تعمير الحجر لا يكفي.. هل تداوي الثقافة ما دمّرته الحرب؟

“الثقافة ليست ترفًا، بل هي جزء أساسيّ من معركة الإنسان مع النسيان والهيمنة”. لم يكن المفكّر الفلسطينيّ الراحل إدوارد سعيد وحده من أضاء على أهمّيّة تثقيف الشعوب، لكن ثمّة من يتعاطون مع الثقافة والفنّ بوصفهما من الكماليّات التي لا يمكن للمجتمعات أن تنعم بها إلّا بعد تأمين أساسيّات الحياة. وحين يُنكَب شعبٌ بالحرب ويواجه القتل وتدمير المنازل، يرى بعضهم أنّ الثقافة والفنّ يصبحان ترفًا بعيدًا من لائحة الأولويّات الملحّة.
منذ الإعلان عن وقف إطلاق النار الهشّ في الـ 27 من تشرين الثاني (نوڤمبر) العام الماضي، لم يهدأ الحديث عن عمليّة إعادة التعمير وضرورة المباشرة بها، لكي يستطيع النازحون عن قراهم وبلداتهم العودة إليها. وإذا كان من البديهيّ أن تكون عملية إعادة التعمير أولويّة، إلّا أنّ هناك سؤالًا ملحًّا يُطرح، وهو أيّ إعادة تعمير نريد؟ ووفق أيّ رؤية؟ وهل تقتصر على الحجر– على الرغم من أهمّيّته- دون سواه؟
نُدرك جيّدًا أنّ معظم قرى وبلدات الشريط الحدوديّ أصابها الدمار بشكل زلزالي، وبعضها سوّي بالأرض، ونعلم جميعًا أنّ سكّان تلك القرى معظمهم نازحون عن بيوتهم وبلداتهم. لكن على الرغم من كلّ ذلك يبقى السؤال مطروحًا عن أهمّيّة الثقافة وعودتها إلى تلك القرى، وعن أهميّة إقامة فعاليّات ثقافيّة وفنّيّة في البلدات الحدوديّة التي عاد إليها جزء من أهلها، وفي هذا التوقيت تحديدًا؟
في السطور التالية، لا نخوض في نقاش أيديولوجيّ حول أهمّيّة عودة الثقافة والفنّ إلى القرى الحدوديّة، بل نحاول مقاربة المسألة من منظور واقعيّ بسيط، انطلاقًا من سؤال موحّد: ما مدى حاجة الأفراد والعائلات في القرى الحدوديّة إلى فعاليّات ثقافيّة وفنّيّة في الوقت الراهن؟
هناك سؤالًا ملحًّا يُطرح، وهو أيّ إعادة تعمير نريد؟ ووفق أيّ رؤية؟ وهل تقتصر على الحجر– على الرغم من أهمّيّته- دون سواه؟
للنهوض من تحت الركام
في البداية، لجأت “مناطق نت” إلى البحث عن مراكز ثقافيّة في القرى الحدوديّة، للتأكّد من سلامة هذه المراكز ونشاطها بعد عودة جزءٍ من الحياة إلى البلدات المنكوبة.
التواصل الأوّل كان مع وسام رزق، نائب رئيس بلديّة حولا، الذي أشار إلى أنّه قبل الحرب كانت البلدة تتمتّع بمركزين يحتضنان أنشطة ثقافيّة: الأوّل هو “المركز الثقافيّ”، والثاني هو “مركز الرعاية الاجتماعيّة” الذي كان يهتمّ بتنظيم أنشطة ثقافيّة وفنّيّة للمسنّين، إضافةً إلى الفرق الكشفيّة الموجودة في البلدة التي كانت تُنظّم أنشطة ثقافيّة وفنيّة متنوّعة.
يتابع رزق لـ “مناطق نت”: “تعرّض المركزان لأضرار بسبب العدوان الإسرائيليّ المستمر، وقد باشرت البلديّة بترميمهما، لكن وفي ظلّ دمار مراكز أخرى في البلدة، يُغتنم المركزان المرمَّمان حاليًّا في تقديم خدمات الرعاية الصحّيّة والتعليم الرسميّ، إذ يحاول “مركز الرعاية الاجتماعيّة” تنظيم بعض الفعاليّات التي تجمع المسنّين، بينما لا يزال “المركز الثقافيّ” يخضع للمراحل الأخيرة من الترميم، ويحتضن حاليًا مستوصفًا تابعًا لـ “مستشفى النجدة الشعبيّة”.
يضيف رزق: “تحاول البلديّة تنظيم أنشطة بسيطة كالمحاضرات التوعويّة للشباب وأهالي القرية عمومًا، وهي تسعى إلى إعادة الحياة الثقافيّة إلى القرية بخطواتٍ خجولة وبسيطة، وتطمح إلى أن تصبح هذه الخطوات أكثر رسوخًا”.
أوضاع متشابهة
لا يختلف الوضع في بنت جبيل عن حولا، فـ “جمعيّة سنابل الجنوب”، التي كانت تبادر إلى تنظيم الفعاليّات الثقافيّة والفنّيّة قبل الحرب، تصبّ اهتمامها حاليًّا في تنظيم جلسات دعمٍ نفسيّ لأهالي المنطقة، كذلك تُنظّم دورات تنمية مهارات متنوّعة، يندرج بعضُها في خانة المهارات الإبداعيّة.
أمّا في منطقة شبعا، فأكّد مؤسّس “بيت ثقافة وفنون”، أسامة الخطيب أنّ البيت الذي رمّمه وكان بمثابة ملجأٍ ومتنفّسٍ لشباب وشابّات البلدة، تعرّض إلى أضرار طفيفة جرّاء الاعتداءات الإسرائيليّة المتكرّرة، وقد باشر الخطيب في معالجة تلك الأضرار. يتابع الخطيب لـ “مناطق نت”: “على رغم أنّ البيت حاليًّا في حال ممتازة، إلّا أنّه لا يمكن، في ظلّ الخروق الإسرائيليّة المتكرّرة، استضافة فعاليّات فنّيّة وثقافيّة وتحمّل مسؤوليّة الأرواح البشريّة التي قد يحتضنها”.
من جهته يشير رئيس بلديّة عيترون سليم مراد لـ “مناطق نت” إلى أنّه “قبل الحرب كان ‘المركز الثقافيّ لبلديّة عيترون‘ يهتمّ بتنظيم فعاليّات ثقافيّة وفنّيّة متنوّعة، وكان يضمّ مكتبة عامّة تُرحّب بالقرّاء وتُعيرهم الكتب. أمّا اليوم، فقد تعرّض المركز لأضرار وبات بحاجة إلى ترميم. تحاول البلديّة استرجاع النشاط الثقافيّ في البلدة رويدًا رويدًا، ويضمّ مبنى البلديّة قاعة نشاطات عامّة تستضيف حاليًّا دورات ترفيهيّة لمختلف الأعمار، ونحن في صدد ترميم المركز الثقافيّ التابع للبلديّة”.
حركة ثقافيّة خجولة
تأسّس”نادي الخيام الثقافيّ الاجتماعيّ (مجمّع الدكتور شكرالله كرم)”، في العام 1974. كان هذا النادي من الأندية الثقافيّة الأكثر نشاطًا في المنطقة، لكنّ الحرب الأخيرة حوّلته إلى ركام. يقول رئيس النادي الدكتور عدنان عبّود، في حديث لـ “مناطق نت”: “كان النادي نشِطًا على جميع الأصعدة، واهتمّ بتنظيم فعاليّات ثقافيّة متنوّعة، لكنّ مبنى النادي دُمّر بالكامل في الحرب الأخيرة، وكلّ إمكانيّاتنا ذهبت سدى. الآن، نحاول، كهيئة إداريّة، المشاركة فقط في الأنشطة الثقافيّة المتاحة لا غير”.
من ناحيته يقول عضو مجلس بلدية الخيام محمد يحيى لـ “مناطق نت”: “على الرغم من عودة 1200 عائلة إلى الخيام، إلّا أنّ الحركة الفنّيّة والثقافيّة ما زالت خجولة جدًّا”. يتابع “نحاول في الوقت الحاضر التخطيط لفعاليّات متواضعة كالأمسيات الشعريّة مثلًا، ويسرّنا أن نرعى أيّ نشاط يقترحه أحدٌ علينا، يبقى اعتمادنا في الفترة الحاليّة على الجمعيّات والمؤسّسات التربويّة، ونرحّب بكلّ من يهمّه أمر زيارة المدينة وتنظيم فعاليّات ما”.

يتعطّشون للثقافة
ريم حيدر، وهي أمّ لطفلين، عادت إلى بلدتها عيترون، تقول لـ “مناطق نت”: “بالطبع، الأولويّة ليست فقط لإعادة التعمير، بل هي أيضًا لتأمين المنازل والخدمات الأساسيّة للعائلات التي لم تتمكّن من العودة إلى البلدة بعد أن فقدت منازلها، وكذلك لتأمين مصدر عيشٍ للأفراد ممّن فقدوا مصدر رزقهم”.
تتابع حيدر “هذا لا يعني أنّ الحياة تقتصر على إعادة تعمير الحجر وحسب، فالقرى المنكوبة تحتاج إلى أن تُعاد الروح إليها، وهنا يكمن دور الثقافة والفنّ في بثّ هذه الروح. نحن، أهالي عيترون، مثل أهالي القرى الحدوديّة جميعها، مررنا بظروف صعبة جدًّا، وتركت الحرب أثرًا كبيرًا جدًّا في نفوسنا، ولا سيّما على الصعيد النفسي”.
وتشير حيدر إلى أنّ “هذا الأثر النفسيّ يطال الأطفال والشباب أكثر من الكبار ممّن عايشوا حروبًا عدّة في السابق. الأنشطة الثقافيّة المتنوّعة هي التي تُقدّم متنفّسًا للأطفال والشباب، وتؤمّن لهم شعورًا بالأمان والأمل بأنّ الحياة والروح ستعودان إلى البلدة، ناهيك بأنّ هذه الأنشطة توفّر لهم مساحة للتعبير عن أنفسهم”.
قبل الحرب
وتؤكّد حيدر “قبل الحرب، كانت عيترون تحتضن عديدًا من المهرجانات والمعارض والأنشطة المتنوّعة، وكان ‘المركز الثقافيّ‘ في عيترون منخرطًا بشكل كبير في هذا النوع من الأنشطة. اليوم، بدأت الحياة الثقافيّة تعود إلى البلدة، وتحاول الفرق الكشفيّة تنظيم فعاليّات ما، وأنا أدفع أولادي إلى المشاركة في النشاطات التي تُنظَّم، كي يحاولوا نسيان الأمور القاسية التي مرّوا بها في السنتين الأخيرتين، وأحرص كذلك على أن أشارك في الفعاليّات التي أشعر بأنّها ستلهيني عن كلّ الخراب الذي تعرّضت له بلداتنا، وما زالت تتعرّض له”.
عواضة: الأنشطة الفنيّة ضروريّة الآن خصوصًا للأطفال والشباب، فهي تمنحهم دعمًا نفسيًّا واستقرارًا حتّى لو أُقيمت شهريًّا
وتقول حيدر “اليوم، استهدفت مسيّرة للعدوّ حفّارةً في عيترون. أثناء عمليّة الاستهداف هذه، كنت أنا وابني قرب المكان الذي جرى فيه الاستهداف، وشاهدنا سويًّا ما حدث بالتفصيل، وقد تأثّر ابني كثيرًا بما رآه. ماذا أقول له؟ عليك أن تنسى؟ لا تتأثّر؟ هذا ليس حلًّا! الحلّ هو أن أحثّه على المشاركة في نشاطات فنّيّة تساعده في التفريغ عن نفسه والتعبير عن مشاعره وأفكاره من دون خوف أو تردّد”.
بدورها ترى ابنة حولا منى قطيش، أنّ “الفعاليات الثقافيّة والفنيّة ضرورة في كلّ زمان، فهي تجمع الناس وتفتح مساحات للتلاقي وتبادل الخبرات، ولا تثير الانقسامات بل تكرّس تقبّل الاختلاف”. وتتابع لـ “مناطق نت”: “ليس من الضروري أن تكون هذه الفعاليّات ضخمة، بل يمكن أن تقتصر على ورش عمل صغيرة لتعليم حرف فنّيّة تساعد الشباب والنساء على اكتشاف مواهب ربّما تتحوّل لاحقًا إلى مهن”.
يوافق ابن الخيام عزّت علي عواضة على ما قالته منى قطيش، ويقول لـ “مناطق نت”: “الأنشطة الفنيّة ضروريّة الآن خصوصًا للأطفال والشباب، فهي تمنحهم دعمًا نفسيًّا واستقرارًا حتّى لو أُقيمت شهريًّا”.
في المناطق الخلفيّة
في بلدة جويّا التي تبعد نسبيًّا عن الشريط الحدوديّ، يقول هاني سعد، القيّم على “نادي جويّا الثقافيّ الاجتماعيّ الرياضيّ”: “جميع الفعاليّات التي أُقيمت بعد عودة الأهالي كانت تعجّ بالحضور. الناس يحتاجون إلى متنفّس ومساحة للتعبير والتفاعل بعد كلّ ما عانوه”. تابع سعد لـ “مناطق نت”: “مبنى النادي بحال جيّدة على رغم تعرّضه إلى بعض الأضرار الطفيفة”. ويشير إلى أنّ النادي كان ينظّم قبل العدوان الإسرائيليّ فعاليّات ثقافيّة واجتماعيّة متنوّعة كالأمسيات الشعريّة، وورش العمل، والمعارض الفنّيّة المختلفة. اليوم، مع عودة بعض الحياة إلى جويّا، يحاول النادي استعادة نشاطه من خلال تنظيم فعاليّات عدّة، آخرها حفل توقيع ديوان للشاعر الراحل هاني قاسم.”
الثقافة تبني الثقة
تتّفق الاختصاصيّة الاجتماعيّة رنا غنوي مع الأهالي، فتؤكّد أنّ “الأنشطة الثقافيّة والفنّيّة في القرى التي عادت إليها العائلات بعد الدمار ليست ترفًا، بل ضرورة لإعادة الحياة الطبيعيّة والمجتمعيّة”. وتوضح أنّ “هذه الأنشطة تساهم في إعادة بناء الهويّة والانتماء وتعزيز التماسك الاجتماعيّ وخلق مساحات للحوار والتلاقي، وتعيد بناء الثقة بين السكّان بعد التهجير والانقسام”.
وتتابع لـ “مناطق نت”: “على المستوى النفسيّ، تخفّف هذه الأنشطة من الصدمات التي خلّفتها الحرب، وتخلق أجواء فرح وأمل. كذلك فإنّها تحمي الذاكرة الجماعيّة من الضياع في مواجهة محاولات طمس تاريخ الجنوب الثقافيّ”.
من سيعيد الحياة الثقافيّة إلى القرى الحدوديّة؟
للثقافة والفنّ دور محوريّ في إعادة الحياة إلى القرى الحدوديّة، ليس بوصفهما ترفًا، بل كحاجة إنسانيّة واجتماعيّة ونفسيّة. الفعاليّات الثقافيّة هي التي تخلق مساحات للتعبير، وتعيد الأمل، وتمنح شعورًا بالأمان والاستقرار لأهالي القرى.
لكن يبقى السؤال: متى ستلتفت الجمعيّات والمؤسّسات الرسميّة والخاصّة إلى القرى الحدوديّة، لتساندها عبر تنظيم فعاليّات ثقافيّة وفنيّة تُعيد إليها الحياة والروح؟