الصنوبر لم يعد بروليتارياً.. “الزراعة” تهمله والحشرات تهدّده!
غاب الصنوبر عن مأكولات وأطباق اللبنانيين خلال شهر رمضان هذا العام، وحلت محله النكات اللاذعة والساخرة التي تصف الارتفاع القياسي الذي وصل إليه سعر الصنوبر حيث بات شراؤه خارج قدرات اللبنانيين… “معاشي بيساوي كيلو ووقية من الصنوبر”.. قالها أحد مندوبي المبيعات لأحد أصحاب الميني ماركت أثناء عرضه للبضائع التي يسوقها. وفي إحدى النكات الساخرة التي يجري تداولها عبر وسائل التواصل “مطلوب مرسيدس تكون نضيفة.. والدفع صنوبر”.
يعتبر الصنوبر مادة أساسية في بعض أنواع الأطعمة والحلويات، ومن الطبيعي أن يزداد الطّلب عليه في شهر رمضان كونه يدخل في العديد من أنواع المأكولات والحلويات كالأرز والكبة والفتة وغيرها، لكن مع وصول سعر كيلو الصنوبر إلى أكثر من 1000000 ليرة، امتنع القسم الأكبر من اللبنانيين عن شرائه مكتفين بإلقاء نظرة صادمة على سعره والتحسّر لما وصلت إليه أحوالهم.
مناطق عدة في لبنان تنتج الصنوبر البلدي، لكن تبقى منطقة جبل لبنان تحتل المرتبة الأولى إذ تحوز على ما نسبته 80 في المائة من إجمالي هذا الإنتاج، بينما يُنتج الجنوب 18 في المائة، وتبقى النسبة الأقل في مناطق الشمال والنبطية بنسبة 1 في المائة لكل منهما.
ووفق دراسات أجريت في العام 1996 حول كميات الإنتاج تبيّن أن إنتاج الأكواز كان بمعدل 3.2 طن/هكتار. وفي مسح أجري على 24 حرجاً من أحراج الصنوبر موزّعين ما بين جبل لبنان والجنوب، تبيّن وفقهم أن إنتاج أكواز الصنوبر تراوح بين 0.03 طن/هكتار و10 طن/هكتار خلال السنوات ما بين عامي 2008 و2014. إلا أن هذا الإنتاج تراجع بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة بفعل عوامل عدة، لعبت دورًا أساسيًا في رفع أسعار الصنوبر التي وصلت إلى حوالى الـ 70$ في الأسواق المحلية بعد أن كانت تقدر بحوالى 50$.
شهد إنتاج الصنوبر في لبنان انخفاضًا ملحوظًا خلال السنوات الماضية، فبعدما كان ينتج 800 طن سنوياً، انخفض هذا الرقم إلى نحو 300 طن أي بنسبة تتراوح بين 35 و40 في المائة. تدني الإنتاج ترافق مع الأزمة الاقتصادية وعجز اللبنانيين عن شرائه بسبب تدهور سعر صرف الليرة مقابل الدولار، الأمر الذي استغله التجار لتهريب الصنوبر البلدي إلى الخارج بعد أن كان لبنان يستورده من تركيا وأفغانستان وباكستان والصين باعتبار سعره المنخفض سابقًا.
يوضح أجود المصري، وهو نجل رئيس نقابة عمّال ومزارعي الصنوبر في جبل لبنان، أن “التجار يصدرون الصنوبر إلى الخارج ويتكتمون على وجهة تصديره التي قد تشمل كل من أفريقيا وأوروبا”. ولفت المصري إلى أن ذلك يساهم في ضرب الإنتاج المحلي ويزيد من ارتفاع الأسعار. واشتكى المصري من تراجع الأجور لعمال الصنوبر الذين كانوا يتقاضون 80 دولاراً يوميًا أي 120 ألف ليرة قبل الأزمة الاقتصادية، بينما انخفض أجرهم اليوم إلى 250 ألف ليرة يوميًا أي أقل من 25 دولار.
تصل إيرادات قطاع الصنوبر في لبنان إلى حوالى 120 مليون دولار سنويًا، ويعتاش من إنتاجه حوالى 1500 عائلة. لذلك يعتبر ركيزة إقتصادية مهمة خصوصاً في قرى منطقة المتن الأعلى التي تحوي حوالى 150 ألف شجرة صنوبر ويعتاش جزء يسير من أهلها على إنتاج تلك الحبوب.
قطاف الصنوبر
تشتهر بلدة صليما في المتن الأعلى بأشجار الصنوبر التي تنتشر بكثافة في أراضيها وكأنها سورٌ يحيط بالبلدة. يحتاج قطاف الصنوبر في صليما إلى أكثر من 100 عامل سنويًا، حيث تشكل هذه الأشجار ثروة لأهالي المنطقة، التي تتميز بعدم حاجتها للعناية الدائمة بل جلّ ما تتطلبه هو أن يتمّ تشحيلها مرة كل أربع سنوات.
بدوره يقول الدكتور عبدالله سعيد وهو أستاذ مادة التاريخ في الجامعة اللبنانية إن عملية القطاف لا تزال يدوية تعتمد على الجهد البشري، حيث يقوم العامل ويدعى “القطّاف” بتسلق شجرة الصنوبر باسقةِ الطول باستخدام السّلم، ويزحف حافي القدمين أو بحذاءٍ من الكاوتشوك، ثمّ يلتقط الصنوبر بواسطة عكفة أو “معليقة” ويسقطها أرضًا ليقوم عامل آخر بجمعها وإحصائها. وحذّر د. سعيد من المخاطر الناجمة عن هذه الآلية التي تتسبب أحياناً بالوفاة للعاملين في عملية القطاف، أو الإصابة بكسور في أجسادهم نتيجة سقوطهم أرضًا من أعلى الشجر.
الأزمة الاقتصادية وتدني الإنتاج أدى إلى تراجع أعداد العاملين في القطاع. حوالى 150 “فراط” كانوا يعملون السنة الماضية في صليما لم يبق منهم سوى 10 عمّال. والسبب في ذلك دخول آلة “الفقاية” التي حلّت محل العامل الذي كان يعمل على تخزين أكواز الصنوبر على السطوح، حيث كانت تترك بعد القطاف على أسطح المنازل أو في المستودعات. في منتصف شهر أيار يتم البدء بفلش الأكواز حيث تتعرض لأشعة الشمس والهواء لتجف كي تتفتح تلقائيًا، عندها تُنقَل إلى مصنع مخصّص لكسر الأكواز وفصل الحب عن القشور.
عملية قطاف المحصول بشكل يدوي لا يمكن الاستعاضة عنها نظرًا لطبيعة الأرض الصخرية والوعرة التي يتواجد فيها الصنوبر وانتشار الأشجار بطريقة عشوائية. إلا أنه من الضروري اعتماد استراتيجية زراعية تقضي بالسماح بتفريد الصنوبر عن بعضه، أي توسيع المساحة بين الشجرة والأخرى لتفادي أي حريق.
وعدّد د. سعيد فوائد الصنوبر فقال إن لهذه الثمرة فوائد عديدة، فبالإضافة إلى طعمها الذي يتفوق بجودته ونكهته على الصنوبر المستورد، يمكن استخدام زيتها في صناعة الأدوية. وأضاف “فوائد الصنوبر لا تقتصر على الحبّ، فخلاصة لحاء الصنوبر تستعمل للأراضي القلوية لتزيد حموضتها، كما أن خشبه يُستخدم في صناعة الأثاث، ويمكن الاستفادة من غباره كسمادٍ للأرض”.
أشجار الصنوبر… الواقع والتحديات
عوامل عدة لعبت دورًا في انخفاض الإنتاج، من جملة هذه الأسباب وأهمها إصابة أشجار الصنوبر بأنواع معينة من الحشرات أدت إلى مرضها وموتها الفجائي. يشرح المهندس الزراعي غسّان المصري أنه منذ حوالى ثلاث سنوات تمّ رصد حشرة Leptoglossus occidentalis في لبنان، وهي حشرة تصيب أشجار الصنوبر ومعروفة في أميركا الشمالية وأوروبا وتركيا، والتي “تمتص العصارة من الأكواز الفتية مما ينتج أكوازًا ضعيفة فارغة من الداخل”.
يتابع المصري حديثه ل”مناطق نت” مشيرًا إلى حشرة Tomicus destruens أو “خنفساء قتح” المرجح دخولها إلى لبنان عن طريق التجارة الدولية لأشجار الزينة والخشب. شارحًا بأن هذه الحشرة تسبب نوعين من الضرر، فمن شأنها ان تؤدي إلى “يباس البراعم بسبب تغذية الحشرات البالغة ويباس الشجرة بسبب تغذية اليرقات”. وختم المصري حديثه بالتنبيه من حشرة دودة الصندل التي تعتبر من الآفات الخطيرة في منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط.
كثُرت هذه الحشرات بعد ازدياد الصيد العشوائي الذي قضى على العديد من الطيور التي تأكل هذه الحشرات، كالزرزور واليمام والصقور ونقّار الخشب. مما يُلزم السلطات المعنية بتشديد الرقابة ووضع حدّ لهذه الممارسات.
الاهتمام الرسمي بهذا القطاع خجول جداً، وتحديداً من قبل وزارة الزراعة التي يترتب عليها أن تمدّ المزارعين والبلديات المعنية بالأدوية اللازمة، ومن ثم تقديم الإرشادات المطلوبة ليتمكنوا من مكافحة مثل هذه الآفات قبل استفحالها أكثر. لكنّ الوزارة اكتفت برشّ أشجار الصنوبر عبر طوافات الجيش اللبناني ولكن بمبيدات سامّة، الأمر الذي تسبّب بأضرار كبيرة على النحل الذي يتواجد أسفل شجر الصنوبر فقضت عليه وعلى عسله. لذلك ينبغي أن يكون التحرك على مستوى وطني وبشكل فوري للقيام بأعمال معالجة الأشجار في المناطق التي تتواجد فيها الحشرات ووفقًا لتوصيات وزارة الزراعة والمهندسين المختصين، فالجهود الفردية تبقى محدودة التأثير. مع الإشارة إلى أن الرش لمكافحة الحشرات يمكن أن يتم بين أوائل حزيران وتشرين الأول، حيث تكون الحشرات الفتية قد ظهرت حديثًا.
صنوبر لبنان إن حكى
لصنوبر المتن الأعلى في لبنان حكاية عمرها أكثر من 500 عام. وهي ابتدأت مع الأمير فخر الدين المعني الثاني الذي حمل معه أول شجرة صنوبر من “توسكانة” الإيطالية عام 1618، وتوسّعت مع المتصرّف العثماني فرانكو نصري باشا عام 1872 والذي أحضر معه من الأناضول كميات كبيرة من بذور الصنوبر، قام بتوزيعها على القائمقاميات والمديريّات بهدف زراعتها، حيث كلّف أحد أعضاء مجلس إدارة المتصرفيّة حينذاك حسن شقير من بلدة أرصون بالإشراف على توزيع تلك البذور على بلدات المتن بكاملها، ومنذ ذلك الوقت بدأت زراعة الصنوبر في لبنان واشتهرت به بلدات المتن الأعلى.
ونتيجة نمو وانتشار أشجار الصنوبر وصلت كميات الإنتاج منه في العام 1968 إلى حوالى 15 طن ونصف موزعة على مناطق مختلفة. وقد حظيت منطقة المتن الأعلى وحدها بحوالى الربع من إجمالي تلك الكمية، وذلك بسبب طبيعة أراضيها الرملية والصخرية الوعرة التي تصلح لشجر الصنوبر.
بالرغم من انتشارها وازديادها تعرضت أشجار الصنوبر في لبنان خلال مراحل عديدة إلى الحرق والقطع. عن ذلك يقول د. سعيد “حرش المتن تعرض لحرائق وأعمال قطع لفترات طويلة، فعندما ثار محمد علي باشا كان يقطع أشجار الصنوبر ليستخدمها في تنقية الحديد والفحم الحجري. كما استعملها الأتراك في الحرب العالمية الأولى عندما فُرض عليهم حصار، وذلك لبناء السفن ولوقود القطارات”. وأوضح د. سعيد أن منطقة المتن الأعلى خسرت قسماً كبيراً من أحراج الصنوبر بفعل الحرب إضافة إلى الحرائق التي حصلت منذ حوالى الـ 10 سنوات والتي أدت إلى تلف 15 وحدها ألف شتلة صنوبر في صليما.
أكواز الصنوبر في أعالي الشجر تحلّق عالياً وأسعاره تتفوق عليها تحليقاً. سيعتاد اللبنانيين على خلو طعامهم من الصنوبر لفترة طويلة لا أحد يدري إلى متى ستنتهي. فقط ميسوري الحال سيتنعمون بمذاقه وطعمه ومعهم التجار الذين يجنون كالعادة أرباحاً طائلة جرّاء رفعهم للأسعار على حساب المستهلك والعامل في حقل قطاف الصنوبر. “ذهب لبنان” لم يعد أبيضاً بالنسبة لربات البيوت اللواتي اعتدن على تحضير الطعام وزيادة تلك المادة السحرية عليه. والتي فازت منهن تلك التي اعتمدت المثل القائل “خبي صنوبرك الأبيض لقشور هذه الأيام السوداء”.