آل صُلح وحكايتهم مع الدبكة البعلبكيّة من “الدوخي” المؤسّس إلى الأبناء
تتفاوت الدبكة بين منطقة وأُخرى في لبنان، فلكلّ منها خصوصيّتها وطريقتها، وليس هناك من تدوين عن أصل الدبكة ليس في لبنان فحسب، بل في كلّ بلاد الشام. لكن للدبكة البعلبكيّة الأصيلة مميّزات وخصائص وجماليّة أخّاذة، وهي مختلفة حتّى عمّا صنعه الرحابنة، فدبكة المسرح الرحبانيّ وكركلّا وروميو لحّود وغيرهم، تندرج ضمن خانة المسرح الراقص، وهذه الفِرَق تحركها الموسيقى، في وقت كان مشايخ الدبكة البعلبكيّة يرقصون على موسيقى بسيطة، وهي لم تكن العامل الأساس في دبكتهم.
وإذا كان للدبكة في بعلبك تاريخها وتراثها العريق، فإنّ ذلك يعود لآل “صُلح” في المدينة، إذ كان لهم دور أساس في تظهير تلك الدبكة وإبراز خصوصيّتها وجماليّاتها. لكنّ واحدًا من آل صُلح كان له الأثر البالغ في ذلك وهو دوخي علي دوخي صُلح، المولود في العام 1902، والمتوفّى في 15 كانون الثاني/ يناير من العام1972 . دوخي كان مزارعًا، ومربٍّ للمواشي، لكنه كان ظاهرة بحدّ ذاتها في بعلبك، لناحية أدائه للدبكة، وطريقة عرضها وابتداع تقديمها.
في الثلاثينيّات من القرن الماضي كانت مسيرة دوخي الفنيّة التي بدأها مع الغجر، والجميع يتذكّره في بعلبك من كبار وصغار، كانوا ينتظرون عروضه التي كان يؤدّيها على مسرح بسيط فوق سطوح البيوت المبنيّة من الطين، فيصعد الناس السلالم إلى تلك السطوح “بيوت المحبّة” فيفرشون السجّاد عليها، ليكون المسرح جاهزًا في الهواء الطلق.
لم تكن عروض دوخي صلح من أجل بدل مادّيّ، بل كان هدفه فقط رسم الفرحة على وجوه الناس.
فرقة “الختايرة”
يقول محمود صلح وهو المسؤول الإعلاميّ والثقافيّ لفرقة “شمس بعلبك” لـ”مناطق نت”: “إنّ جذور الدبكة البعلبكيّة تعود إلى دوخي صلح، الذي لمع نجمه في أربعينيّات القرن الماضي، وقد امتلك موهبة ربّانيّة، كان مسرحيًّا مبتكرًا لأنواع من الدبكة لم تكن موجودة في ذلك الوقت، أيضًا قدّم مسرحًا راقصًا عفويًّا، يتشابه ورفيق علي أحمد، وقد أسّس دوخي فرقة دبكة سمّاها فرقة الختايرة”.
يتابع صلح: “كان الـ: دوخي يقلّد الهنود أيضًا، إذ كان يحمل بين أصابع يديه “الصنوجِي” وهي قطع معدنيّة تصدر موسيقى عندما يحرّكها يرقص على إيقاعها، وكانت تعتمدها الراقصات في مصر، في المقابل ارتدى اللباس العربيّ من كوفيّة وعقال وشروال عربيّ، وليس ذاك الشروال الهنديّ الذي ترتديه بعض الفِرق اليوم”.
رقص المؤسّس دوخي منفردًا منذ أربعينيّات القرن الماضي، إلى أن نال عزّه ومجده في الخمسينيّات، حينما جذب إليه الناس وأحيا مناسبات عديدة أهمّها تلك التي تزامنت مع ترؤّس تقي الدين الصلح رئاسة الحكومة اللبنانيّة حينذاك. واستمرّ دوخي إلى أن ظهر شيوخ الدبكة في منتصف السبعينيّات، وكانوا امتدادًا للدوخي وأثره.
رقص المؤسّس دوخي منفردًا منذ أربعينيّات القرن الماضي، إلى أن نال عزّه ومجده في الخمسينيّات، حينما جذب إليه الناس وأحيا مناسبات عديدة أهمّها تلك التي تزامنت مع ترؤّس تقي الدين الصلح رئاسة الحكومة اللبنانيّة
ورّث الدوخي فنّه لأولاده الذين تمرّسوا وتعرّفوا عليه عن كثب، وطوّروا الرقصة التي عُرفت بالدبكة البعلبكيّة في ما بعد، وهم من ضمن “فرقة الختايرة”، وأولاده هم: عبد الكريم، أبو بلال، أبو تامر، وعلي الدوخي الذي كان يرقص بالسيف والترس. أمّا “عميد” الدبكة البعلبكيّة “أبو يحيى” وهو الأشهر فقد كان الدوخي خاله، وقد حصل على اللقب لأنّه كان الأكبر سنًّا بينهم.
من الدوخي المؤسّس إلى الأبناء
في حديث إلى “مناطق نت” يقول عبد الكريم دوخي صُلَح وهو ابن الدوخي المؤسّس، ومِن أفراد الفرقة الشعبيّة أو ما سُمي بشيوخ الدبكة، “إنّ الفرقة تألّفت من عشرة رجال، ألا وهم: أبو ماجد، زكريّا “أبو يحيى”، عبدالله “أبو إبراهيم”، وليد الدوخي، محمّد “أبو بلال”، محمود “أبو تامر” وإبراهيم يوسف صلح، وجميعهم كانوا من آل صُلح باستثناء رجل واحد وهو حسن شلحة الذي كان منشدًا”.
تستعين فرقة “شمس بعلبك” وهي من أشهَر الفرق الموجودة اليوم في المدينة، بعبد الكريم الدوخي كما وفرقة هياكل بعلبك وفرقة المجد، وكلّها فِرَق تدرّبت على يد “الختايرة”.
“قدّمت الفرقة الشعبيّة على مدى سنوات رقصات عديدة من الدبكة البعلبكيّة، كالعرجة، الزَينو، الشماليّة، اللالا، الدلعونا، العسكريّة، و”الحوربة” التي كانت تُقدّم في الأتراح للندبة ولمواساة أهل الفقيد” يقول عبد الكريم دوخي.
ويتابع: “كانت ترافقنا المِنْجَيْرة (الناي أو قصبة الراعي) والمجوِز (المزمار عند الغجر) والطبل، وفي مراحل لاحقة استعنّا بمغنٍّ يتمتّع بصوتٍ جبليّ جرديّ. جلنا بفرقتنا بلدانًا عديدة كالأردن، سوريّا، العراق، البحرين، فرنسا والأرجنتين. وكنّا قد استقبلنا كلّ الوفود الرسميّة التي زارت بعلبك عبر تأدية الدبكة”، و”دَبَكنا” في عرس بهاء رفيق الحريري”.
ويتابع الدوخي: “أذكر أسماء كثيرة شاركنا معهم الدبكة أمثال: نجوى كرم، ملحم زين، محمّد اسكندر، عاصي الحلّاني والمطرب البعلبكيّ علي حليحل. وكان هناك رونق خاص للتعاون مع الشاعر طلال حيدر حيث شاركناه في المهرجانات وكتب فينا قصائد”.
ومن الملفت أنّ شيوخ الفرقة الشعبيّة كانوا يقدّمون وصلات الدبكة بدون مقابل مادّيّ، وكان هدفهم إسعاد الناس وإحياء الأصالة فقط.
صنوف الدبكة البعلبكيّة
تتميّز الدبكة البعلبكيّة عن غيرها بأنواع عديدة، منها “العرجة” و”البدّاويّة” وهي غير موجودة إلّا في الدبكة البعلبكيّة الأصيلة، فالبدّاويّة هي دبكة البدو الرحّل، يكون فيها الكتف بموازاة الكتف، والحبكة بموازاة الحبكة (أيّ حبكة اليد)، وهي “الحبكة” التي ذكرها علي حليحل وغنّاها قائلًا: “نزلو الشباب عالدبكة/ الكتف عالكتف والحبكة عالحبكة”. في دبكة العرجة يتعكّز “الختايرة” على أجساد بعضهم، لذا سمّيت بهذا الاسم، ونستطيع القول إنّها من التراث البعلبكيّ لأنّهم ابتكروها.
النساء في الدبكة البعلبكيّة
غابت النسوة من المشهد البعلبكيّ نتيجة العادات والتقاليد بحسب الدوخي. “كنّ يطلقن “الزلغوطة” في الأفراح من خلف الستائر، إلّا أنّه وفي منتصف الثمانينيّات بدأنَ بالمشاركة في حلقات الدبكة مع عامّة الناس”.
ويضيف الدوخي: “كان الشبّان والشابّات يجرون حوارات غنائيّة بين بعضهم البعض، وهو ما يشبه الردّة والزجل، فيقول الشاب: “عالهوّارة لبستي قميص الشتي شلحتي قميص الشتي صار العشا وما جيتي وين كنتي يا دوّارة” لتردّ هيَ: “عالهوّارة يا دلّي وطّي صوتَك ما تعلّي وَش بدك منّي قولّي وما تشمّت فينا الحارة، شو هالشباب وشو هلشتولي عمتتعدّو ع ورد الجوري، وإجو رفقاتكن عالبيت اشتكولي وحقّ السيكارة تتدينونا”.
وعن الغزل بالمرأة عرض لنا الدوخي كثيرًا من المواويل مثل: “طلّت نجمتِك طلّت من فوق حارتنا علّت” و”هيهات يمّ الزلف” و”الزينو لمّن مَرق قلبي من جوّا قلبي احترق جابتلي كاس العرق” و”قلبي متولّع فيكي برمت عليكي وما لاقيكي”.
نهايات وإهمال
انتهى مجد فرقة الختايرة تدريجًا مع رحيل أفرادها بالتوالي وذلك مع بدايات الألفيّة الثالثة. أمّا عبد الكريم الدوخي فلا يزال ليومنا هذا يرقص الدبكة، وتميّزه هزّة كتفَيه المستمرّة أثناء “الدبك”. والملفت في الدوخي روحه المرحة، ويعود السبب بذلك سعيه الدائم لإسعاد الناس، وعمله قديمًا كما باقي الختايرة في الزراعة لإعالة عائلاتهم، بحيث أنّ الدولة اللبنانيّة لم تقدّم لهم أبسط ما يمكن وهو الضمان الصحّيّ وضمان الشيخوخة.
يُحضّر صلح وفرقة شمس بعلبك اليوم ما يسمّيه “رقصة التحوّل”، يتناول فيها حياة القدّيسة البعلبكيّة “بربارة” من مرحلة الإيمان فالقداسة فالهرب والموت. يقول: “سترتدي الفرقة أثوابًا تعود للرومان، كصلة وصل بيننا وبينهم. وممكن أن نطوّر في الحركات، إلّا أنّنا سنحافظ على إرث الختايرة”.