بين جبل عامل والفراعنة تاريخ غني وآثار مهملة

يلفت الباحث اللبنانيّ، ابن بلدة يارون الحدوديّة، الدكتور يوسف الحوراني، الانتباه إلى ما يختزنه جبل عامل من كشوفات آثريّة تحمل قرائن عن ارتباطات حضاريّة ودينيّة مع الأمم الأخرى، ولا سيّما مع مصر الفرعونيّة، وتكفي الإشارة إلى بلدات مجدل سلم وخربة سلم (يقول بعض الباحثين إنّ سلم محرّفة من شاليم العبرانيّة).

صلات جبل عامل القديمة

ثمّة علاقة مجهولة يكشف الحوراني النقاب عنها من خلال سجلّات الفراعنة (المجهول والمهمل من تاريخ الجنوب اللبنانيّ: جبل عاملة، 1999، ص 16). ومن الأزمنة الغابرة يذكر اقتران قبيلة عاملة بالعماليق استنادًا إلى بعض المؤرّخين مثل الطبريّ (839 – 923م) الشهير. وما يهمّنا هنا هو الإشارات اللغويّة، إذ تشهد مفردات اللغة الفرعونيّة على عمق هذه العلاقة، حيث نجد “أكثر من ربع مفرداتها من أصل ساميّ عربي ّوهذا يعني أنّ وجود العرب أو الساميّين أسلاف العرب في مصر، كان كثيفًا قبل عهد الهكسوس وسيطرتهم عليها.

هكذا لا بد أنّه كان للعماليق وجود هناك ما دامت هذه القبيلة لها وجود قديم كما ظهر لدينا، وفي هذه الحال يكون قول الطبريّ إنّ الفراعنة ورثوا الحكم من العماليق قولًا صحيحًا يحتاج إلى مستندات فقط لإثبات صحّته (ص 25)، وهو ما يتصدّى لإثباته.

فإلى اللغة يجهد الحوراني في البحث عن الأدلّة التي توثّق هذه الصلة، ويجدها في عبادة الإله “شيت” عند المصريّين، ومعروف انتشار مواقع له في الجنوب اللبنانيّ، وهناك دليل آخر، إذ كانت قرينته دائمًا “نبط حيط” أيّ سيّدة البيت “نفتيس” باللغة اليونانيّة، و”حيط” تعني” السكن، كما هي في حتحور” رفيقة “حورس”. وهذا يعني أنّ اسمها هو صفة لكونها زوجة “نبط” الذي هو “شيث” ذاته كما يدعونه في الجنوب ويكون اسم الزوجة هكذا “النبطية” وهي المدينة المجاورة للبلدات المنسوبة إلى “شيث” في الجنوب اللبنانيّ (ص 29).

ويرى أنّ تسمية “شيت” منتشرة في كامل الأرض اللبنانيّة وتعني صفة “السماويّ”. ويدلّ الاحترام الذي يحظى به عند الناس كافّة، إلى “التواصل والاستمراريّة التي حافظت عليها أرض لبنان دون غيرها من أرض الجوار” (ص 32).

الآثار شاهدة

يبحث الحوراني عن أدلّته في مسمّيات المواقع الأثريّة الباقية في الجنوب اللبنانيّ المكرّسة للآلهة، فعلى سبيل المثل: قرب بلدة رميش هناك موقع أثريّ للأله “كورا” (وارد اسمه في مجمع آلهة إيبلّا)، ما يشي بوجود للحوريّين (من شعوب الشرق القديم) في المنطقة، وثمّة أسماء حوريّة لآلهة سماويّين لا تزال قيد الاستعمال إلى يومنا هذا مثل “قوزح”، وفي شرق بلدة يارون هناك الإله “أداما” وفي سفحها نجد “عين داما”. ويضيف الحوراني وجود مسمّى الإله الحوريّ الأكبر في اسم “كفرشوبا”، كما اسم “حبت” الإلهة قرينته في اسم بلدة “حبّوش”، والشواهد كثيرة.

وكمجال مواز للُقى الأثريّة، يستحضر الحوراني اللغة أو ما يسميّه “أركيولوجيّة اللغة” المستخدمة في الجنوب اللبنانيّ، ولا سيّما العامّيّة، تلك المتوارثة من الأسلاف شفاهًا دليلًا على الصلات الحضاريّة القديمة. وفي زعمه، فإنّ مفردات اللغة التي وصلتنا من رحم أوغاريت هي أقرب إلى اللغة العربيّة وذات علاقة جوهريّة بالمفردات العامّيّة المستخدمة في جنوب لبنان (ص 35).

لكنّ الأبرز يبقى أسماء القرى حاملة أسماء الآلهة القديمة، نظير، الإله الكنعاني “عشتر” أو “عطر” (نجمة الصباح) وهو زوج عشتارت، وبلدة “عثرون” تعني مقام “عثتر”. كذلك يرى الحوراني أنّ اسم المعبودة الجاهليّة “العزى” (رمزها نجمة مثمّنة) يكشف عن المشاركة بين أرض لبنان والجزيرة العربيّة، وقد تكون قرية “العزّيّة” وقفًا لها.

ويعتبر هذه العلاقة اللغويّة المتينة التي تتجاوز 3500 عام شهادة حيّة على استمراريّة اللغة والشعب معًا في الأرض نفسها، وهو ما يدعم ظاهرة التواصل والوراثة لأسماء القرى والينابيع والمواقع الزراعيّة والأثريّة، حيث أنّ هذه الأسماء بمعظمها كنعانيّة ساميّة أصيلة، يندر أن نجد بينها اسمًا غريبًا من لغة أخرى على رغم تناوب شعوب غريبة مختلفة على استعمار المنطقة، وطوال قرون أحيانًا (ص 138).

وفي السيّاق نذكر أنّ السيّد الجليل محسن الأمين في تقصّيه لأسماء قرى جبل عامل وبلدانه في مؤلّفه الشهير “خطط جبل عامل” (ط1، 1983، بتحقيق ولده السيّد حسن الأمين) استعان بما هو مكتوب وبالمصادر المطبوعة والمعروفة، ولم يلقَ بالًا للآثار وللتاريخ الغائر في القدم.

الأبرز يبقى أسماء القرى حاملة أسماء الآلهة القديمة، نظير، الإله الكنعاني “عشتر” أو “عطر” (نجمة الصباح) وهو زوج عشتارت، وبلدة “عثرون” تعني مقام “عثتر”

مفردات أوغاريتيّة في اللسان الجنوبيّ

اهتمّ أنيس فريحة باللهجة العامّيّة وحاول مثابة مشروع طموح تتبّع “أثر الآراميّة في اللهجات العربيّة” نظرًا إلى احتكاك العرب طويلًا بالشعوب الآراميّة في المناطق التي دخلوها فاتحين، فأخذوا منهم كثيرًا وأعطوهم. وفي حسبانه أنّ “دراسة اللغة دراسة علميّة، ودراسة تاريخ المفردات وتطوّر معانيها، تعكسان لنا كثيرًا من تاريخ الشعب” (مقدّمة معجم الألفاظ العامّيّة، 1947)، ويظهر أثر الآراميّة في كثرة المفردات الباقية في اللغة المحكيّة.

ويسرد في معجمه الأصل الآرامي كثيرًا من المفردات، فعلى سبيل المثال، “أَتْرحُش”، أيّ لا ترح، “أفش” أيّ لا يوجد. وما يهمّنا هنا المفردات ذات الأصول الأوغاريتيّة والتي لا تزال تستخدم في الجنوب اللبنانيّ، والتي وضع الدكتور الحوراني ثبتًا لها في ختام كتابه، مختارًا لها من كتاب فريحة “تهجئات ملاحم وأساطير من أوغاريت”. العيد المئويّ للجامعة الأميركيّة في بيروت، وقد روجع بعضها على تهجئات سيروس غوردن الانكليزيّة في كتابه “قواعد اللغة الاوغاريتيّة”، 1947).

وننقل هنا بعضًا منها: أطم: عضّ. بقث: بقش، بقبش. تقعت: طقعت فقعت. بقث: بقش، بقبش، تلع: تلع ناجح، بارز. شبش: شوبش مدح. شفط: صفط، رتب. شفط: سفط، سامح. جرش: کرش طرد. جرن: جرن، بيدر. جعر: جعر صرخ. جعت: جعط صرخ. حشك: حشك، أسرع. كحص: قحص، أسرع. شرش: شرش، نسل. حفش: حفش جمع. خت: خوت جنون. خ خ : كخ، وسخ. عرم: عرم، كدس. زعت: زعط صاح. کس کس: فرج، شق.

من آثار بلدة مجدل سلم (من صفحة مدونة جبل عامل)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى