العرقوب خطّ المواجهة التاريخيّ.. صموده متأرجح بلا مقوّمات
داهم القصف الإسرائيلي المناطق الجنوبية اللبنانيّة، ومنها منطقة العرقوب عند سفوح جبل الشيخ، قبل نضوج موسم الزيتون الذي ينتظره الصامدون عند تلك الحدود طوال عام كامل، إذ يشكّل المصدر الأول لحياة الناس هناك، من أعالي شبعا وكفرشوبا نزولاً نحو الفرديس.
القصف الذي يتوالى منذ أكثر من شهر وبشكل شبه يومي، يتزامن مع أوضاع صعبة تعيشها المنطقة التي تفتقد إلى جميع مقوّمات الصمود، يأتي في طليعتها الملاجئ والمستشفيات، الأمر الذي جعل خيار النزوح وحيداً أمام الأهالي وهو ما يوصّفونه بالمذلّ.
“ما نشهده اليوم من اعتداءات على كفرشوبا، أدّى إلى نزوح عشرات العائلات”.. هذا ما قاله رئيس بلدية كفرشوبا الدكتور قاسم القادري لـ “مناطق نت” مضيفاً: “هذا الأمر ليس جديداً ولم يبدأ اليوم أو البارحة، بل بدأ منذ العام 1948، وتصاعد منذ العام 1968”.
وذكّر القادري أن الاعتداءات الإسرائيليّة دمرت كفرشوبا خمس مرّات، في الأعوام: 1970 و1975 و1976 و1982 وأخيراً في 2006، مشيراً إلى أن “كلّ ذلك والناس هنا متروكة لأمرها، ومن لحمها الحيّ تعيد بناء ما يدمّره العدو”.
يتابع: “منذ ذاك الحين، لم تبنِ الدولة اللبنانيّة ملجأً واحداً في قرى وبلدات العرقوب برمّتها، أو مستوصفًا أو مستشفى، وهي تغيب تماماً عن كثير من الأمور الحياتيّة الضروريّة للناس في مجتمع ريفيّ وزراعيّ بامتياز”.
النزوح ملاذ إذ لا مقوّمات صمود
يشير القادري إلى أنّ “لا مقوّمات للصمود بتاتاً في كفرشوبا وفي جميع بلدات العرقوب، إذ لا شيء سوى إرادة الناس وتعلّقها بأرضها. أقلّه كان يفترض تأمين مقوّمات تتعلّق بالصحّة والاستشفاء والدواء.
ويتابع:” لا يوجد عندنا مستوصف واحد للإسعاف الأوّلي في حال وقوع إصابات أو جرحى، وأقرب مستشفى إلينا هو في مرجعيون أو في حاصبيا، والمسافة إليهما لا تقلّ عن عشرين كيلومتراً، ما يعني أنّ جريحنا قد يلقى حتفه أثناء الطريق، مع أن وضع المستشفيين مزرٍ جدًا، وليسا أفضل حال من مستوصف في كفرحمام يتبع مؤسّسة عامل”.
أدى القصف الأخير على كفرشوبا ومزرعة حلتا التابعة لها عقاريًّا، إلى تقطّع أسلاك الكهرباء وإصابة محوّل التوزيع، ما سبّب انقطاع المياه، إذ إنّ البئر التي تغذّي البلدة تقع في حلتا وتصل إليها الكهرباء من الوزّاني، والمياه تقطع ثلاث مراحل من الضخّ كي تصل وفيرة إلى كفرشوبا، بفارق ألف متر ارتفاعاً بين البئر وخزّان الضخ إلى البلدة.
يقول القادري: “إتّصلتُ بطوارئ شركة الكهرباء في بيروت، وهم بدورهم أعطوا الأمر إلى مركز طوارئ حاصبيّا لإعادة وصل الخطوط والأسلاك، لكن المركز في حاصبيّا ردّ بعدم إمكانيّة التصليح في ظلّ الوضع الأمنيّ القائم”.
أدى القصف الأخير على كفرشوبا ومزرعة حلتا التابعة لها عقاريًّا، إلى تقطّع أسلاك الكهرباء وإصابة محوّل التوزيع، ما سبّب انقطاع المياه، إذ إنّ البئر التي تغذّي البلدة تقع في حلتا وتصل إليها الكهرباء من الوزّاني.
واستغرب القادري هذا التقاعس لافتاً إلى أنه “كان يمكن التنسيق مع الجيش اللبنانيّ و”اليونفيل” لرعاية تصليح الأعطال، لكن لا ندري لماذا لم يحصل ذلك”!. وروى لـ “مناطق نت” قائلاً “خاطرت بنفسي وبعض العمّال وذهبنا إلى “بئر النجمة” القريبة من البلدة والتي تشتغل على خطّ “الخدمات” الكهربائيّ، حتّى أمّنّا وصول المياه إلى البلدة كي تشرب الناس”.
الشائعات وذلّ النزوح
وأسف القادري كيف أنّ الشائعات ساهمت بنزوح الناس “وليس الاعتداءات التي ما زالت حتّى اليوم عند أطراف البلدة، مع العلم أنّ أهالي كفرشوبا لم يتركوا بلدتهم حتّى في أيّام القصف عليها في فترات متلاحقة”.
ويوضح أن “ثمّة اتصالات تأتي من خارج البلدة، وتقول لبعض الأهالي الصامدين ما مفاده أنه في الساعة الفلانيّة ثمّة عمليّة أمنيّة كبيرة ستحصل، وستتعرّض البلدة إلى قصف عنيف!. للأسف، هناك عائلات تركت بيوتها في الليل بناء على هذه الشائعات، ولم يجرِ على الأرض أيّ منها”.
بالإضافة لذلك، ساهمت شائعات سرت وتداولتها وسائل التواصل وبعض وسائل الإعلام عن منشورات ألقتها الطائرات الإسرائيليّة فوق الجنوب تدعو الجنوبيين للتحرك شمالاً، في نزوح العديد من العائلات، ليس من كفرشوبا فحسب، بل من بلدات العرقوب بأكملها.
“قلنا للناس إبقوا هنا أرحم لكم من ذلّ النزوح”. يقول القادري خاتماً حديثه: “نفكّر جدّيًّا بإنشاء مراكز إيواء في قلب الضيعة وليس في خارجها، ربّما في المدرسة الرسميّة، ونحيّدها عن أيّ صراع برعاية وحماية الجيش اللبنانيّ وقوّات اليونفيل”.
الزراعة والمواشي عصب الحياة
تقطن في كفرشوبا نحو 350 عائلة بشكل دائم، وفي حلتا 150 عائلة، ونحو 27 عائلة في وادي خنسا التابع للبلدة. يعتاش معظمهم من الزراعة، وفي طليعتها الزيتون، وكذلك من تربية الماشية. نزحت معظم العائلات إلى حاصبيا ومرج الزهور والرفيد (راشيا)، وبعضهم حلّ عند أقارب في صيدا، وثلاث عائلات في بيروت. في حاصبيا لجأت العائلات النازحة إلى مبنى مدرسة وإلى فندق قيد الإنشاء.
في فترة الصباح يعود أفراد من العائلات القريبة في حاصبيا وجوارها إلى البلدة لإطعام الدجاج والطيور، وكذلك الأبقار والمواشي. مع العلم أنّ أصحاب القطعان الكبيرة غادروا بها إلى عين قنيا وعين جرفا (حاصبيّا) ومدوخا (راشيا) ومنهم من أرسل مواشيه إلى سوريّا ليحافظوا على مصدر رزقهم ورزق العديد من عائلاتهم بعيداً عن القصف.
العدوان والنزوح يهدّدان موسم الزيتون
“يمكننا القول إنّ الناس نزحت أخيراً من كفرشوبا” يقول المزارع خيرالله عبد العال ويضيف: “تركتْ الناس موسم الزيتون على أمّه وهو موسم جيّد هذا العام، وما قطفوه لم يتجاوز 30 بالمئة، إذ إنّ الكروم والأشجار التي قطفت هي القريبة فقط من البيوت ووسط الضيعة، لكنّ ما يشكّل موسم الإنتاج للأهالي سيخرب، إن لم يعودوا إلى قطافه في خلال أسبوع أو عشرة أيام”. مشيراً إلى أنه “من المؤكّد أنّ حبّات الزيتون ستتساقط على الأرض وسيسقط معها مصدر معيشتهم لهذه السنة، إذ لا يقلّ إنتاج كلّ بيت في كفرشوبا عن ثلاثين أو أربعين تنكة زيت، وتصل بعض العائلات في إنتاج الزيت إلى أكثر من 200 تنكة”.
لا ينفي عبد العال تعرّض حقول حلتا وكفرشوبا إلى سقوط القذائف، بالقرب من بعض ورش قطاف الزيتون، “لكن المشكلة أنّ العامل في ظلّ هذا الوضع لن يأتي إلى كفرشوبا بأقلّ من ثلاثين دولاراً كأجر يوميّ، بينما يرضى بنحو عشرة دولارات في حاصبيا، لأنّها بعيدة عن القصف والاعتداءات”. مستبعداً أن يأتي العامل وأصحاب البساتين خارج بيوتهم وحقولهم.
ينتظر أهالي كفرشوبا والجوار موسم الزيت والزيتون لشراء حطب التدفئة والمازوت وتسجيل أولادهم في المدارس “ومن دون زيت لن يكون هناك حطب ولا مازوت ولا مدارس، والشتاء على الأبواب، والشتاء عندنا قارس وبارد جدًّا، فبلدتنا تقع على ارتفاع يتراوح بين 1200 و1500 متر عن سطح البحر، وجارنا جبل الشيخ، جبل الثلج” يردف عبد العال.
الناس متروكة لقدرها
يؤكّد الياس اللقّيس من إبل السقي وهو صاحب منتجع “Villa Scrips” “أنّ الحياة شبه مشلولة في المنطقة، من هنا إلى أعالي العرقوب. الناس متروكة إلى قدرها ولا نعرف على أيّ أساس ستصمد في قراها وبلداتها، طالما أنّ الدولة غير موجودة وغير مبالية في من ينزح أو من يبقى في بيته، مع العلم أنّ من بقي هو من لا يستطيع شراء ربطة خبز، فإلى أين سينزح؟”.
منذ بداية الاعتداءات في الثامن من تشرين الأول/أكتوبر المنصرم، أقفل اللقيس منتجعه السياحيّ، ومثله فعل جميع أصحاب المتنزّهات والاستراحات والمطاعم المنتشرة في المنطقة “من أين سنأتي بالزبائن وهم نازحون ولا حول لهم أو قوّة، ومن كان يأتي من خارج المنطقة، من المؤكّد أنّه لن يأتي في ظلّ هذه الظروف المربكة والمقلقة” يقول اللقيس.
ويضيف: “فقط أوتيل الدانا وأوتيل جوزيف عاصي يشتغلان، إذ نزل فيهما الصحافيّون اللبنانيّون والأجانب ممّن يقومون بتغطية العدوان، على اعتبار أنّ إبل السقي قريبة من مراكز اليونفيل في المنطقة”.
“الفلّة مذلّة”
يشير اللقيس لـ”مناطق نت” إلى أنّ “ثمّة صموداً ملحوظًا في إبل السقي، لأنّ الناس يدركون أنّ “الفلّة مذلّة”. بعض العائلات أخرجت النساء والأطفال، لكنّهم يذهبون في الليل ويعودون عند الصباح”.
ويلفت اللقيس إلى أن “الحياة في المنطقة تتحوّل إلى عادية في فترة ما قبل الظهر، لكن قبل أن يحلّ المساء تنعدم المواصلات، من هنا إلى كلّ بلدات وقرى العرقوب، وأكثر ما يخيف الناس هي المُسيّرات المعادية التي لا تغيب عن أجواء المنطقة”.
الياس اللقيس: الحياة شبه مشلولة في المنطقة، من هنا إلى أعالي العرقوب. الناس متروكة إلى قدرها ولا نعرف على أيّ أساس ستصمد في قراها وبلداتها، طالما أنّ الدولة غير موجودة وغير مبالية.
ويؤكّد اللقيس إلى أنّ “المنشورات الكاذبة، هي التي أربكت الناس أخيراً، وجعلت كثيرين من أبناء المنطقة ينزحون إلى خارجها”. ويختم: “إنّ الجيّد في الأمر أنّ أهالي إبل السقي تمكّنوا برغم الوضع الأمني المتردّي من قطاف زيتونهم وعصره، وهو مصدر أوّل لمعيشتهم، ومن دونه كانوا سيجوعون حتمًا، خصوصًا أنّ سعر التنكة الواحدة يتراوح اليوم بين 120 و130 دولاراً، وبعض العائلات تنتج أكثر من 4000 دولار أو 5000 دولار في الموسم، وهناك من ينتج أكثر بكثير”.
اعتداءات من عمر “النكسة”
ما فتئت منطقة العرقوب، تدفع الغالي والنفيس في مواجهة الاعتداءات الإسرائيليّة المتكرّرة على بلداتها وقراها التسع، ومزارعها المتعدّدة، منذ أمد بعيد، منذ احتلال فلسطين في العام 1948، ثم بوتيرة عنيفة ومتصاعدة بعد العام 1969، حيث سُمح لفصائل المنظّمات الفلسطينيّة وقواها المتعدّدة الانتشار في المنطقة، والانطلاق في الكفاح المسلّح والعسكريّ، وذلك وفق إتفاق القاهرة الشهير، الذي سُميت المنطقة بعده بـ “فتح لاند”.
تتكوّن العرقوب من مجموعة قرى وبلدات تقع كلّها في قضاء حاصبيّا، وتضمّ: شبعا، كفرشوبا، الهبّاريّة، كفرحمام، راشيّا الفخّار، المَاري والفرديس. وتتكرّس معاناة المنطقة الدائمة بسبب موقعها الاستراتيجيّ عند مثلّث لبنان وفلسطين المحتلّة وسوريّا، وتداخل الأراضي اللبنانيّة مع أراضي البلدين، ما جعل يد الإسرائيليّين تمتدّ احتلالاً على مئات الدونمات من الأراضي الزراعيّة والجبليّة، مرّة تحت حجّة أنّها أراض فلسطينيّة، ومرّات لاعتبارها أراض سوريّة (محتلّة)، والعالم كلّه يدرك قضيّة الصراع العالق حول مزارع شبعا التي يطالب لبنان باستردادها من الاحتلال الإسرائيليّ كونها أراض لبنانيّة مملوكة من أصحاب لبنانيّين.