بين بلدية الحدث اللبنانية وليون الفرنسية…مسيحيتان
/ زهير دبس

«يتركونا نحافظ على مسيحيّتنا» قالها جورج عون رئيس بلدية الحدث وهي سلطة محلية منتخبة تتبع رسمياً وزارة الداخلية والبلديات في الجمهورية اللبنانية التي ينص دستورها في المقدمة منه في الفقرة (ط):
«أرض لبنان أرض واحدة لكل اللبنانيين. فلكل لبناني الحق في الإقامة على أي جزء منها والتمتع به في ظل سيادة القانون، فلا فرز للشعب على أساس أي انتماء كان، ولا تجزئة ولا تقسيم ولا توطين».

قد تكون الاستعانة بفقرة من مقدمة الدستور للفصل في أمر ما في لبنان فيها الكثير من الاجترار والملل، فنحن نعيش يومياً ومنذ زمن بعيد ليس خرقاً للدستور وللقانون اللذين أصبحا وجهتا نظر، بل نعيش في ظل «اللا دستور» و«اللا قانون» في بلاد يسكنها الفراغ ويستشري في كل شيء فيها. هذا الفراغ يستدعي خوفاً أقلوياً يلسع بسوطه الناس فتحيلها أرقاماً ممنوعة من الصرف عصية على الجمع، قابلة لمعادلة واحدة هي القسمة ومن ثم القسمة على مذبح الحسابات الطائفية والمذهبية.

قد يكون كلام رئيس بلدية الحدث «الفج» الأكثر تعبيراً وصدقاً عما يُقال في الغرف المغلقة، فما يُقال على المنابر من كلام وطني جامع لا قيمة له ويندرج ضمن خانة «الاجترار» الذي يخلو من أي مضمون ويفتقد القناعة لدى المتفوهين به لتسييله في بيئاتهم لكي يتحول إلى حقيقة لا زالت ضائعة تقبع في مكان آخر، وما حدث أن رئيس بلدية الحدث امتلك الجرأة ليكشف النقاب عن مكانها.

كلام عون عن امتناع بلدية الحدث من تأجير أو بيع عقارات لمسلمين بموافقة من الرئيس بري والسيد نصرالله، هو كلام بلا رتوش وبلا أقنعة أو مساحيق، هناك حقيقة ساطعة مفادها الخوف من الآخر. لم يمنع تبديد ذلك الخوف تفاهم مار مخايل ولا تحالف طال أمده، هناك شيء أبعد من التفاهم والتحالف. إنه الخوف المصنوع من طبيعة النظام الطائفي الذي يقسّم الناس إلى مناطق وفئات ومذاهب تبقى مصالحها الحقيقية عصية على التذويب في إطار حقها المشروع في حياة لائقة، بعيدة عن مفاهيم القرون الوسطى، في وقت يسير فيه العالم إلى توسيع مساحة المواطنة وتذويب الفوارق بين البشر.

ما قاله عون صراحة ليس جديداً فقد صرح أنه «منذ 9 سنوات، وتحديداً في أيار من العام 2010، اتخذنا كبلديّة قراراً حازماً بعدم تأجير أو تمليك أحد من المُسلمين في المنطقة”، مُعيداً السبب الى أنّه “من العام 1990 حتى الـ2010، تملّك إخواننا الشيعة بحوالي 60% من الحدت، ما دفعنا الى اتخاذ هذا التدبير”.

تدبير عون الذي يبرره بعبارة «يتركونا نحافظ على مسيحيّتنا» يستدعي أسئلة كثيرة عن فكرة الوطن والدولة والمؤسسات والتي لا تُبقي منها عبارة عون شيئاً، وفي الوقت الذي ردّت وزيرة الداخلية على رئيس البلدية معتبرة كلامه غير دستوري ووجّهت كتاباً بذلك اعتبر نائب الأمة زياد أسود “من يعتقد أن بإمكانه فرض أي أمر على رئيس بلدية منتخب هو واهم”. أضاف: “لا سلطة لوزارة الداخلية عليه ولا لأي موظف في المحافظة وكل ما عليكم فعله هو التمني والقرار يعود له فقط. اما من يتسلح بتعاميم فليقرأ القوانين…هذا الضحيج لا معنى له”.
لم يوضح عون ولم يشرح عن «المسيحية» التي نجهلها ويريد المحافظة عليها ولم يوضح أيضاً ما إذا كان الـ ٦٠ بالمئة من المسلمين الذين تملكوا في بلديته انتقصوا من مسيحيته، ولم يشر إلى كيفية التعاطي مع هؤلاء وكيف يعيشون في دويلة الحدث وفي كنف رئيسها جورج عون. يبقى السؤال إلى أي مدى سيستطيع عون المحافظة على مسيحيته في بلد يتعاظم خلله الديمغرافي يوماً بعد يوم، ولا ينفع معه تقليص مساحة الاستثمار والمنع هنا أو هناك، في ظل الاختناق الذي تعيشه الضاحية والذي سينتج عنه تمدداً إجبارياً لا يجد في طريقه سوى الحدث وكفرشيما والشويفات وغيرها أماكن لذلك التمدد.

إنها الفيدرالية المقنعة التي يخجل بها اللبنانيون ويعتبرونها رجساً من أعمال الإمبريالية بينما هي حقيقة واقعة لا يلطفها التلطي خلف مطلب اللامركزية الإدارية المحق. إنها الجينات اللبنانية المستفحلة التي تضيق مساحة إبداعها يوماً بعد يوم وتعيد إنتاج حروبها الكامنة فيها كل فترة من الزمن.

حادثة دويلة الحدث تقودني إلى طرفة حصلت مع صديقي العلماني الملحد الذي يعاني الإسلاموفوبيا وكان مسافراً إلى بلاد الإفرنج حيث كانت له محطة في مطار اسطنبول وهناك تفاجأ بأن طائرته المتوجهة إلى ليون ممتلئة على بكرة أبيها بمسافرين من المغرب العربي، فيهم المنقبات وأصحاب اللحى الطويلة والشوارب الحليقة مع الزي المتعارف عليها لدى الأسلامويين من عباءة طويلة وغطاء الرأس وانتعال “شحاطات”.

تساءل صديقي ما لهؤلاء في مدينة ليون، ونظرا لغلبة عددهم على سائر الركاب، تملّكته الخشية من أن يطلب من المضيفة كأسا من الويسكي أثناء تحليق الطائرة تحاشيا من استفزازهم. لكن المفاجأة كانت عند النزول من الطائرة وتوجه الركاب إلى ختم جوازات الدخول إلى فرنسا، فقد انتصبت أمامهم موظفة شقراء وطلبت من القادمين أن يتوزعوا على خطين أمام أكشاك موظفي الأمن الفرنسي، الخط الأول خاص بالأوروبيين والثاني بالأجانب، وامتثل صديقي لتوجيهات الموظفة، ووقف في صف الأجانب بانتظار ختم جوازه، وعندما ألقى نظرة على خط المواطنين الأوروبيين، لم يجد بالشكل أوروبيا واحدا، إنما كانوا هم أنفسهم المغاربة العرب، المنقبات وأصحاب اللحى والجلابيب والشوارب الحليقة والمنقبات، حيث تصادفت رحلته معهم أثناء عودتهم من حج العمرة في السعودية.

ضحك صديقي في سره، وفور وصوله إلى ليون اتصل بي قائلاً أن منسوب الإسلاموفوبيا في بلاد الإفرنج لا يرقى إلى ربع منسوب العنصرية المتجذر بين الحدث والكفاءات.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. انها الفدرالية التي يعاني منها لبنان منذ الحرب الاهلية، قسمت المناطق حسب الانتماء الطائفي وهذا ما يحصل الان. قضية الحدث مثل قضية الهيكلية وصهر العين وصولا الى الكورة التي تعاني من التغيير الديموغرافي للمناطق ذات الديموغرافية الواحدة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى