بذريعة الترميم.. جريمة بيئيّة يتعرّض لها نهر الحاصباني

تشهد منطقة رأس النبع في حاصبيّا منذ مدّة أعمالًا وإنشاءات إسمنتيّة أثارت جدلًا واسعًا بين أهالي البلدة وناشطين، وذلك بعد توثيق صُوَر تُظهر عمليّات بناء تحصل في مجرى نهر الحاصباني، أحد أنظف الأحواض المائيّة في لبنان.
وقد حصلت “مناطق نت” على صور توثّق هذه الأعمال، ما يستدعي فتح تحقيق من الجهات الرسميّة المعنيّة، ووضعها أمام مسؤوليّتها في التحقّق من قانونيّة هذه الأعمال والبتّ فيها بشكل نهائيّ.
انقسمت آراء من تحدّثت إليهم “مناطق نت”، بين من يعتبر أنّ ما يجري هو صيانة مشروعة ضمن نطاق البلديّة والأملاك الخاصّة، وبين من يؤكّد أنّ ذلك جريمة بيئيّة خطيرة تحصل في مجرى النهر، لكنّها تقاطعت حول ضرورة أن تتدخّل وزارة الطاقة والمياه ووزارة البيئة لتوضيح الحقيقة للرأي العام ووقف أيّ ضرر محتمل.
مخاطر بيئيّة كبيرة
في حديث لـ “مناطق نت” قال الدكتور نبيل عماشة، وهو أستاذ في الهندسة البيئيّة، إنّه “من الضروريّ في أيّ مشروع أن يكون هناك توازن دقيق بين المخاطر البيئيّة والعوائد المادّيّة المتوقّعة قبل البدء بأيّ تنفيذ، لأنّ ما يجري اليوم في الحاصباني يحمل مخاطر بيئيّة ربّما تكون أكبر من أيّ فائدة ممكنة، ويؤدّي إلى ضرر بيئيّ فعليّ.”

تابع الدكتور عماشة أنّ “أيّ أعمال تجري داخل حرم النهر، تستوجب قانونًا الحصول على موافقة مسبقة من الوزارة المعنيّة، وإجراء دراسة تقييم أثر بيئيّ تتضمّن جلسة استماع علنيّة مع الأهالي لعرض المشروع ومناقشة مخاطره، وتأخذ في الاعتبار سلامة النهر والنظام البيئيّ المحيط به”.
وأضاف أنّ “الأشغال تتمّ في منطقة رأس النبع، حيث يُقام حاجز إسمنتيّ غير بعيد من المنبع، وتحديدًا في مجرى النهر”. ويشرح الدكتور عماشة “مع بدء تساقط الأمطار، ستتحوّل المنطقة بين الحاجز الإسمنتيّ والنبع إلى مكان تتجمّع فيه الردميّات، ما قد يؤدّي إلى انسداد المجرى الطبيعيّ وتفاقم الضرر تدريجًا. فالأثر البيئيّ ليس آنيًّا، بل تراكميّ، تظهر نتائجه على المدى الطويل.”
وأوضح أنّ “هذه التعدّيات ربّما تتسبّب أيضًا في تلويث المياه الجوفيّة، بسبب الترابط بين المياه السطحيّة والجوفيّة، فعندما نمنع تدفّق المياه على السطح، تزداد إمكانيّة تلوثها، ما يفاقم احتمال انتقال هذه الملوّثات إلى باطن الطبقات الجوفيّة”.
ويضيف عماشة “من المعروف أنّ حوض الحاصباني يُعدّ تاريخيًّا من أنظف الأحواض الجوفيّة في لبنان، وهذا ما يجب الحفاظ عليه بكلّ الوسائل.” ويردف “كان يمكن استبدال استخدام الباطون بموادّ صديقة للبيئة، مثل الهياكل الخشبيّة التي لا تعوق حركة المياه ولا تمنع الأسماك والكائنات المائيّة من العبور، حفاظًا على التنوّع البيولوجيّ الفريد في الحاصباني.”

وفي سؤال عن دور البلدية من هذه الأعمال، شدّد الدكتور عماشة على أنّ “هذا رأيّ علميّ بحت”، معربًا عن “كامل التقدير لجهود رئيس البلديّة في دعم المشاريع التنمويّة وبحثه الدائم عن مصادر إضافيّة لدعم البلديّة وتمكينها من القيام بواجباتها لخدمة المجتمع”.
ماذا تقول البلدية
بعد التواصل مع رئيس بلديّة حاصبيّا لبيب الحمرا قال لـ “مناطق نت”: “ما يُنفَّذ حاليًّا هو أعمال صيانة وترميم محدودة، تهدف إلى إصلاحات في الحواجز الحجريّة المتشقّقة والمتآكلة بفعل الزمن، والتي هي موجودة أصلًا”. وأكّد أنّ “هذه الخطوات تأتي في إطار المحافظة على البنية التحتيّة القديمة ومنع انهيارها”.
تابع الحمرا “الأعمال الجارية تقع خارج نطاق حرم النهر مباشرة على الضفّتين”. وبالتالي لا تستوجب الحصول على ترخيص أو إذن من وزارة الطاقة والمياه، مشدّدًا على أنّ البلديّة، “تحافظ على الأملاك العامّة وتحرص على عدم المساس بالنهر أو التسبّب في أيّ ضرر”.
وختم الحمرا قائلًا “إنّ الهدف من الأعمال هو حماية الموقع الطبيعيّ وصيانته بما يضمن استمراره وجماله”.
صفقات مشبوهة
بعد تواصله مع “مناطق نت”، كشف مصدر موثوق من أهالي مدينة حاصبيّا، آثر عدم ذكر اسمه، أنّ “الأعمال الجارية تتمّ فعليًّا داخل حرم نهر الحاصباني”، مشيرًا إلى أنّ الصور تثبت صحّة كلامه. كذلك أوضح أنّ بلديّة حاصبيّا كانت قد لزّمت المقهى المجاور للأعمال هذا العام إلى مستثمرين جدد، وهؤلاء أقدموا على ردم بركة طبيعيّة وإنشاء حاجز إسمنتيّ فوق منطقة الشلّالات مباشرة”.
وأعرب المصدر عن قلقه الشديد لما يجري، معتبرًا أنّ ما يحصل “سيقضي على إرث طبيعيّ وتاريخيّ وهو يمثّل تعدّيًا واضحًا على القانون”، مشيرًا إلى رمزيّة خاصّة للموقع في وجدان أبناء حاصبيّا والمنطقة، إلى جانب قيمته البيئيّة الفريدة.
الوزارة لم تمنح أيّ ترخيص أو موافقة رسميّة تتعلّق بالأعمال الجارية في موقع نبع الحاصباني
وأضاف أنّ نبع الحاصباني ليس مجرّد موقع طبيعيّ وحسب، بل هو أحد الروافد الأساسيّة لنهر الأردنّ، ما يجعل أيّ تعدٍ عليه اعتداءً على إرث طبيعيّ وطنيّ يجب أن تتوقّف أعماله فورًا قبل أن تتفاقم الأضرار.
وزارة الطاقة
وفقًا للقانون إذا تمّت الأعمال في الأنهر دون التراخيص اللازمة يُعدّ مخالفة صريحة للقانون رقم 77/2018 (قانون المياه) ولقانون حماية البيئة رقم 444/2002.
من ناحيته أكّد مصدر في وزارة الطاقة والمياه لـ “مناطق نت” أنّ الوزارة لم تمنح أيّ ترخيص أو موافقة رسميّة تتعلّق بالأعمال الجارية في موقع نبع الحاصباني. وشدّد المصدر على متابعة القضيّة في الأيّام المقبلة، كذلك أكّد أنّ أيّ عمل من هذا النوع، سواء أكان ترميمًا أو إنشاءً جديدًا، يحتاج إلى تراخيص ودراسة.
دعوة للتحرّك الرسميّ
في ضوء ما حصلت عليه “مناطق نت” من صور ومعطيات، بات يستوجب رفع الصوت عاليًا، وتحرّك المعنيّين في وزارتيّ الطاقة والبيئة للكشف الميدانيّ على الموقع والتحقّق من مدى قانونيّة الأشغال، واتّخاذ الإجراءات اللازمة، حفاظًا على نهر الحاصباني، آخر الأنهار النظيفة في لبنان، وحمايته من مصير شبيه بما آل إليه نهر الليطاني.



