النازحون في شهرهم العاشر معاناة مشرّعة على المجهول
“الدولة شبه غائبة، المنظّمات الدولية محكومة بسقوف محدّدة في موضوع المنح والتقديمات، القطاع الصحّيّ غير قادر على توفير مستلزمات الطبابة والاستشفاء، نعيش الذل، نواجه العوز، كأنّنا نتسول”.
هذا لسان حال النازحين بعد أكثر من 10 أشهر من المعاناة، فيما لا يعلم أحد إلى متى سيطول أمد الحرب. ويبقى السؤال الأهمّ: ماذا لو اتّسعت دائرة الاعتداءات الإسرائيليّة؟ فثمّة هواجس أبعد من هذه اللحظة الكأداء المشرّعة على معاناة أكبر وأشدّ، وربّما أكثر إتّساعًا من جغرافيا الحرب بحدودها المعلنة الآن.
من يزُرْ مراكزَ الإيواء، ولا سيما تلك القائمة في المدارس وتحديدًا في صور، يشاهد ما تحجبه “الميديا” عمدًا أو بالعرض، ذلك أنّ المعاناة تظهر أكثر في التفاصيل، فلكلّ عائلة حكاية تفيض بالحزن حدّ البكاء، فُقراء نعم، لكن أعزّاء، انسلخوا عن أرضهم، وغابوا عن تفاصيل هي الآن بعيدة في منازل دُمّرت أو غادرها صخب الحياة، ومنهم من اضطرّ إلى بيع مصدر رزقه كالمواشي بأبخس الأثمان، ابتعدوا عن أرضهم التي كانت تفيض بالخير، وباتوا يتوسلون اليوم ما يسدّ الرمق.
ذلّ الطبابة والاستشفاء
آلاف النازحين وكثر من بينهم ليس في مقدورهم تأمين دواء الضغط أو السكّريّ وسائر الأمراض المزمنة، أمّا المستشفيات فحدّث ولا حرج، إذ تطالب النازح بتأمين فروق لا يغطّيها الضمان أو وزارة الصحّة، وإلّا سيكون ممنوعًا من مغادرة المستشفى، وها أنّه أمام معضلة جديدة، فمن نزوح قسريّ إلى “إقامة جبريّة” فيما المسؤولون لا يعنيهم الأمر “خلّي وزارة الصحّة تدفعلك”! وجميع من هم في مراكز الإيواء فقدوا أعمالهم، فكم هو صعب توسّل المساعدة، لمن كان في أرضه “مزارع مكفي وسلطان مخفي”، وإذا به نازح يعيش الذلّ، فهل يحتمل القلب مأساة معطوفة على الخوف من حاضر ومستقبل؟
من يزُرْ مراكزَ الإيواء، ولا سيما تلك القائمة في المدارس وتحديدًا في صور، يشاهد ما تحجبه “الميديا” عمدًا أو بالعرض، ذلك أنّ المعاناة تظهر أكثر في التفاصيل، فلكلّ عائلة حكاية تفيض بالحزن حدّ البكاء
مساعدات بالقطارة
حيال هذا الواقع لا يمكن إلقاء اللوم على الجهات المعنيّة المشرفة على أوضاعهم، إذ إنّ ثمّة عملًا يُبذل، وإن كان دون المطلوب وأقلّ بكثير من الحاجات اليوميّة للنازحين، فالأموال شحيحة والمساعدات تأتي بالقطّارة، وما على المعنيّين إلّا العمل بـ”فلس الأرملة”. والمعاناة هذه لا تقتصر على النازحين في مراكز الإيواء فحسب، بل تطاول أيضًا المقتدرين مادّيًّا، وهم باتوا اليوم فريسة الجشع والاستغلال مع ارتفاع قيمة الإيجارات إلى أكثر ممّا كان قائمًا في موسم سياحيّ متفوّق، فكيف مع معاناة تستنزف ما ادّخره المياسير (من ميسور) لأيّام سوداء.
قبل تفقّد أوضاع النازحين والوقوف على أحوالهم، التقت “مناطق نت” مدير وحدة إدارة الكوارث في “اتّحاد بلديّات صور” مرتضى مهنّا، والذي تحدث عن واقع النازحين فقال: “وصل إلى اتّحاد بلديّات صور منذ بداية الحرب وحتى الآن 28 ألف نازح، توزعوا في المدينة وقرى القضاء، يوجد منهم اليوم نحو 26 ألفًا، أيّ نحو 7900 عائلة، بينهم قرابة 210 عائلات تقيم في خمس مراكز إيواء، وهذه هي القدرة الاستيعابيّة القصوى. أمّا البقيّة فتوزّعوا على بيوت، سواءً بالإيجار أو لدى أقارب لهم وأصدقاء، وهناك من قدّم بيته دون مقابل”.
مع التطورات الأمنيّة المتسارعة والقلق من تصاعد وتيرة الاعتداءات، ازدادت أعداد النازحين الباحثين عن مأوى وملاذ آمن. هذا ما أكّده مهنّا قائلًا: “نشهد منذ أيّام حركة جديدة لنازحين من منطقة الطيبة ومرجعيون، حيث وصل حوالي 1500 نازح حتّى الآن، نحاول أن نؤمّن أماكن لهم”.
أربع حصص غذائيّة فقط
ثمة كثيرون لا يعلمون أنّ النازحين في مراكز الإيواء حصلوا فقط على أربع حصص غذائيّة طوال 10 أشهر متتالية. عن طبيعة المساعدات التي يتلقّاها النازحون يؤكّد مهنّا أنّه “منذ بدء النزوح وحتّى اليوم اقتصر عدد الحصص الغذائيّة التي تمّ توزيعها على النازحين وكذلك تلك المتعلّقة بالنظافة على أربع حصص فقط، بالإضافة إلى فرش ولحف ومخدات”.
يتابع مهنا: “لكم أن تتخيّلوا أنّ العائلة الواحدة حصلت خلال كلّ تلك المدّة على هذه المساعدات فقط، وليس لدى هؤلاء مال كي يشتروا ووضعهم مزرٍ جدًّا”.
وعلّل مهنّا السبب أنّه “ليس هناك موارد لتأمين المساعدات بشكل شهريّ، فالمنظّمات الدوليّة تساعد بما هو موجود لديها، وحجّتهم كما يقولون: طالما إنّ الدولة اللبنانيّة لم تعلن حالة الحرب فلن تكون لدينا موارد جديدة”. ويوضح مهنّا أنّ “هناك معلومات تفيد بأنّ الـOCHA (مكتب الأمم المتّحدة لتنسيق الشؤون الإنسانيّة) سيموّل، وفي حال حصل ذلك تُحلّ الأمور قليلًا”.
لا أحد يغطّي الفروق والولادة
عن موضوع الطبابة، وبحسب مهنّا، “هناك شبه تغطية كمعاينات وأدوية، ولكن لا يشمل ذلك الأدوية المزمنة التي لا تقوم أيّ جهة بتغطيتها. يقول وزير الصحة قدّمنا الأدوية إلى مراكز الرعاية، والأخيرة تقول إنّه تمّ تأمين كمّيّات قليلة، وفي الاستشفاء صفر مساعدة. ويقول وزير الصحّة كذلك إنّه أوعز إلى المستشفيات كي تغطّي 100 في المئة، ونذهب إلى المستشفيات فيقولون لنا ادفعوا “الفرق” فالوزير لا يدفع لنا، وهذه معاناة”.
وعن مشكلة الولادات يقول مهنّا: “تأتي الجمعيّات لتنظيم حملة توعية حول الرضاعة الطبيعيّة، ولكن قبل أن ينظّموا مثل هذه الحملة، فليوفّروا المال للولادة، لأنّ أحدًا لا يغطي الولادة، هناك فقط (مؤسّسة عامل) وأنا أنقلهم إلى مستشفى النبطيّة الحكومي، ونقوم نحن بالتغطية، هذا فضلًا عن المعاناة اليوميّة، ومنها حاجة الناس لتغيير الفرش”.
فرص عمل للنازحين
حول توفير فرص عمل للنازحين في مراكز الإيواء، يشير مهنا إلى “أنّنا أعددنا مشروعًا مع النازحين يتمّ تمويله من الــUNDP، وهو مخصص للذين يرغبون بالعمل في الأمور البيئيّة أو الزراعيّة، وتمّ توفير فرص عمل لهم، بحيث يعمل كلّ واحد منهم مدّة أربعين يومًا لقاء 12 دولارًا في اليوم الواحد. وقمنا بتوزيعهم في الأماكن المحيطة بمراكز الإيواء في مدينة صور، وهؤلاء بدأوا العمل، وبذلك يشعرون بأنّهم جزء من المجتمع ومن هذا النسيج، ويساهمون في العمل في هذه المنطقة ويستفيدون مادّيًّا، بحيث إذا أراد أحدهم شراء شيء خاص لا يشعر أنّ هناك من يعطيه المال”.
ويضيف: “في بعض القرى هناك جمعيّة أعددنا معها أيضًا مشروعًا واستقطبنا عددًا من النازحين، وهناك مشروع كذلك تمّ إطلاقه بالتعاون مع اتّحاد البلديّات وبدعم من الدكتورة عناية عزّالدين، وتمّ تمويله من الـUN Women، إذ توجد قطعة أرض هنا مساحتها نحو 10 دونمات. ومشكورة الدكتورة هنادي برّي التي أعطت الموافقة، كمديرية تعليم مهنيّ كي نستخدم الأرض، وقمنا بتحويلها إلى أرض زراعيّة”.
ويردف: “إنّنا نستقطب من خلال هذا المشروع النساء النازحات والمقيمات، ويتمّ تدريبهن حول كيفيّة الزراعة، وبالفعل بدأنَ الزرع، وسنكمل في هذا المشروع لجهة تعليمهنّ تصنيع المؤونة، أيّ تحويل الإنتاج الزراعيّ إلى “مونة” بيتيّة، بهدف الاستفادة من هذا المنتج الغذائيّ لتلبية حاجات عائلاتهن”.
“يانا” وبناتها من يارين
في مراكز الإيواء يطغى صخب الأطفال، لكن ثمة وجوهًا مرهقة، ونظرات ترنو إلى البعيد، إلى المجهول، وسط ضباب الأسئلة.
يانا حميد عكاشة من بلدة يارين (نازحة إلى صور)، تقول: “لدي خمس بنات وتعلمون متطلباتهنّ، بينما زوجي راتبه محدود، ولم نتمكّن من تسيير أمورنا، كما لم نتمكّن أيضًا من إرسالهنّ إلى المدرسة وتأمين وسيلة نقل وهواتف لهنّ”.
وتضيف: “استأجرنا منزلًا مع كلّ ما يستلزمه ذلك من اشتراك بشبكة الانترنت والكهرباء، وشراء المياه، لكن لم نعد قادرين على تأمين كلّ تلك المتطلّبات، لذا توجّهنا إلى أحد مراكز الإيواء، لتوفير ذلك، فضلًا عن أنّ هناك بعض متطلبات البنات تؤمّنها الجمعيات، وقد أرسل بناتي إلى المدرسة إذا استمرّت الحرب بعد أن خسرن سنة دراسيّة”.
وإذ تشير إلى أنّ “أحدًا لا يقدّم لنا مساعدات باستثناء مبلغ 200 دولار نتلقاه كمساعدة حزبيّة”، تقول: “في يارين كنّا نزرع التبغ، وأيضًا الخضار قرب البيت، ووالدة زوجي كانت تخبز، وهناك كثير من المتطلّبات كانت متوافرة هناك، فمعظم مستلزماتنا نجنيها من أرضنا، نبيع الزيت والزيتون والتبغ، وكنّا قد تديّنّا المال لتأمين الكهرباء عبر الطاقة الشمسيّة، لكنّ كلّ ذلك توقّف”.
“كأنّنا نتسوّل”
وتذكر عكاشة أنّها “توجهت إلى يارين مرة واحدة مع بداية الحرب، وبالتأكيد لسنا مرتاحين أينما نذهب، نعيش في مدرسة، وإذا توسّعت الحرب أقول لكم بصراحة أتمنى أن أموت أنا وأولادي، لأنّ الموت أفضل، فضلًا عن أننا نواجه الذلّ، تأمين الإعاشة بالذلّ، ونشعر وكأنّنا نتسوّل، وهذا ما لم نعتاد عليه”.
يانا عكاشة :في يارين كنّا نزرع التبغ، وأيضًا الخضار قرب البيت، ووالدة زوجي كانت تخبز، وهناك كثير من المتطلّبات كانت متوافرة هناك، فمعظم مستلزماتنا نجنيها من أرضنا، نبيع الزيت والزيتون والتبغ
وتختم: “في السابق كنت أتابع وضعي الصحّيّ، فأنا أعاني من فقر الدمّ، وفي الجيش لا توجد أدوية، والآن أهملت نفسي. بالنسبة لي الأولويّة لأولادي، أشتري لهم الملابس على سبيل المثال ولا أتطلّع إلى نفسي، وكذلك زوجي ونحاول أن نقتصد قدر الإمكان”.
“زمزم” وعائلتها من بيت ليف
أمّا زمزم نجيبة من بلدة بيت ليف فقد نزحت إلى صور، وتشير في حديث إلى “مناطق نت” إلى أنّه “لديّ خمسة أولاد ما زالوا صغارًا، إضافة إلى عائلة زوجي الأخرى المؤلّفة من خمس بنات صبايا يسكنّ معه، وبالتالي نحن عائلتان نسكن في المكان نفسه”.
وتضيف زمزم: “في قريتنا كانت لدينا مزرعة أبقار وكنّا ننتج الحليب والألبان والأجبان، وكنت أبيع الإنتاج، وكان زوجي تاجرًا يشتري الأبقار والعجول، التي نفق بعضها بسبب الحرب والقصف وتمكّنا من بيع الباقية منها بخسارة، فالبقرة التي كان ثمنها أكثر من ألفي دولار اضطررنا إلى بيعها بـ700 دولار”.
وتؤكّد نجيبة “أنّنا نزحنا مع بداية الحرب وسجّلت أولادي في المدرسة، لكنهم لم يحضروا، وبنات زوجي طردن من الجامعة لأنهنّ لم يدفعنَ أقساطهنّ”.
وتتابع: “ما يتمّ تقديمه لنا لا يكفي كي يعيش المرء حياة كريمة، وإنّ أربع حصص تموينيّة خلال 10 أشهر لا تكفي عائلة، وحتّى مبلغ الـ 200 دولار الذي نحصل عليه شهريًّا من جهة حزبيّة لا يكفي أيّ عائلة اضطرّت للنزوح، فهناك متطلّبات، منها شراء قارورة غاز وحاجيات الأولاد ولا ننسى الطبابة، فضلًا عن أن عديدًا من الأدوية غير متوافر لدى الجمعيّات، وفي المستشفيات يقولون لنا: لا يمكنكم الخروج قبل أن تدفعوا ما هو متوجّب عليكم، فمن يوفر لنا كل ذلك؟”.
نكابد الإذلال لنستمرّ
وتتحدّث نجيبة عن أنّها تعمل منذ 29 يومًا مع زوجها في الزراعة ضمن أحد المشاريع التي تستهدف النازحين، “إذ وفّر لنا اتّحاد بلديّات صور فرصتي عمل، نحصل بموجبهما على مبلغ 12 دولار للفرد، وأحيانًا نعمل ساعتين بعد الظهر ونحصل على بدل عمل يوم واحد”.
وترى أن “الوضع اليوم أسوأ بكثير ممّا كنّا عليه مع بداية النزوح، نقيم في مدرسة ونعاني من حرّ شديد، ولا يتمّ تشغيل مولّد الكهرباء نهارًا، حيث يتمّ تشغيله فقط بدءًا من السابعة مساءً، حتّى الثانية بعد منتصف الليل بسبب عدم توافر مادّة المازوت. ونهارًا هناك تقنين من شركة الكهرباء، فضلًا عن الغلاء والاستغلال في المحال التجاريّة”.
وتذكر بشيء من الحرقة كيف أنّ أولادها “خسروا سنة دراسية”، وتقول: “لا نعلم إذا كان بالإمكان تعويض ما خسروه لاحقًا. وبرأيي إنّ هذا الأمر صعب جدًّا، فاليوم يتطلّبون اهتمامًا أكبر، وإذا استمرّت الحرب سنظلّ في مراكز الإيواء، إذ لا إمكانات لدينا. والوضع أسوأ بكثير بعد عشرة أشهر من النزوح والمعاناة، في البداية كانت هناك تقديمات أكثر من قبل جمعيّات ومؤسّسات، ولكن الآن لا شيء”. وتختم نجيبة: “باختصار ما نعيشه اليوم ونكابده لنستمر هو الاذلال بعينه”.
هدى: “من بنت جبيل إلى الاستغلال”
من جهتها تقول هدى زريق وهي نازحة من مدينة بنت جبيل لـ”مناطق نت”: “نزحنا من بنت جبيل بعد قرابة شهر على الحرب، خصوصًا عندما اشتدّ القصف، وتوجّهنا إلى صور باعتبارها أقرب نقطة إلينا، كما بقيّة عائلات بنت جبيل التي اضطرّت إلى النزوح، وإلى الآن أمضينا 10 أشهر، اضطررنا فيها للتنقّل بين أربعة منازل، مع كلّ ما رافق ذلك من معاناة أثناء توضيب الأغراض والحاجيّات والبحث عن منزل جديد، فضلًا عن المشكلة الأكبر والمتمثّلة بالمطالبة برفع قيمة الإيجار، وما إلى ذلك من مشكلات غالبًا ما تواجه النازحين”.
وتشير زريق إلى أنّ “هنّاك استغلالا”، وتوضح: “للأسف هناك أناس يستغلّون هذه الظروف، لكن في المقابل هناك من يتعاطف معنا كمواطنين أرغمتنا الظروف على ترك بيوتنا، لقد عانينا كثيرًا، فأن يغادر الانسان بيته هذا ليس أمرًا سهلًا”.
وتضيف: “خلال عدوان تمّوز 2006، غادرنا مدّة 25 يومًا وعدنا، ولكن اليوم طالت غربتنا 10 أشهر، ولا نعلم إلى أين تتّجه الأمور، خصوصًا وأنّ الأوضاع تتطوّر نحو الأسوأ، وهناك من غادروا صور ونحن لا نزال هنا، وإذا ما تطوّرت الأوضاع فسنضطرّ إلى مغادرة صور، ربّما إلى أماكن أبعد”.
قهر وغصّة
وتتابع زريق: “بالنسبة إلى المعاناة فحدّث ولا حرج، فنحن لسنا في بلدتنا، وصعب جدًّا ألّا نعود ونلتقي أبناء بنت جبيل، الأهل والأصدقاء، وصعب أكثر أن نطمئنّ على بعضنا عبر الهاتف، هناك قهر كبير وغصّة في قلوب الناس، فضلًا عن القلق والتوتّر، خصوصًا عندما نسمع أنّ بلدتنا تعرّضت للقصف، ونشعر بالخوف ونتساءل: هل ثمّة من استشهد؟ لا سيّما عندما نسمع أنّ بيتًا قُصف، وما إذا كان أهله ما زالوا فيه”.
وتقول: “نحن ثلاثة أشخاص نقيم في شقّة من غرفتين وغرفة جلوس، توقّفت كلّ الأعمال، والدتي كانت تعمل وزوجي كان بصدد توسيع متجره لبيع الستائر (البرادي) وإقامة حفل افتتاح، وعلى رغم ذلك نقول الحمدلله. هنا لا إمكانيّة للعمل وننتظر الفرَج، وشقيقي مغترب ويرسل لنا إيجار البيت”.
وتختم زريق: “إنذ أبناء بنت جبيل لا يتخلّون عن أهلهم حتّى وإن لم تكن بينهم قرابة، كذلك فإنّ المغتربين يقومون بدور مهمّ لجهة دعم المقيمين، وكذلك (الحزب) يساعد، لا سيّما في إيجار البيوت بمعدّل 350 دولار في الشهر الواحد من قيمة إيجار البيت، و200 دولار مصروف لكلذ عائلة”.
نغادر مراكز الإيواء وبيوت النازحين ولكنها لا تغادرنا، صور تسكن في الوجدان بكلّ ما فيها من وجع، عائلات تقطّعت بها السبل محكومة بالانتظار والقلق، وليس من يعلم كم ستطول المعاناة، وكأنّه كتب على أبناء الجنوب أن يدفعوا أثمانًا باهظة منذ العام 1948 إلى اليوم في مواجهة عدو غاشم لا يرحم.
نزوح وحسرة، ودموع تُذرف على ما ضاع من رزق وممتلكات، وما ضاع من مستقبل، لكن يبقى لسان حال النازح “كلّ شيء يمكن تعويضه إلّا الكرامة”، وهذا ما يدفعهم إلى الصبر والتحمّل، هذا تاريخهم المجبول بالعزّة على رغم الحزن المقيم منذ عشرة أشهر، وربّما أكثر.