تلاعب بتصنيف أراضي الكفور يخدم مصالح أصحاب النفوذ

كأن لم يكفِ بلدة الكفور (قضاء النبطية) معاناتها مع مكبّات النفايات العشوائيّة ومعامل إحراق الإطارات المطّاطيّة وغيرها من المعامل غير المرخّصة، حتّى أتى صدور قرارين عن المجلس الأعلى للتنظيم المدنيّ، ليزيدا من المخاطر البيئيّة المحدقة بالبلدة. فالقراران من شأنهما تبديل وجهة ما يُقارب ربع مساحة البلدة من تصنيف سكنيّ إلى صناعيّ، ما يعني انتشار مزيد من المصانع والملوّثات من دون أيّ ضوابط قانونيّة.

المفارقة أنّ التعديلات على التصميم التوجيهيّ لمنطقتي الكفور وتول العقاريّة من قبل المجلس الأعلى للتنظيم المدنيّ وبطلب من بلديّة الكفور ليست جديدة، فقد حصلت تعديلات سابقة في الأعوام2016  و2020 و2022. وفي كلّ مرة كان يتمّ فيها تعديل التصنيفات، كانت تتوسّع المناطق الصناعيّة بشكل اعتباطيّ وتتآكل المساحات الزراعيّة والخضراء.

هذا الأمر، دفع “استديو أشغال عامّة” مع بعض أبناء الكفور، وبالتعاون مع “المفكّرة القانونيّة” إلى تقديم مراجعة قانونيّة أمام مجلس شورى الدولة بتاريخ السادس من شباط ( فبراير) الماضي، طعنًا في القرار الصادر العام 2022 والذي يجعل مساحة المناطق الصناعيّة بمختلف فئاتها 1,810 كيلومتر مربّع، أيّ ما نسبته 26,8 في المئة من مساحة البلدة.

تشريع التجاوزات

من ناحيتها، ردّت بلدية الكفور سريعًا، على طلب الطعن، فأشارت من خلال لائحة جوابيّة أصدرتها بتاريخ الـ 21 من شهر أيار (مايو) الماضي، إلى صدور قرار جديد من المجلس الأعلى للتنظيم المدنيّ، عدّل بموجبه القرار الأوّل، بحيث أعاد جزءًا محدودًا من المنطقة التي صُنّفت صناعيّة إلى تصنيف سكنيّ، لتصبح المساحة الإجماليّة للمنطقة الصناعيّة وفق القرار الجديد نحو 1,745 كيلومتر مربع، أيّ ما نسبته25.5  في المئة من مساحة البلدة، وبذلك يكون القرار الثاني قد أعاد تصنيف نحو 1,3 في المئة من الأراضي إلى سكنيّة.

حول تلك التعديلات في التصنيف، أشار رئيس بلديّة الكفور خضر سعد، في حديث لـ”مناطق نت”، إلى أنّه “من حيث الواقع هناك أراضٍ بين المنازل مُقام عليها مصانع ومعامل، فأبلغنا المديريّة العامّة للتنظيم المدنيّ بأنّ هذه المصانع غير صالحة لأن تكون في هذه المناطق”. ولفت إلى أنّه “على هذا الأساس جاء اقتراحنا لتغيير تصنيف هذه المنطقة من صناعيّة إلى سكنيّة، بحيث تمّ نقل التصنيف من بين هذه الأماكن السكنية إلى أماكن أخرى تقع عند أطراف البلدة”.

وحول عدم تقديم دراسة أثر بيئيّ للتصنيف، أكّد سعد أنّ “وزارة البيئة هي المولجة بالقيام في دراسة أثر بيئيّ وليس البلديّة. نحن بدورنا قمنا بالمطلوب منّا من حيث المقترح، ومن ثمّ يذهب هذا الاقتراح في مسار مُعيّن نحو مختلف الوزارات”. وختم سعد لافتًا إلى أنّ “البلدية ستستكمل تعاونها مع المسار القضائيّ، إذ إنّنا تحت سقف القانون”.

بلدة الكفور في قضاء النبطية
علامات استفهام

هذه القرارات العشوائيّة أثارت علامات استفهام حول طريقة عمل المجلس الأعلى للتنظيم المدنيّ، الموكلة إليه مهمّة الحفاظ على وجهة استعمال الأرض وشروط البناء بما يخدم المصلحة العامّة. وفي هذا الإطار تُشير المهندسة المعماريّة والباحثة في “استديو أشغال عامّة”، كريستينا أبو روفايل، إلى أنّ “التصميم التوجيهيّ لبلدة الكفور يُظهِر تساؤلًا جوهريًّا حول آليّة عمل المجلس الأعلى للتنظيم المدنيّ، والنهج المعتمد في إعداد التصاميم التوجيهيّة، فهذه التصاميم تحوّلت عمليًّا إلى وسيلة لبسط السيطرة السياسيّة للنافذين والزعماء المحلّيّين، تُستخدم للضغط وتعزيز النفوذ بدلًا من حماية الصالح العام”.

ولفتت أبو روفايل لـ “مناطق نت” إلى أنّ “الأرقام تُظهر خطورة هذا المسار، فبين عامي 2019 و2021 شكّلت طلبات الاستثناء المقدّمة أمام المجلس 43 في المئة من مجمل الطلبات، حيث جرى الموافقة على 56 في المئة منها. كذلك فإنّ 39.5 في المئة من قرارات المجلس بين 2019 و2022 لم تذكر الخطّة الشاملة لترتيب الأراضي اللبنانيّة، على رغم أنّ تنفيذها يُعدّ من أبرز مهامه”. وأوضحت أنّه “بدلاً من أن يعمد المجلس والمديريّة إلى تطبيق الخطّة وتنظيم الأراضيّ، نشطا في إصدار الاستثناءات والقرارات التي تخدم مصالح النافذين والمستثمرين، وتدعم مصالح شخصيّة فرديّة أو حزبيّة، على حساب البيئتين الطبيعيّة والعمرانيّة، مستفيدَين من الإطار التشريعيّ الحاليّ الذي يتيح للمجلس الأعلى اتّخاذ قراراته خلف أبواب مغلقة”.

موقف البلديّة ملتبس

من جانبه، يشرح المحامي في المفكّرة القانونيّة علي سويدان، أنّ “تصنيف الأراضي في لبنان يتمّ عبر المجلس الأعلى للتنظيم المدنيّ، بناءً على اقتراح البلديّة”. ويتابع لـ”مناطق نت”: “صدر القرار المذكور في العام 2022 بحيث صنّف مساحات واسعة من بلدة الكفور أراضٍ صناعيّة بشكل عبثيّ، فعلى سبيل المثال، صنّف المنطقة التي تقوم عليها المدرسة الرسميّة في البلدة صناعيّة”. ولفت إلى أنّ “هذا الأمر دفعنا إلى تقديم طعن بالقرار، لتردّ البلدية بأنّ هناك قرارًا جديدًا صدر في العام 2024 يُعدّل من هذه التصنيفات، فكان جوابنا أنّ التصنيف الجديد ليس مستقلّ بل هو تعديل للقرار الأوّل، وبالتالي فإنّ إبطال التعديل الأوّل ينسحب على الثاني”. مشيرًا إلى “أنّنا قدمنا طعنًا بالتعديل الجديد”.

أثار موقف البلديّة الملتبس جملة تساؤلات حول مصلحة البلدة في تبديل وجهة تصنيف أراضيها من سكنيّة إلى صناعيّة. حول ذلك توضح أبو روفايل “من المفترض أن يكون دور البلديّات ضامنًا تمثيل السكّان وحاميًا للمصلحة العامّة، فإذا به ينحرف نحو حماية مصالح فئة صغيرة من مالكي الأراضي، أو أصحاب المصانع والمعامل غير المرخّصة، كما هي الحال في الكفور”.

أبو روفايل: إعداد المخطّط التوجيهيّ أقرب إلى خدمة أصحاب النفوذ منها إلى تحقيق المنفعة المشتركة

ولفتت إلى أنّه “بهذا تصبح عمليّة إعداد المخطّط التوجيهيّ أقرب إلى خدمة أصحاب النفوذ منها إلى تحقيق المنفعة المشتركة. وبالتالي، يبدو أنّ الدافع الأساس وراء تعديل تصنيف العقارات في الكفور، هو تلبية لمصالح شخصية تخصّ رئيس البلديّة المدعوم سياسيًّا، وتلبية مصالح بعض مالكي الأراضي المتموّلين والنافذين وأصحاب المشاريع، وذلك في ظلّ غيابٍ تامّ لأيّ ضوابط”.

أسباب الطعن بالقرارين

يُعيد سويدان أسباب تقديم الطعن إلى “ما تضمّنه المرسوم 2366 الصادر عن مجلس الوزراء في العام 2009 والذي أقرّ الخطّة الشاملة لترتيب الأراضي في لبنان، والتي وضعت رؤية موحّدة واستراتيجيّة لتصنيف الأراضي ولها بُعد اجتماعيّ واقتصاديّ، ينبغي على المجلس الأعلى للتنظيم المدنيّ التقيّد بهما عند تصنيف الأراضي”. وأشار إلى أنّ “قرارات تصنيف الأراضي في الكفور لا تتوافق مع الوظيفة التي حدّدتها الخطّة لهذه المنطقة”. أمّا السبب الثاني للطعن، فيتمثّل بـ “غياب تقييم للأثر البيئيّ، وفقًا للمرسوم 8633 الذي يفرض تقييمًا للأثر البيئيّ عند إنشاء الأراضي الصناعيّة”، بحسب سويدان.

الهروب نحو إصدار مرسوم

وحول المسار القضائيّ، يؤكّد سويدان “أنّنا بانتظار ردّ الدولة ممثّلة بوزراة الأشغال العامّة والمجلس الأعلى للتنظيم المدنيّ على الدعوى القضائيّة التي تقدّمنا بها. وفي حال عدم وصول إجابة، يُفترض أن يسير مجلس شورى الدولة بمسار اتّخاذ قرار”. إلّا أنّ الجهات المستفيدة من هذا التصنيف لم تكتفِ بالقرارين بل لجأت إلى الدفع باتّجاه إصدار مرسوم في الـ 23 من تشرين الأوّل (أكتوبر) الماضي، تحت البند 38، يرمي إلى تصديق التصميم التوجيهيّ لمنتطقتي الكفور وتول وفقًا للقرارين المطعون بهما، وذلك بناءً على اقتراح من قبل وزارة الأشغال، إلّا أنّ هذا المرسوم الذي أُقرّ لم يصدر بعد في الجريدة الرسميّة.

واعتبر سويدان أنّ “من سعى إلى إصدار مرسوم عن مجلس الوزراء بعد تقديم طلب الطعن، موقفه ضعيف لأنّه لم يستطع مواجهتنا بالقانون، فعملوا على تحصين القرارين من خلال استصدار ذلك المرسوم، بحيث يصبح الطعن الذي تقدّمنا به من دون جدوى، والقرار النافذ هو المرسوم”. ويُشير سويدان “في حال نشر المرسوم في الجريدة الرسميّة كما هو، أي وفق التصنيف نفسه، فهذا يعني أنّه يتضمّن المخالفات نفسها، وأسباب الطعن أيضًا، لذا نحن بانتظار نشر المرسوم في الجريدة الرسميّة ليُبنى على الشيء مقتضاه”.

وحول الجهة المستفيدة من هذه التصنيفات، يوضح سويدان أن “لا يوجد جهة محدّدة وإنّما شبكة من أصحاب المصالح والأراضي والنفوذ، من مصلحتها تغيير التصنيف، إذ تتغيّر قيمة العقارات الموجودة في تلك البقعة الجغرافيّة”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى