الزراعات البعليّة في الجنوب على طريق الإنقراض
“الزّرع كان بيشبه النّاس. هنّي عايشين بالقلّة وهوّي كمان”… والمقصود هنا بـ “القلة” القليل وليس الفقر والعوَز. إذ لم يكن يُروى بالماء إلا عند زراعته بالقليل جداً، ولم يكن يحتاج إلى عناية بسوى القليل أيضًا، وينمو ويثمر من دون أدوية زراعية وغيرها.
لقد شكّلت الزراعات البعلية الصيفية في الجنوب والتي كانت عادةً تُزرع في الربيع وتُثمر في أوائل الصيف عصب الحياة الزراعية قديمًا. والمقصود بالزراعات البعلية تلك التي تنمو وتعيش وتُثمر من دون ريّها وسقايتها بالمياه، وهي زراعات صيفية متنوعة أهمها البندورة والمقتى والخيار والذرة (العرانيس) والبامية واللوبية والبطيخ والشمام والفليفلة والحر، حيث كان الجنوبيون يُطلقون عليها “صحرا” ينصبون فيها خيمة يصنعونها من جذوع الشجر ويكسونها بالخيش والقش، من أجل حراسة “الصحرا” والاستراحة فيها أثناء العمل والبعض كان يعتمدها كإقامة ومبيت طيلة أشهر الصيف.
حتى أواخر السبعينيات، كان مشهد “الصحاري” صيفًا هو الطاغي في معظم الأراضي الزراعية في الجنوب، حيث كانت تنتشر على جوانب الطرقات العامة “بسطات” تبيع الانتاج الصيفي للقادمين من بيروت. وفي المقلب الآخر وحتى ذلك الوقت أيضًا كان تحضير المونة من إنتاج “الصحاري” شائعاً وأساسياً في المنازل، حيث يتم تحضير رب البندورة “شراب” وتيبيس البامية وكبيس المقتى والخيار والملوخية والبرغل والكشك والكمونة وغيرها الكثير من المنتجات التي كانت العائلات تعتمدها في استهلاكها شتاءً.
بدأ المشهد الزراعي في حقول الجنوب وحواكيره بالتبدّل في أوائل الثمانينيات، حيث بدأت الزراعات المروية صيفًا (المسقية بالماء) بالدخول على الخط، تزامنًا مع بدء استصلاح الأراضي وحفر الآبار الارتوازية، وأيضاً مع التقنيات الحديثة والجديدة التي بدأت حينها تغزو عالم الزراعة. لكن التطور الأبرز كان مع دخول عصر البيوت البلاستيكية (الخيم الزراعية)، حيث شكّل بداية العمل الزراعي بها، محطة مفصلية أساسية في نمط الإنتاج الزراعي في الجنوب، وقلب المشهد رأسًا على عقب.
منذ ذلك الوقت بدأ مسار الزراعات البعلية في الجنوب بالانحدار ومن ثم مساحاتها بالانحسار وصولاً إلى الآن حيث تشير كل الدلائل أنها على طريق الانقراض.
التطور الأبرز كان مع دخول عصر البيوت البلاستيكية (الخيم الزراعية)، حيث شكّل بداية العمل الزراعي بها، محطة مفصلية أساسية في نمط الإنتاج الزراعي في الجنوب، وقلب المشهد رأسًا على عقب
يعزو المهندس الزراعي إبراهيم الراعي سبب ذلك إلى أمر أساسي، وهو تعاظم أعداد السكان، والتي لم يعد الإنتاج الزراعي البعلي يلبي حاجاتها نظرًا لمحدودية إنتاجه، لذلك لجأ الإنسان وبمعية التطور الهائل في علم الزراعة إلى تحفيز الزرع على إنتاج المزيد من أجل سد الحاجات، مستعيناً بالأدوية الزراعية والبذور المهجنة ورش المبيدات وغيرها من أساليب التطور لتحقيق ذلك.
ويستعرض الراعي في حديثه لـ “مناطق.نت” التبدّل في نمط الإنتاج الزراعي، بحيث لم يبقَ محصورًا في كميات الإنتاج التي تضاعفت عشرات المرات مقارنة بالزراعات البعلية، بل بتبدّل طبيعتها الموسمية والتي أصبحت عابرة للفصول والمواسم. إذ لم يكن من الممكن قديمًا، اشتهاء الخيار أو حتى البندورة أو عرانيس الذرة مثلًا في موسم الشّتاء، بل كانت تُزرع وتؤكل حصرًا في موسمها فقط، يُوضح الراعي.
كانت الزراعات البعلية “بنت” الفصول لا تتجاوزها إلى فصل آخر وتعتمد على الموسم فقط. لكن مع الوقت ومع دخول طفرة “الزراعة في الخيم البلاستيكيّة” الّتي انتشرت كالنار في هشيم أراضي الجنوب الزراعيّة، لم يعد مستحيلًا اشتهاء الخيار أو البندورة أو الباذنجان في فصل الشّتاء، وبالتّالي بدأت تفقد الزّراعة البعليّة قيمتها وحضورها.
ضريبة التطوّر
قلّة هم الناس الذين لا يزالون يعتمدون على الزراعة التقليديّة البعلية اليوم، فقد استحوذت المعلبّات والمزروعات المستوردة وطرق الزراعة “البديلة” على الطرق القديمة كونها تحقّق إنتاجيّة أكبر في وقت أقلّ وهي أكثر سهولة وأكثر توفيرًا للتعب والمجهود.
يقول “مصطفى قبيسي” وهو أحد المزارعين الّذين يعتمدون على الزراعة البعليّة حتّى اليوم إلى جانب الزّراعة في البيوت البلاستيكيّة أنّه لم يتخلّ عن الزّراعة البعليّة لطعمة المزروعات “الطيبة”. ويضيف:” البعل هو الأفضل بالنسبة لي وله زبائنه، وبالتالي سعره فيه. والّذي يهتم بهذه الزّراعة سيستفيد قطعًا حتّى لو كان المردود قليلًا”. لا يخفي مصطفى أنّ المنتوجات البعليّة قليلة نسبة للزراعات المرويّة ولكنّه حين يريد أن يأكل شيئًا مضمونًا و”حقيقيًّا” بطعمه يلجأ إلى ما زرعه على الطّريقة البعليّة.
في الماضي كانت الأرض بيت الزّرع، مع الوقت صار للزرع بيت بلاستيكيّ له مناخه الخاص يتم التحكم به. بحسب الراعي الذي أشار إلى أن “الزراعة في الخيم البلاستيكيّة أدّت إلى انتشار “المنافسة” بين المزارعين، وأيضًا بين الشركات على من يمنح البذرة الأقوى والأكبر والأكثر تميّزًا بلونها”.
من ذاكرة الزراعات البعلية في الجنوب يقول أحد الأشخاص الذين كانوا يقيمون في بيروت شتاءً ويمضون عطلة الصيف في “الضيعة” كما كانوا يطلقون عليها، يروي أنه أثناء عطلة الربيع وذهابهم إلى الضيعة، كانت والدته تزرع “الحاكورة” قرب بيتهم هناك حيث كانت تشتري بليرات معدودة شتلات البندورة وغيرها من مشاتل يؤصلها الفلاحون يدويًا من بذور الثمار التي يجنونها في المواسم. يتابع “حين عودتنا في بدايات الصيف تكون البندورة والعرانيس والمقتى والخيار قد “دخلت” فنبدأ “بالتحويش” وتبدأ أمي بتحضير المونة وخصوصاً “شراب البندورة” وغيره.
كانت رائحة البندورة والخيار والمقتى تملأ أجواء الحاكورة عند قطافها، وكان طعمها رائعاً ومميزًا يميل إلى الحموضة وفيه كل الخواص الغذائية.
كانت رائحة البندورة والخيار والمقتى تملأ أجواء الحاكورة عند قطافها، وكان طعمها رائعاً ومميزًا يميل إلى الحموضة وفيه كل الخواص الغذائية.
لم تكن الزراعة البعليّة بحاجة إلى معالجة قديمًا، أو إلى مواد عضوية وكيماويّة أو إلى “الرش” لكي تنمو. بحسب الراعي، هذه هي ضريبة التّطوّر فالأمراض صارت تنتشتر أكثر كوباء “توتا أبسالوتا” الّذي لم يكن موجودًا في لبنان. يقول:” هذا المرض مستورد إلى لبنان فالعالم صار قريةً كونيّة. قديمًا مع الزراعة البعليّة لم تكن هذه الأمراض هاجسًا فهي لم تكن موجودة”.
اليوم صارت الحشرات والأمراض تتفوّق على الزّرع، فصار الزرع مكلفًا أكثر ومع مرور الوقت يتطلب موادًا وأدوية أقوى تركيبةً. كالإنسان تمامًا، يبني الزرع حاجز مناعة ضدّ المواد المستخدمة للحد من فتك الأوبئة والأمراض، بالتالي يُجبر المزارع على تغيير هذه المواد بين الفترة والأخرى.
يشير مصطفى قبيسي، الآن حتّى الزراعة البعليّة تطلّب مواد للحشرات والفطريّات. “لا أستخدم المواد الكيماويّة. هناك مواد تُستخدم على الدم البارد ولا تؤثّر على الإنسان نهائيًّا. أمّا المادة الّتي أستخدمها لتجنّب الفطريات فهي مصنوعة من الكبريت” يقول قبيسي.
بحسب المهندس ابراهيم الراعي الزّراعة البعليّة هي الزّراعة الصّحيّة فهي تحتوي على خصائص ومكوّنات لم يتدخّل بها الإنسان، على عكس زراعة البيوت البلاستيكيّة. “تحتاج زراعة الخيم إلى مواد كيماويّة بكميّات هائلة. فهي تعتمد على الرّش بالدّرجة الأولى، أقلّه ثلاث مرات في الأسبوع” يقول الراعي.
الزّراعة والإنتاج المحلّي
بحسب الراعي لا تشكّل كمية إنتاج الزراعة البعليّة أكثر من ١٠% نسبة للمساحة نفسها المزروعة في الخيم. ويشير الراعي إلى أن حجم الإنتاج الزراعي من البندورة في الخيم البلاستيكية يصل إلى حوالي 18 طنا
للدونم الواحد الذي يضم خيمتين زراعيتين، وذلك في الموسم الربيعي وأقل منه في الموسم الخريفي. وبالتّالي يضيف الراعي أنه لا يمكن للزراعة البعليّة أن تكفي حاجات الاستهلاك مهما اعتمد عليها اللبنانيون والجنوبيون.
في ظلّ غياب الدولة عن القطاع الزراعي في لبنان، يواجه المزارع اللبناني مختلف الصعوبات وحيدًا دون مرجعيّة واضحة ومحددة. ما أتاح لبعض المحتكرين التّصرف بعشوائية تامة مع الزراعة والمنتوجات الزراعية والمستهلك. يضيف الراعي أنّه قديمًا كانت الزراعات جماعيّة، كما هو الحال في بلدان الخارج اليوم. “في الخارج هناك تعاونيات زراعية وتنظيم جماعي، وكذلك كان حال لبنان يومًا. ولكن اليوم المزارعون فرادى” وهم الحلقة الأضعف في عملية الانتاج الزراعي يقول.
إضافة إلى تأثير غياب السياسات الرسميّة على تنظيم المنتجات الزراعية، تغيب الدولة عن تأمين حياة المزارع ومردوده المادي والمعيشي. فصارت الزراعة اليوم في ظلّ الازمة كالمقامرة والترقب، “انت وحظّك”، إذ أنها تعتمد على العرض والطلب. يقول الراعي:” المزارع اللبناني وحيدًا في ظلّ كلّ الأزمات، يشتري بالدولار ويبيع بالليرة اللبنانية وأسعار الخضار ليست ثابتة. المتضرّر الأكبر في ظلّ الأزمة هو المزارع الّذي صار يزرع لتسديد ديونه”.
كما يشير الراعي إلى آفة الاستيراد التي تشكّل مشكلة المشاكل بالنسبة للمزارع، الذي قد يخسر محاصيله ومنتجاته نتيجة المقايضات واستيراد المزروعات نفسها من الخارج ما يضرب الإنتاج المحلّي لصالح فوائد الدولة من الإستيراد.
في المحصلة، لم يتغيّر الزرع وحده، الأرض تغيّرت أيضًا ولم تعد “بعلية”. الاستصلاح العشوائي للأراضي قضى على الميزة الريفية للقرى والبلدات ولم تعد كذلك. صارت مدنًا وغابات اسمنتية. لم يعد للفصول رائحة وللزرع أيضاً، لم يعد يعيش “بالقلة” صار رقميًا بامتياز.