آثار بعلبك.. قلعة أم هياكل؟
“القلعة هي مكان محصّن في المدينة، له واجهات خارجيّة، محاط بخنادق للسيطرة على المدينة. الغرض من استخدام القلعة هو احتواء السكّان خلال فترات الحصار، ولتكون بمثابة ملاذ آمن للحامية عند الاستيلاء على المدينة”.
جوزيف سوفور (عالم فيزياء فرنسي)
بعد إطلاعنا على مقال الزميل عبد الحليم حمود، المعنوَن “قلعة بعلبك.. هويّة لبنان البصريّة” (9 آب 2023)، والذي أصاب فيه لجهة تحديد هويّة لبنان البصريّة، عبر ثلاثة رموز نصادف صورها في غير مكان وزمان، شئنا أن “ندلو بدلونا” في الموضوع المتعلّق ببعلبك تحديداً، من أجل تصويب بعض الأمور المتعلّقة بـ”القلعة”. هذا، علماً أنّ الزميل لم يرتكب خطأً شخصيّاً في هذا المجال، والمقصود هنا تسمية المنطقة الأثريّة، بقدر استعماله عبارة متداولة منذ زمن (قلعة بعلبك)، وكان الجميع قد درج على استعمالها، كما لن تغيّر مقاربتنا للموضوع شيئاً من هذه التسمية الدارجة، على ما نعتقد. هذا بالإضافة إلى أمور أخرى سنتتطرّق إليها، وهي ذات علاقة بالناحية الأثريّة أيضاً.
حول الأصل والتسمية
من المعروف، لدى المتخصّصين وبعض العامّة، أنّ معابد بعلبك كان بناؤها قد بدأ في القرن الأول الميلادي، حوالي العام 40 م، ولم ينتهِ بناء المعابد بكاملها إلاّ بعد ما يقرب من 250 عاماً. لكنّ التمتّع برؤية المعابد على صورتها الأصليّة لم يدم طويلاً، فقد تعرّض لبنان لأوّل الزلازل المدمّرة العام 526، وتقول بعض المصادر إن الزلازل تتابعت في تلك الفترة، وكان آخرها في العام 551.
وفي الأحوال كلّها، فإنّ زلزال 526 الذي ضرب المدن الساحليّة أساساً، وحوّل بعضها إلى أنقاض، وصلت مؤثّراته إلى مدينة بعلبك وإلى هياكلها. وقال بعض المؤرّخين، وعلى الأخصّ ميخائيل السريانيّ Michael le Syrien، بطريرك الكنيسة السريانيّة الأرثوذكسيّة (1126- 1199)، في مؤلّفه Chronicle، “إنّ هذا الزلزال، الذي وقع في التاسع من آب، أصاب بعلبك، وأحرقت صاعقة سقف المعبد الكبير (جوبّيتير) المصنوع من خشب الأرز المغلّف بالرصاص، وسقطت الأبواب البرونزيّة والأصنام، التي كان يُقدّر عددها بـ350 صنماً”.
بعد ما يقرب على 670 عاماً، على زلزال منتصف القرن السادس الميلاديّ، تحرّك فالق اليمّونة بعنف محدثاً زلزالاً مدمّراً بقوّة 7.5 درجات على مقياس ريختر. نتج من هذا الزلزال انخساف في السواحل، وغرق عدّة جزر صغيرة كانت قائمة على الساحل اللبنانيّ، ولم يبقَ سوى جزيرة الأرانب قبالة طرابلس. أمّا في ما يتعلّق ببعلبك، فقد أدّى الزلزال إلى سقوط 30 عموداً من الهياكل، إضافة إلى خراب أصاب أجزاء كبيرة من المجموعة المعماريّة التاريخيّة.
وإذا ما اعتبرنا أنّ هذا الزلزال وقع في العام 1202م، فيمكننا الإستتنتاج، وبحسب ما تفيد المصادر التاريخيّة، أنّه حدث في زمن الأمجد بهرام شاه الأيّوبيّ، وهو إبن أخ صلاح الدين الأيّوبيّ، وأحد أشهر حكّام بعلبك خلال القرن الثالث عشر، إذ كان حاكماً للمدينة بدءاً من العام 1182 وحتى العام 1230، أيّ ما يقرب من خمسين عاماً.
من المعروف، لدى المتخصّصين وبعض العامّة، أنّ معابد بعلبك كان بناؤها قد بدأ في القرن الأول الميلادي، حوالي العام 40 م، ولم ينتهِ بناء المعابد بكاملها إلاّ بعد ما يقرب من 250 عاماً.
في الفترة المذكورة، وتحديداً نحو العام 1213، بنى الأمجد بهرام شاه برجاً في الزاوية الشماليّة الغربيّة من هيكل جوبّيتر، وهو يُعرف الآن لدى سكّان المدينة بـ”باب الهوا”، ويطلّ على بساتين بعلبك وسلسلة جبال لبنان الغربيّة. أمّا في عهد المماليك، فقد شيّد السلطان قلاوون (1282- 1290) البرج المحصّن في الجهة الجنوبيّة الشرقيّة من “القلعة” (هذا التعبير: القلعة، نستعمله هنا للمرة الأولى في بحثنا). هذا البرج، كان قد بُني جزؤه الغربيّ، المتضرّر في الوقت الحالي، على الدرج المؤدّي إلى هيكل باخوس، فـ “أكل” ثلث الدرج وحتّى نصفه تقريباً. لذا، لم يعد من الممكن رؤية الهيكل بكامله من ناحية المدخل، أيّ من الناحية الشماليّة الشرقيّة، وقد “تشوّهت” هذه الرؤية إلى الأبد، كما يفيد واقع الحال.
آثار بعلبك.. معلومات وتفاصيل
وفي ما يخصّ التغيّرات التي عصفت بمنطقة الهياكل، يفيد ميخائيل ألوف، أمين آثار بعلبك في نهاية القرن التاسع عشر وحتى العقود الأولى من القرن العشرين: “كان باب القلعة العربيّ يقع في الزاوية القبليّة الغربيّة، ووراؤه أقبية وتعاريج تؤدّي إلى باب ثانٍ، ثمّ ثالثٍ، كي تزيد العقبات في وجه العدوّ”. أمّا من جهة الغرب، فقد بُني برج من ثلاثة طوابق، مع مرام للسهام، وأضيفت الحجارة فوق البناء الرومانيّ القديم من الجهات الأربع، وأيضاً مع مرام للسهام.
هكذا، أُحيطت الهياكل، من كلّ الجهات، بما يشبه السور بدءاً من القرن الثالث عشر، وربّما في شكل جزئيّ قبل ذلك. إذ تفيد المصادر التاريخيّة أنّ الهياكل كانت قد بدأت تكتسب أهمّيّة حربيّة قبل الإسلام، إذ تحصّنت فيها جماعات من الروم حين ضاقت بهم الدنيا أيّام الفتح الإسلاميّ، كما تشير الأخبار إلى أنّ معاوية وعبد الملك بن مروان قد سجنا رهائنهما من أولئك الروم في القلعة.
وفي حال تساءل البعض عن الموادّ المستعملة في إقامة التحصينات، فإنّ الجواب يبدو بديهيّاً، فالحجارة التي أسقطتها الهزّات من المعابد كانت كافية من أجل تنفيذ هذه المهمّة وأكثر منها بكثير، ولم تكن هناك حاجة لنقلها من المقالع، ومن ثم نحتها كما فعل الرومان خلال عمليّة البناء.
من زلزال 1759 حتى أيامنا الحاضرة
بعد قرون على الحوادث التي جرى ذكرها، وفي العام 1759 تحديداً، ليلة 30 تشرين الأول، ضرب بعلبك زلزال شديد، واستمرّت مفاعيله حوالي الشهر. كانت الهزّة التي حدثت منتصف تشرين الثاني هي الأشدّ وقعاً وتأثيراً، ونالت بعلبك نصيبها الذي كان كبيراً. تدمّرت الأبنية في المدينة، كما تدمّرت بعض أسوار الموقع الأثريّ، وتضرّرت الهياكل في شكل كبير، فتداعت ثلاثة أعمدة من هيكل جوبّيتر التي كان قد بقي منها تسعة، لتصبح ستة، كما نراها في أيّامنا الحاضرة. هذا، وقد حُفظت بعض الرسوم، المنفّذة من قبل مستشرقين قبل الزلزال، وهي عبارة عن محفورات gravures وتبدو فيها الأعمدة حينما كانت تسعاً.
ليلة 30 تشرين الأول من العام 1759 ضرب بعلبك زلزال شديد، واستمرّت مفاعيله حوالي الشهر. كانت الهزّة التي حدثت منتصف تشرين الثاني هي الأشدّ وقعاً وتأثيراً، فتداعت ثلاثة أعمدة من هيكل جوبّيتر التي كان قد بقي منها تسعة، لتصبح ستة، كما نراها في أيّامنا الحاضرة.
ولو أردنا سرد “الرواية”، التي تطرّقنا إلى بعض تفاصيلها من دون إطالة، لقلنا باختصار: “بُنيت هياكل بعلبك في الأصل حين كانت المدينة ذات مستوى أقلّ ممّا هي عليه اليوم. فقد كان مستوى أرضيّتها هو المستوى نفسه الذي نراه في أرضيّة معبد فينوس، الصغير الحجم نسبيّاً، المواجه للهياكل من جهة الشّرق، أيّ أقلّ ممّا هي عليه الآن بنحو 5- 6 أمتار، وهو مستوى المدينة الرومانيّة القديمة، التي ظهر الكثير من آثارها في خلال بعض الحفريّات التي قام بها الأهالي بقصد إقامة أساسات لمنازلهم، أو من أجل بناء طبقات منخفضة تصلح مخازن أو كاراجات.
المعابد والسور والمدينة
كانت المعابد مطلّة على المدينة، وليس هناك من سور يفصل بينهما. تكوّن السور خلال الحقبات اللاحقة، بعدما أضاف حكّام بعلبك صفوفاً من الحجارة فوق الجدران الأصليّة، وزوّدوها بمرام للسهام. إيجاد الحجارة لم يكن صعباً، بل إنتشرت في المكان نفسه، بعدما أسقطتها الهزّات الأرضيّة من الهياكل، كما سبق ذكره، فتحوّل المكان إلى قلعة محصّنة قدر المستطاع”.
أمّا المظهر العام للمكان الأثريّ فقد كان مزرياً حتّى العام 1898، حين زارها إمبراطور ألمانيا غليوم الثاني، فاستحوذت أطلال المكان على إعجابه وقرّر إرسال بعثة أثريّة لدراسة مخطّطات الترميم. إستغرق الترميم فترة طويلة إلى أن بدت المجموعة الأثريّة في وضعها الحالي. ومنذ منتصف القرن الماضي بنت مديريّة الآثار سوراً قليل الإرتفاع من الجهة الجنوبيّة الشرقيّة، لكنّه كاف لمنع المتطفّلين من الدخول إلى “القلعة” كما سُدّت كلّ المنافذ التي كانت مفتوحة، ولم يعد الولوج إلى المكان ممكناً إلاّ من المدخل الرئيسيّ.
هكذا صارت تسمية “القلعة” ممكنة من الناحية الوظيفيّة المصطنعة، ودرج استعمالها لدى الجميع، بعدما اختصرت مضامينها بالرمز الذي يعرفه الكبار والصغار: أعمدة هيكل جوبّيتير الستّة، التي سلمت من أصل 54 عموداً كانت تكوّن المعبد. لكنّ التسمية المذكورة ليست صالحة، من حيث الأساس، لوصف مجموعة أثريّة لم يكن هدفها الأساس الإختباء وراء الأسوار، بل لأن تبقى مفتوحة على الأفق، (وهي مفتوحة الآن في طبيعة الحال لعدم وجود سور من تلك الجهة)، كي ترسل الشمس شعاعها نحو واجهتها لدى الشروق، وهي تطل على المدينة التي اتّخذت تسمية Heliopolis أيّ “مدينة الشمس”.