الحرب جنوبًا تعصف باقتصاد البقاعيّين ومصالحهم
لم تعد صور الأطفال الممزّقة أجسادهم ومشاهد الموت والجرائم الواردة من غزّة هي ما تقلق البقاعيّين فقط، فالبرغم من بشاعة الصور وهول المجازر الإسرائيليّة، إلّا أنّ أبناء البقاع اللبنانيّ يقلقون كذلك من تأثيرات الحرب وتداعياتها المباشرة على اقتصادهم ولقمة أطفالهم.
قبل عمليّات “طوفان الأقصى”، وعلى الرغم من انهيار قيمة العملة الوطنيّة، وتبخّر أموال المودعين، أوجد البقاعيّون كما جميع اللبنانيّين السبل التي تكفل استمراريّة حياتهم، ولو بالحدّ الأدنى، على حدّ المثل القائل: “اللبناني جلده مطّاط بيتأقلم بسرعة مع المشاكل”.
تخزين المواد الغذائية
بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر المنصرم، تسرّب الخوف إلى واقع الناس، وبدأ التأثير السلبيّ يظهر على البقاعيّين في كلّ مجالات أعمالهم وتحرّكاتهم، فيتابعون الأخبار بقلق، مع أمنيات ابتعاد الحرب عن لبنان، خصوصًا على أبواب الشتاء.
في حديث لـ”مناطق نت: يقول وسيم جانبين، ابن بلدة الصويري في البقاع الغربي، والناشط الاجتماعي: “لقد زاد في قرى وبلدات البقاعين الغربيّ والأوسط كباقي المناطق الجنوبيّة والمحاذية لها، الإقبال وبكثافة على شراء وتخزين السلع الغذائيّة، تخوّفًا من اندلاع الحرب وامتداد العدوان الإسرائيليّ إلى كلّ لبنان”.
ويؤكّد “أن البقاع هو المحافظة الأولى والحاضن الأساس الملاصق للجنوب اللبنانيّ، وهو بمثابة خطّ الدفاع الأوّل، الذي يلجأ إليه غالبيّة سكّان الجنوب هربًا من القصف الإسرائيليّ، على نحو ما حدث في عدوان العام 2006، إذ احتضن أبناء البقاع النازحين من الجنوب مدّة شهر كامل واستقبلوهم في بيوتهم وقراهم”.
الحليب يفقد سعره
لم تقف الارتدادات السلبيّة عند تخزين المواد الغذائيّة، بل طالت تأثيراتها قطاعات كثيرة ومختلفة، منها إنتاج الحليب. يقول حمزة الزكرة، ابن مدينة بعلبك وصاحب مزرعة للأبقار: “للأسف علاقتنا بالحروب وطيدة نحن اللبنانيّين، “بتحبل بالصين بتخلّف عنّا”، فبعد عودتي من السعوديّة حيث عملت عدة سنوات، قرّرت التوجّه لقطاع إنتاج الحليب وكان ناشطًا بقوّة، في البداية سارت الأمور بخير وسلاسة، إلى حين اندلاع الحرب الروسيّة- الأوكرانية، فطرأ ارتفاع كبير على سعر العلف وعانى القطاع شهورًا طويلة”.
ويضيف لـ”مناطق نت”: “منذ مدّة عادت الأمور تدريجيًّا إلى مرحلة التعافي، لكن مع تفاقم العدوان الإسرائيليّ على غزّة وعلى لبنان، انخفض سعر كيلو الحليب نحو عشرة سنتات، وهو يعدّ انخفاضًا كبيرًا على المنتجين، في مقابل ارتفاع أسعار الأعلاف والأدوية والطبابة البيطريّة وغياب كامل لبرامج وزارة الزراعة عن دعم القطاع الحيوانيّ”.
ولأنّ هذا التدهور يصيب كثيرين من أصحاب المزارع والزرائب “يبقى صاحب الرزق ينتظر الفرج من الله”، و”لنشوف شو الله كاتب علينا، متلنا متل هالناس”، يختم الزكرة.
السياحة الضحيّة الأولى
في الحروب والانهيارات الماليّة والمصرفيّة، تتأثّر القطاعات السياحيّة بالدرجة الأولى، هذا الأمر يصيب جميع البلدان من دون استثناء. أمّا في لبنان فتنعكس جميع الأوضاع الأمنيّة والسياسيّة وحتّى الاقتصاديّة على القطاع السياحيّ. ومنذ منتصف تشرين الأوّل/ أكتوبر الماضي بدأ الحديث عن انخفاض هائل في حجوزات الرحلات والفنادق والمطاعم في بيروت وباقي المناطق.
في لبنان تنعكس جميع الأوضاع الأمنيّة والسياسيّة وحتّى الاقتصاديّة على القطاع السياحيّ. ومنذ منتصف تشرين الأوّل الماضي بدأ الحديث عن انخفاض هائل في حجوزات الرحلات والفنادق والمطاعم في بيروت وباقي المناطق.
يقول نور الجرّاح (ابن بلدة المرج) وهو صاحب مطعم في منطقة تعلبايا لـ “مناطق نت”: “إنّ تأثيرات حرب غزّة السلبيّة لم تتأخّر أبدًا، بل طاولتنا منذ الأسبوع الأول من انطلاقها”، وأشار إلى أن موسم الصيف كان جيداً جداً، لكن مع بداية الحرب انخفضت الحركة بشكل كبير جدًّا خلال أيّام الأسبوع، مع حركة خفيفة في نهايته”.
أمّا عن السبب فيجيب الجرّاح: “الناس قلقة جدًّا، عم تخبّي القرش خوفًا من الأسوأ الذي قد يحدث، وبدل ما يروحوا عالمطعم بيمشّوا حالهن بالبيت، لأنّهم ما عارفين بكرا شو فيه”.
من المؤكّد أنّ الضرر لا يطال المطاعم والمتنزّهات فحسب، بل يتعداه إلى منتجي الفراريج والخضار والفواكه، وحتّى وسائل النقل. إنّه يصيب الدورة الاقتصاديّة بكاملها.
مرافق تعطّلت كلّيًّا
إنّ الضرر الذي يحدثه العدوان الاسرائيليّ مؤلم جدًّا لأصحاب المصالح والمؤسّسات التجاريّة والتشغيليّة. تتفاوت نسبه بين الجزئيّ مثل المطاعم وإنتاج الحليب والفراريج ووسائل النقل والمرافق السياحيّة، والكلّي كمصانع حجر الزينة والكسّارات والمقالع في البقاع الشماليّ.
يؤكّد رجل الأعمال وصاحب محطّة محروقات على طريق عرسال – اللبوة خالد زعرور “أنّ الحرب أصابتنا في مقتل، وضررها كبيرٌ جدًّا”. ويشير إلى “أنّ الخروج من آثارها في حال توقّفها لن يتمّ قبل الصيف المقبل”.
ويقول لـ”مناطق نت”: “نحن مثلًا، نعتمد في بيع المحروقات وخصوصًا المازوت والزيوت على مصانع الحجر ومعدّاتها من جرّافات وشاحنات ومولّدات كهربائيّة ووسائل نقل أخرى، لقد توقّفت كليًّا، لأنّ بضاعتنا تتّجه في غالبيتها نحو الجنوب والبقاع الغربي. وهذا الأمر انعكس كذلك على ڤانات النقل والباصات ومعظمها بات لا يسافر أو يتنقّل”.
ويضيف: “أمّا قطع السيّارات والإطارات فسوقها باتت في حالة نوم سريريّ. بالمحصّلة، لدينا نحو خمسة آلاف عامل في معامل الحجر، إضافة لحوالي 550 سائقًا، باتوا جميعهم في بيوتهم بلا عمل وبلا مورد”.
ويقول: “لقد حاول بعض اصحاب المعامل المكَابَرة والاستمرار في العمل رحمة بالعاملين، لكن للأسف، اضطرّوا للتوقّف قسرًا”. وينتهي إلى أنّ “الوضع كارثيّ من كلّ النواحي، ففي عرسال مثلًا، لا بلديّة، لا دولة، لا قطاعات خاصّة، فقط بعض الجمعيّات تسدّ القليل من الثغرات”.
مؤسف جدًّا، أنّ المحطّات الأكثر شهرة في تاريخ لبنان هي مآسي الحروب وويلاتها، منذ المجاعة في العام 1840، وجراد الحرب العالميّة الأولى وآثار الحرب العالميّة الثانية، مرورًا بنكبة فلسطين وتهجير أهلها منذ العام 1948، واضطرابات العام 1958، وصولًا إلى الحرب الأهليّة اللبنانيّة سنة 1975، واجتياح العام 1982، وحرب تموز العام 2006، وويلات الربيع العربيّ، وتفجير مرفأ بيروت، والاعتداءات الإسرائيليّة كلّها ومنها العدوان الحاليّ، وما بين هذه التواريخ من مناوشات ومغامرات سريعة.
لكن، يبقى الأمل والرجاء في أن يعمّ السلام والأمان هذه الأرض الطيّبة وأهلها، الذين أوهنتهم الحروب وسرقت خيرات بلادهم وفلذات أكبادهم ومستقبل أطفالهم، والكثير الكثير.