طلال سلمان في البقاع الغربي …وحديث عشق عن فلسطين
خالد صالح
حاول أن يداري دمعة علقت في مقلتيه، تناول منديلاً يمسح به عرق السنين عن جبينه، تنهد طويلاً قبل أن يقول : شكراً على مساحة التنفس هذه، شكراً لأنكم جعلتموني أتأكد أن فلسطين باقية في الوجدان وفي العيون، وأن أجيالاً تذهب وأخرى تأتي وتظل القدس هي العروس الحاضرة في كل زمان.
طلال سلمان عندما يتكلم عن فلسطين، لا يتكلم لأنه رائد من روّاد الإعلام، ولا لأنه عاصر وعايش القضية الفلسطينية منذ النكبة وحتى اللحظة، بل يتحدث عن معشوقته، يستذكر أدق التفاصيل وأبسطها، يبتسم وفي صوته غصة، فراقها مميت وهي على مرمى حجر منا، يشتاق إليها وهو الذي رآها من الجو للمرة الأولى والأخيرة في العام 1964، فترك سحر فلسطين في داخله وخزات العشق الذي لا يموت.
حكى طلال سلمان عن حبيبته فلسطين، خلال لقاء نظمته جمعية خريجي الجامعة العربية في البقاع، فأحضر معه الزعيم الراحل جمال عبد الناصر يوم قرر إنشاء الجامعة العربية على أنقاض ” سجن الرمل ” في بيروت، لتقف في وجه الجامعات الغربية ” الأميركية والفرنسية ”، كتاريخ ناطق عن تلك الحقبة العربية المشرفة في خضم الصراع العربي الصهيوني، وأجلس بجانبه الكاتب الراحل الكبير محمد حسنين هيكل، ليؤكد هذا الأخير على عظمة المواجهة التي خاضها القوميون العرب.
أعادنا طلال سلمان بلمح البصر، إلى بكاء النسوة في بيروت والجبل والبقاع، مع وصول طلائع اللاجئين إلى لبنان عشية الميلاد في العام 1948، وإنشغال الجميع في توفير الحاجيات من أغطية وحرامات وبعض المأكولات من المونة المنزلية، وعن والدته التي هرعت إلى البيت لتوضيب ما أمكن من هذا، وعن دموعها التي لم تنقطع، بينما كان الرئيس بشارة الخوري مشغولا في التمديد لولايته، وتركنا أمام مشهدية ساطعة، المأساة الفلسطينية والإحتضان اللبناني، بعيداً عن لغة الطائفية البغيضة.
جعلنا طلال سلمان نقفز في عمق التاريخ، فها هو غسان كنفاني بيننا، يقصّ علينا تلك الرحلة بين بيروت وعمّان، ورفض السلطات الأردنية السماح لهما بدخول الأردن للمشاركة في المؤتمر الوطني الفلسطيني، وها هو صوت محمود درويش يصدح عالياً في أرجاء القاعة المكتظة، آتياً من المهرجان التضامني مع الشعب الفلسطيني في الجزائر : سجل أنا عربي .. ورقم هويتي خمسون ألف. وعن قوله لأحد الفلسطينيين المشاركين : أنت خائن نحن نقاتل لندخل وأنت في الداخل كيف لك أن تخرج وتترك فلسطين وحيدة.
إستطاع هذا الرجل أن يرسم في عيوننا إبتسامة الرئيس الراحل سليمان فرنجية مطلع سبعينيات القرن الماضي، عندما عرضت عليه رئاسة اللجنة اللبنانية لدعم الشعب الفلسطيني، وعن سعادته البالغة بهذا الأمر، وعن مبلغ الـ ” مليوني ليرة ” برزمٍ من فئة الـ ” مئة ليرة ” الزرقاء، وهي أكبر فئة للعملة اللبنانية آنذاك، والتي تبرع بها لصندوق الدعم، وجعلنا ندرك أن قضية فلسطين لا تعني المسلمين وحدهم، بل كل من يتغلغل البعد العربي بين ثناياه.
لم يسعفه ” الرشح ” في إخفاء دمعته وهو يستعرض اللقاءات التي لا تعد ولا تحصى مع الرئيس الراحل ياسر عرفات، وإستذكر بغصة العدد الأول من جريدة ” السفير ” والذي تضمن حواراً طويلاً معه، وكيف أن المحاور لبناني والمنفذ مصري ومصمم الصفحة تونسي والخطاط جزائري والمصور سوري، لهذا كانت جريدة الوطن العربي في لبنان وجريدة لبنان في الوطن العربي، وكانت بحق ” صوت الذين لا صوت لهم “، ووارى وجهه عندما حكي عن تفجير المطابع وإستهداف منزله وتعرضه لمحاولة الإغتيال، فقط لأنه ظل ملتزما الثوابت نحو فلسطين ونحو عروبته.
توقف سلمان عن الكلام، أخذ نفساً عميقاً، وهو يستمع للكثير من الأسئلة لكنه توقف عند سؤالين، النفس ترك بحة في صوته أشبه بالغصة، الأول عن الأسباب التي أدت به إلى إقفال جريدة ” السفير “، فقد تجرأ أحدهم على نعته بالخيانة لأنه حرمنا من صوتنا، والثاني عن الصورة التي تزينت بها خلفية المنبر، وعن محاولات الإعلام اليهودي والغربي بزرع فكرة أن مسجد قبة الصخرة هو المسجد الأقصى، ونحن بكل أسف نواكبهم بهذا من دون أن ننتبه لمخاطر هذا الأمر.
قرابة الساعة والنصف، لم تعطه المساحة الكافية ليستذكر حبيبته كما يريد، بل ختم بالقول : بين الحاضرين رجال عاصروا المرحلة معنا، ومنهم من تغلغلت فلسطين في وجدانه وستبقى، ومنهم من نشأ على هذا الواقع فآمن أن مواجهة العدو تنطلق من إيماننا بأحقية القضية، فحافظوا على فلسطين فهي طهر عروبتنا، وهي قضيتنا، وهي قبلتنا الأولى، وهي عروس وطننا العربي من المحيط إلى الخليج .