آلاف الجنوبيين ينزحون.. مراكز إيواء وبيوت مستأجرة وأقارب
دفعت الأعمال الحربيّة والمواجهات بين العدوّ الإسرائيليّ من جهة، و”حزب الله” من جهة ثانية، المتواصلة منذ أسبوعين، عشرات الآلاف من الجنوبيّين إلى النزوح، من البلدات والقرى الحدوديّة، في أقضية صور وبنت جبيل ومرجعيون وحاصبيا، إلى مناطق أكثر أماناً في داخل الأقضية المذكورة وخارجها، وصولاً إلى العاصمة بيروت، وإلى جبل لبنان على وجه التحديد.
ويعدّ النزوح، واحداً من أصعب معاناة المواطنين المدنيّين، وخصوصاً عند العاجزين عن تأمين وسائط نقل من بلداتهم إلى مسافات قد لا تزيد على عشرات الكيلومترات.
وأيضاً إيجاد الحدّ الأدنى من تكاليف الحياة والنزوح، في أماكن لجوئهم أو إيوائهم المؤقّت، في مراكز لا توجد فيها عناصر الخدمات الأساسيّة، كونها غير معدّة مسبقاً لمثل هذه الحالات، على عكس الكثير من الدول المعرّضة للعدوان والمواجهات، التي تجهّز الملاجىء ومراكز استيعاب النازحين والهاربين من أتون النار، ومنها الكيان الإسرائيليّ المحتلّ.
وجهات أكثر أماناً.. وكلفة
تتعدّد وجهات النازحين الجنوبيّين، من البلدات والقرى، التي تتعرّض منذ أسبوعين لقصف مباشر على عمق يترواح بين 100 متر ونحو سبعة كيلومترات. فالعائلات الفقيرة وغير المقتدرة من هذه البلدات في صور وبنت جبيل، يمّمت وجهتها شطر مدينة صور الساحليّة، التي فُتحت فيها ثلاث مدارس رسميّة لإيواء النازحين، غالبيتهم من عيتا الشعب، إحدى أكبر قرى المنطقة، التي تعرّضت في عدوان تموز 2006 لتدمير كبير. وكذلك الضهَيْرة وراميا ويارين ومروحين وعيترون والقوزح وسواها، في حين سُجّل نزوح مماثل من بلدات قضاء مرجعيون، مثل كفركلا والعديسة وميس الجبل وحولا إلى مناطق في النبطية، حيث سكنت في منازل مستأجرة أو مقدّمة مجّاناً، أو لدى أقربائهم.
أمّا القسم الآخر من النازحين، وهو قسم ميسور أو أفضل حال من الناحية المادّيّة، فقد طرقوا أبواب قرى شرق صيدا وجزّين، واستأجروا فيها منازل وشققاً مفروشة لمدّة سنة بأسعار عالية، بينما ذهب آخرون إلى مسافات أبعد جغرافيًّا، فوصلوا إلى بلدات في جبل لبنان، إقليم الخروب، والشوف وعاليه.
وانتقلت المئات من العائلات الميسورة مادّيًّا إلى بيروت ومناطق في جبل لبنان ومنها: كيفون، برمّانا، المنصوريّة، حمّانا، عاليه، عرمون وخلدة. وقد توزّع النازحون في هذه المناطق على فئات متعدّدة: فئة نزلت لدى المعارف والأقارب، وفئة أخرى تتملّك منازل في هذه المناطق، وفئة عمدت إلى استئجار شقق مفروشة بدءاً من مبلغ ستة آلاف دولار سنويًّا، وصولاً إلى أكثر من عشرة آلاف دولار.
انتقلت المئات من العائلات الميسورة مادّيًّا إلى بيروت ومناطق في جبل لبنان، فئة نزلت لدى المعارف والأقارب، وفئة أخرى تتملّك منازل في هذه المناطق، وفئة عمدت إلى استئجار شقق مفروشة.
في غضون ذلك، عمد المئات من المغتربين الجنوبيّين إلى تقديم مواعيد سفرهم، تخوّفًا من تفاقم الوضع وتطوّرات أمنيّة إضافيّة، فيما غادرت أعداد كبيرة إلى دول أوروبّيّة وأفريقيّة، قاصدين منازل أبنائهم المقيمين هناك، إلى حين تبلور صورة الوضع العسكريّ ووضوحها.
صُوْر وأزمة النازحين
نزح إلى مدينة صور وقراها حتّى الآن، ممّن جرى إحصاؤهم من قبل وحدة إدارة الكوارث في إتّحاد بلديّات صور حوالي ستّة آلاف فرد، من بينهم 1100 تمّ استيعابهم في مباني مدارس رسميّة، حُرم تلامذتها وطلّابها من التوجّه إلى مدارسهم، التي شغلها النازحون. وتوزّع القسم الأكبر من النازحين في بلدات وقرى تحوط بمدينة صور، منها العبّاسيّة، التي احتضنت وحدها أكثر من مئة وعشرين عائلة، توزّعوا على منازل وشقق شاغرة، قدّمها أصحابها ومنهم مقاولون، مجّانًا.
أزمة إيواء وخدمات
يواجه النازحون، في مراكز الإيواء المؤقّتة في مدينة صور صعوبات شتّى، حيث تكمن المعاناة في كيفيّة تأمين متطلّباتهم واحتياجاتهم الخاصّة، في ظلّ إستشراء غلاء السلع، وعدم وجود فرص عمل وإنتاج، متزامنة مع شحّ في المساعدات من الحكومة اللبنانيّة والهيئات الإغاثيّة الدوليّة والمحلّيّة، التي تقوّض الإستمرار في توفير الأمان المعيشيّ على أبواب فصل الشتاء، إذا ما طال وقت النزوح وتطوّرت الأعمال العسكريّة والحربيّة وتفاقمت.
في هذا الإطار، يؤكّد أكثر من نازح في أحد مراكز صور، معظمهم من عيتا الشعب، معاناة النزوح وصعوبة ترك منازلهم، التي أعادوا بناءها بعد عدوان تموز 2006. ويقول أحدهم في حديث إلى “مناطق نت”: “إنّ أكثر من نحتاجه هو تأمين أدويتنا المزمنة التي لا نملك المال لشرائها، وأيضاً حليب الأطفال لأحفادنا، نأمل ألّا تطول فترة النزوح، ونعود سريعاً إلى ديارنا التي تسترنا”.
بين إدارة الكوارث والإغاثة
يؤكّد مدير وحدة إدارة الكوارث في إتّحاد بلديّات صور مرتضى مهنّا، “أنّ استحقاق النزوح إلى مراكز الإيواء دونه صعوبات كبيرة ومتشعّبة، فهؤلاء (النازحون) يحتاجون إلى دعم ليس بالهيّن، يبدأ بتوفير الطعام اليوميّ والماء والتجهيزات، وكذلك الحليب لمئات الأطفال”. ويقول لـ”مناطق نت”: “لقد عملت الهيئة العليا للإغاثة، التي تفقّد رئيسها اللواء محمّد خير النازحين في مراكز الإيواء، على تأمين الفرش والبطّانيّات. كذلك تكفّل مجلس الجنوب، الذي جال رئيسه هاشم حيدر على النازحين أكثر من مرّة، بتأمين حليب الأطفال. وتقوم مؤسّسات رعائيّة أخرى بإحضار وجبات طعام يوميّة”.
ويشير رئيس بلديّة العبّاسيّة علي عزّ الدين إلى “أنّ البلدية سعت إلى توفير منازل لنحو سبعمائة فرد في نطاقها العقاريّ، غالبيّتهم من عيتا الشعب، عيترون، بنت جبيل، القوزح، عيناثا. وقال لـ”مناطق نت”: “إنّ غالبيّة المنازل والشقق التي تمّ تأمينها، كانت بالمجّان، من قبل أفراد، لديهم بيوت أو شقق شاغرة”.
نزوح أهالي الضهيرة
لم يبقَ في بلدة الضهيرة الحدوديّة سوى بعض العائلات ممّن اعتادوا عدم ترك منازلهم في ظروف مشابهة.
ويلفت مختار الضهيرة فادي السويد إلى “أنّ أهالي الضهيرة، الذين نزحوا بعد الإعتداءات الكبيرة التي طالت بيوتها من جانب العدوّ الإسرائيليّ. لجأ غالبيتهم إلى بيوت أقارب لهم في المنطقة الساحليّة الممتدّة من المساكن الشعبيّة قرب صور، وصولاً إلى منطقة وادي الزينة (قرب الرميلة)، فيما التحق عدد كبير منهم بمراكز الإيواء في صور”. مشدّدًا على “ضرورة قيام المعنيّين بواجباتهم تجاه هؤلاء الذين تركوا منازلهم وأرزاقهم بفعل العدوان”.
مختار الضهيرة فادي السويد: أهالي الضهيرة، الذين نزحوا بعد الإعتداءات الكبيرة، لجأ غالبيتهم إلى بيوت أقارب لهم في المنطقة الساحليّة الممتدّة من المساكن الشعبيّة قرب صور، فيما التحق عدد كبير منهم بمراكز الإيواء في صور.
نزوح أمرّ من البقاء تحت القصف
تعتبر بلدة رميش واحدة من أكبر بلدات قضاء بنت جبيل، تلاصق منازلها وكنائسها الحدود مع الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة، وقد نزح عن البلدة، التي تعدّ خطًّا من خطوط المواجهة العسكريّة، أكثر من خمسين بالمئة من أبنائها.
ويؤكد مختار رميش طوني ديب نيسي “أنّ معظم النازحين من البلدة، هم من العائلات، الذين لديهم أطفال”. لافتًا إلى “أنّ هؤلاء النازحين قسراً، انتقلوا في غالبيّتهم إلى بيروت، حيث يملك بعضهم منازل هناك، والقسم الآخر لجأ إلى بيوت الأقارب”.
تحت وطأة ارتفاع عمليّات القصف على محيط بلدتها عيترون في قضاء بنت جبيل، المقابلة لقرية المالكيّة المحتلّة، إحدى القرى “اللبنانيّة” السبع، حملت ز. حجازي ما تيّسر من أمتعة لأولادها، متوجّهة إلى قرية طيردبّا قرب صور، إلى منزل أحد أقاربها. تقول: “إّن العدوّ لا يفرّق بين مدنيّ ومقاوم، فيعمد انتقاماً إلى قصف المدنيّين في بيوتهم وحقولهم، وكان لا بدّ من مغادرة البلدة التي تركنا فيها أحبتنا وأقرباءنا، بعدما دبّ الرعب في نفوس أطفالنا”.
بعد اشتداد القصف، تركت أمّ علي بزّي، مدينتها بنت جبيل، التي تعرضت في العام 2006 لتدمير منهجيّ وسقط من أهلها عشرات الشهداء. شدّت أمّ علي الرحيل القسريّ إلى منطقة خلدة قرب بيروت مع أولادها وأحفادها، وسكنت في إحدى الشقق الشاغرة، التي قدّمها لهم أحد أبناء المنطقة.
تقول لـ”مناطق نت”: “إنّ النزوح صعب وكارثيّ، هو انسلاخ الجسد عن الروح، وفيه كثير من المعاناة والتحدّيات. ولفتت إلى أنّ “الشقّة التي لجأنا إليها حاليًّا غير مجهّزة بأدوات المطبخ، فنضطرّ لشراء الطعام الجاهز من المطاعم، وننام على فرش من الإسفنج”.
يقول م. سرور الذي لجأ إلى مركز إيواء في صور (في مدرسة رسميّة) من بلدته عيتا الشعب: “لا يمكن البقاء في البلدة، بعدما نزح عنها كلّ أبنائها، وحلّ غالبيتهم في صور وجوارها. مهما تحدّثنا عن معاناة النزوح، لا يمكن وصفه، فهو أمر يشبه الموت”.