثاني أكبر بلدات قضاء مرجعيون بعد الخيام. تحدّها حولا من الشمال، وبليدا من الجنوب، وشقرا من الغرب والأراضي الفلسطينيّة المحتلّة من الشرق. لقد لعب موقعها الجغرافيّ و”جيرتها” مع فلسطين دوراً مؤثّرًا في وضعها القائم منذ سبعة أشهر متتالية، وباتت عرضة دائمة للغارات والقصف الموجّه نحو أراضيها، وقد بلغ عديد الغارات التي استهدفت البلدة حتّى اليوم نحو 76 غارة، بالإضافة إلى استهدافها بالقذائف الفوسفوريّة.
تعدّ ميس الجبل بلدة تجارية بامتياز، وذلك لوجود سوق تجاريّة فيها، تضمّ عشرات المحلّات والمتاجر التي تبيع المفروشات والأدوات المنزليّة والسجّاد. وتُعدّ كذلك بلدة زراعيّة، إذ يعمل عديد من سكّانها في زراعة التبغ والقمح. لذلك تُقصد ميس الجبل من المناطق الجنوبيّة واللبنانيّة من أجل متاجرها وحنكة تجّارها، ممّن وصلوا إلى العالميّة بتجارتهم؛ إلّا أنّ الحرب وآلة الدمار الإسرائيليّة أثّرت بشكل كبير في مختلف جوانب الحياة فيها، فالبلدة خالية من أهلها، والعدوان خلّف عشرات الوحدات السكنية المدمّرة، والمحال التجاريّة المتضررة، ناهيك بمواسم ناسها التي لم تزرع يضاف إليها كثير وكثير من الخسائر المادّيّة والمعنويّة.
إحصاءات أوّليّة
لا احصاءات دقيقة ونهائيّة لحجم الدمار والخسائر والأضرار في ميس الجبل، بسبب استمرار القصف، لكن وبحسب “شباب جمعيّة الرسالة في ميس الجبل” فإنّ هناك “75 وحدة سكنية دمّرت بشكل كلّيّ، بينما أصيبت 130 وحدة بشكل جزئيّ، بينها مواقع تراثيّة وأثريّة تعود إلى مئات السنين”. ووفق شباب الجمعيّة “فقد بلغ عدد الوحدات التي تحتاج إلى ترميم قرابة 170، فيما بلغ عدد الوحدات المتضرّرة بشكل غير مباشر وتشمل المحال والمؤسسات وغيرها 750 وحدة”.
جسيمة أضرار القطاع الاقتصاديّ التجاريّ في ميس الجبل، فهناك نحو 200 مؤسّسة ومتجر تضرّرت بشكل أو بآخر، وتراوح هذه الأضرار بين زجاج وأبواب وديكورات خارجيّة وداخليّة، بالإضافة إلى تضرّر كبير في أنظمة الطاقة الشمسيّة والتمديدات وغيرها، عدا عن الخسائر في السيّارات والآليّات والتي أحصي تضرّر نحو 150 منها بشكل مبدئي.
المرافق العامّة والمستشفى الحكومي
لم تسلم المرافق العامّة في ميس الجبل من الدمار والأضرار نتيجة الاستهدافات الإسرائيليّة، منها مستشفى ميس الجبل الحكومي الذي أصيب بأضرار كبيرة وتوقّف عن العمل، بالإضافة إلى مخفر الدرك وقلم النفوس ومبنى البلدية والمدارس: المهنيّة والثانويّة والابتدائيّة الرسميّة، والحسينيّات والمساجد وهي: مجمّع الإمام الرضا، حسينيّة الزهراء، مسجد الإمام علي، مجمّع الشيخ محمّد علي قبلان، الحوزة الدينيّة ومجمّع الإمام الصدر الرياضيّ والمقابر.
لم تسلم المرافق العامّة في ميس الجبل من الدمار والأضرار نتيجة الاستهدافات الإسرائيليّة، منها مستشفى ميس الجبل الحكومي الذي أصيب بأضرار كبيرة وتوقّف عن العمل، بالإضافة إلى مخفر الدرك وقلم النفوس ومبنى البلدية والمدارس
“الخراب في البلدة كبير وهناك مؤسّسات مدمّرة بشكل كلّيّ”، بهذه العبارة يختصر رئيس بلديّة ميس الجبل عبد المنعم شقير حديثه لـ”مناطق نت” عن وضع البلدة، فيقول: “بلغ عدد النازحين من البلدة حوالي سبعة آلاف شخص، ومن بقي في البلدة لا يتجاوز عديدهم مئة شخص”. واعتبر شقير “أنّنا أمام عدوّ همجيّ، لا يعرف سوى القتل والخراب، ولكن ما أن يحصل وقف لإطلاق النار سيعود جميع الأهالي إلى البلدة ولو أنّهم سيقيمون فوق الركام”.
ميس التجاريّة مقفلة
ربّما قلّة قليلة لا تعرف المكانة التجاريّة والاقتصاديّة لبلدة ميس الجبل، بعدما صارت مقصداً لكلّ باحث عن أرقى السجّاد والمفروشات وأجود أنواع الأدوات المنزليّة. تنتشر المحال التجاريّة فيها على امتداد الطريق العام، الذي يخترقها من شمالها، من جهة حولا، إلى جنوبها باتّجاه بليدا. ومن أشهر العائلات التجاريّة فيها قاروط وقبلان وحمدان وغيرها.
كانت مؤسّسات ومتاجر البلدة ناشطة جدًّا قبل الحرب، أمّا اليوم، فأضحت مقفلة بعدما هجرها أصحابها وكذلك المتسوّقون والروّاد، وقد لحقت بمعظمها أضرار جسيمة بينما تكدّست البضائع فيها، وتلف حيّز كبير منها.
يقول حسن شقير صاحب “غاليري ديوان شقير” في ميس الجبل، لـ”مناطق نت”: “حتّى اليوم لا نعرف ماذا حلّ بمتاجرنا وماذا أصابها، فالزيارة خطرة ومتعذّرة بسبب القصف، ومعرفة ماذا حلّ بأرزاقنا دونها صعوبات، لكن ما هو معلوم ويتنامى إلينا أنّ الخسائر كبيرة جدّاً”.
خسائر بالملايين
من جهته يؤكّد رجا قاروط وهو صاحب شركة “قاروط ليكس”، لـ”مناطق نت”، أنّهم كانوا يخزّنون بضائع في البلدة تقدّر بملايين الدولارات. وبسبب الوضع القائم اليوم “حاولنا نقل بعضها إلى صالات عرض ومستودعات جديدة استأجرناها في دير الزهراني وكفررمان وبيروت، وقد بلغت بدلات إيجارها أكثر من 25 ألف دولار”. ويذكر أنّ للشركة صالة عرض كبيرة في ميس الجبل وأربعة مستودعات.
ويشير قاروط إلى أنّ شركته لم تكن محصورة في ميس الجبل، “بل كنّا نوزّع البضائع على مختلف المناطق اللبنانيّة وصولاً إلى البقاع وبعلبك وغيرها، وهناك حوالي 150 موظّفًا وعاملًا يعملون لدينا”. ويضيف: “إنّ للشركة باعًا طويلًا مع التجارة، فقد بدأت منذ العام 1984 واستمرّت حتّى يومنا هذا، ونستورد بضائعنا من الصين وتركيّا وغيرها من الدول”.
سنعود إلى عزّ الأرض
وعن الوضع القائم، يلفت إلى أنّ أبناء ميس والجنوب “تحدّوا الاحتلال سابقاً وجعلوا من ميس مقصداً لكلّ الناس وبنوا فيها ما بنوا”، لافتاً إلى أنّه “في حال توقّف الحرب اليوم لن نكتفي بميس فقط، بل سنوسّع تجارتنا إلى مختلف القرى المحيطة، إلى بليدا وعيترون وغيرها، فـهذه الأرض عملتلنا عزّ”.
وقد روى لـ”مناطق نت” أنّه قبل السابع من تشرين الأول/ أكتوبر كان قد اشترى أراضٍ مقابل موقع العبّاد “الإسرائيليّ”، وكان ينوي أن يبني فيها شاليهات، لجعل المنطقة سياحيّة بامتياز، “وللتأكيد أنّ هذه الأرض وجدت للحياة”.
لم تقتصر الأضرار والخسائر على المحال التجاريّة في ميس الجبل، بل طالت أيضًا المعامل، ومنها معمل وصالة “استبرق هوم”، لتصنيع وبيع المفروشات. يقول موسى حمدان صاحب المعمل والصالة لـ”مناطق نت”: “لقد تضرّرت صالة العرض بشكل كبير جرّاء الاعتداءات الإسرائيليّة، فقد تحطّم زجاج الواجهات في الصالة التي تتكوّن من ثلاثة طوابق، وهذا أثّر بشكل كبير في القطع الموجوة في الصالة وأصابها بالضرر”. وقدّر حمدان الخسائر الأوّليّة في صالته “بحدود ثلاثين ألف دولار”. يؤكّد حمدان “أنّ كلّ الأضرار المادّيّة تُعوّض، وسنعود حتماً إلى بلدتنا ونفتح باب رزقنا رغماً عن أنف الاحتلال”.
“تُقدر الأضرار بآلاف الدولارات” يقول رئيس البلدية عبد المنعم شقير، ويضيف: “خصوصاً أنّ المفروشات والسجّاد وغيرها هي أشكال ونماذج تنشط اليوم وتموت غداً، عدا عن تاريخ صلاحيّة بعض المواد كطلاء الجدران مثلاً والمواد الغذائيّة”.
لا مواسم في ميس
ككلّ القرى الحدوديّة، تلعب ميس الجبل دوراً هامّاً في مجال الزراعة، ويعمل كثير من أبنائها في زراعة التبغ والقمح والخضروات. لكنّ هذا الموسم كان مغايراً، فلا حقول حُرثت أو فُلحت ولا الشتول جُهّزت ولا المعاول “نكشت”.
ربّما أقسى ما يفقده المزارع هو موسمه، وهو أثمن ما قد يحصده وتهبه له الأرض بعد تعب وجهد. “المواسم راحت”، بكلمتين يختصر رئيس البلدية حال بلدته في الشأن الزراعيّ ويضيف: “ففي بعض القرى المحيطة، استطاع بعض المزارعين أن ينجوا بمواسمهم، ولكن في ميس لا أحد، استطاع أن يطل على أرضه، بكلّ ما تعنيه الكلمة”.
يعتمد مزارعو التبغ في ميس الجبل على الموسم وحده، “فمواسم التبغ بنت بيوتاً وعلّمت أجيالًا” يقول المزارع خليل حمدان لـ”مناطق نت” ويشير إلى أنّه منذ التسعينيات يقوم بزراعة التبغ، “ولكن هذه السنة كانت مغايرة فأصبح العشب يحتلّ المساحات في غياب أصحاب الأرض”.
غياب الريجي ووزارة الزراعة
“الحرب قسريّة”، إلّا إنّ ما يفاجئ حمدان هو “غياب الريجي ووزارة الزراعة عن معاناتنا، ولم يسأل عنّا أحد” على حدّ قوله. ويضيف: “طول عمرها الريجي عايشة من ورا المزارع وتعبه، عوّضوا على الطلّاب اللي رجعوا من روسيّا وأوكرانيا بس نحنا ما حدا حكي معنا”. لم تقتصر خسارة حمدان على موسم التبغ فحسب، “بل كذلك على موسم الزيتون الذي كان مليئاً بالخيرات التي افترشت الأرض وكسدت، وكنت أنتج من موسمي سنويّاً قرابة 40 صفيحة زيت زيتون”.
تلعب ميس الجبل دوراً هامّاً في مجال الزراعة، ويعمل كثير من أبنائها في زراعة التبغ والقمح والخضروات. لكنّ هذا الموسم كان مغايراً فلا حقول حُرثت أو فُلحت ولا الشتول جُهّزت ولا المعاول “نكشت”
من جهته يفيد رجا قاروط، “أنّنا في بداية الشهر العاشر من العام الماضي قمنا بتصنيع نحو خمسين ألف وعاء تستخدم في تخزين زيت الزيتون (غالونات وغيرها) وقد بلغت تكلفتها قرابة 150 ألف دولار، إلّا أنّنا وبسبب الوضع القائم وتعذّر قطاف المواسم لم نقم بتصريفها، وبقيت مكدّسة”.
“زرعنا رحمة الله”، بتلك العبارة يكتفي علي حمدان، بوصف حاله وحال موسم التبغ في ميس الجبل. لكن الزراعة في ميس لا تقتصر على التبغ فقط، إذ إنّ العديد من أهلها الفلّاحين يزرعون القمح و”الصحاري” وغيرها من الزراعات الموسميّة؛ لكن وبسبب الحرب بقيت الحقول من دون زارعيها. ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ قوّات الاحتلال الإسرائيليّ، وقبل الحرب الأخيرة المستمرة، كانوا تعمد دائمًا إلى ترهيب المواطنين في ميس الجبل في خلال زراعة أراضيهم الحدوديّة، بإطلاق النار فوق رؤوسهم أو قصف الحقول المجاورة.
وطالت الخسائر والأضرار في ميس الجبل أيضًا مربّي المواشي والأبقار والدجاج، فاضطرّ أصحابها إلى بيعها بأسعار زهيدة لإنقاذها، ومن استطاع منهم نقلها إلى أماكن آمنة، تحمّل أكلافًا عالية.
المياه الارتوازية لم تسلم
“عدا عن الأضرار والدمار جرّاء الغارات المتواصلة، هناك خطر حقيقي ناجم عن القذائف الفوسفورية التي تساقطت على ميس الجبل وأحراجها وحقولها، الأمر الذي قد يؤثّر في المياه الجوفيّة”، بحسب رئيس البلدية عبد المنعم شقير.
ويحذّر شقير “من أنّ تراكم الفوسفور الأبيض في التربة والمياه والنباتات والحيوانات، يؤثّر في التوازن البيئيّ والتنوّع البيولوجيّ، وهذا التلوّث البيئي يمكن أن يستمرّ لفترة طويلة ويؤثر كذلك في النظم البيئيّة المحلّيّة والموارد الطبيعيّة”.
وقد أكدّت “منظّمة العفو الدوليّة” أنّ الجيش الإسرائيليّ أطلق قذائف مدفعيّة تحتوي على الفوسفور الأبيض خلال العمليّات العسكريّة على طول الحدود الجنوبية. وفي هذا الإطار، فقد استهدف جيش الاحتلال الإسرائيليّ خزّانات المياه التي تغذّي بلدة ميس الجبل، في اصرار منه على استهداف مختلف سبل العيش في البلدة.
كانت ميس الجبل مقصداً من كلّ نواحي البلاد، لكنّها تحولت اليوم إلى ساحة حرب حقيقيّة، سبّبت الدمار والخراب وسقوط الشهداء، إلّا أنّ أهل البلاد والديار “راجعون” مهما طال الغياب، ليشرّعوا من جديد أبواب رزقهم ويمسّدوا تراب حقولهم، ويقفوا في مواجهة أعتّى المواقع الإسرائيليّة التي تطلّ عليهم، مردّدين قولاً واحداً: “نحن أحياء وباقون، وللحلم بقيّة”.