انتظار هدوء المدافع يضرب الموسم السياحي بخسائر جسيمة
لم يكد الموسم السياحيّ يشهد نموًا وأرقامه تتصاعد، حتّى جاءت التطورات الأمنيّة المتسارعة لتوجّه له ضربة قاسية. ومن نافل القول، إنّ السياحة والحرب لا تجتمعان تحت أيّ ظرف، خصوصًا في ظلّ التهديدات المتعاقبة بتوسعة الحرب وقصف المطار وصولًا إلى استهداف الضاحية الجنوبيّة لبيروت وما تبعها من تصعيد للمواجهة التي من شأنها أن تدفع البلاد للسير على حافّة الهاوية.
هذه التطوّرات، دفعت عديدًا من المغتربين اللبنانيّين، والسيّاح الأجانب إلى قطع زياراتهم إلى لبنان والعودة إلى بلدانهم ومناطق هجرتهم. ترافق ذلك مع دعوة كثير من الدول رعاياها إلى مغادرة البلاد، وتعليق عدد من شركات الطيران رحلاتها إلى بيروت.
نمو القطاع وخسارة الروّاد
وعلى رغم هذه الصورة، فقد تمكّن قطاع المطاعم والسهر من تسجيل نموّ بنسبة 15.3 في المئة في سنة 2024 بالمقارنة مع العام الماضي، إذ ارتفع عدد المؤسّسات المطعميّة النظاميّة من 722 العام الماضي ليصل إلى 810 خلال العام الحالي في 11 منطقة سياحيّة أساسيّة في بيروت وهي: بدارو، بليس، وسط البلد، الجمّيزة، الحمرا، مار مخايل، مونو/ السوديكو، الأشرفيّة، فردان، زيتونة باي. أمّا على صعيد لبنان، فسجل القطاع ككل نموًّا بنسبة 12 في المئة، وفقًا لبيان صادر عن رئيس نقابة أصحاب المطاعم والمقاهي والملاهي والباتيسري في لبنان طوني الرامي.
هذا النموّ في عدد المؤسّسات لم يُترجم نموًّا في الأرباح، بل على العكس، فقد تكبّد القطاع المطعميّ خسائر فادحة بالمقارنة بين شهر تموز (يوليو) 2023 وشهر تموز 2024، وذلك قبل استهداف الضاحية الجنوبيّة.
هذا النموّ في عدد المؤسّسات لم يُترجم نموًّا في الأرباح، بل على العكس، فقد تكبّد القطاع المطعميّ خسائر فادحة بالمقارنة بين شهر تموز 2023 وشهر تموز 2024، وذلك قبل استهداف الضاحية الجنوبيّة
“يتبدّى هذا التراجع من الخسائر بعدد الأشخاص ممّن ارتادوا المؤسّسات السياحيّة، والذي بلغ نحو 30 في المئة، وهي انخفضت وفقًا للمناطق على الشكل الآتي: 31 في المئة في البترون، وفي برمانا 30 في المئة، في ضبيّة والنقّاش 40 في المئة، وسط البلد 23 في المئة، الجميّزة ومار مخايل 34 في المئة، طرابلس 54 في المئة، صور 24 في المئة. وفي المقابل، وحدها إهدن تمكنت من تسجيل ارتفاع بنسبة 3 في المئة” وفقًا للرامي الذي أكّد أنّ الأرقام بدأت تتدحرج أكثر فأكثر، منذ دخول شهر آب (أغسطس) الجاري، متوقّعًا مزيدًا من الخسائر مع حال الاستنزاف فتصل إلى نحو 75 في المئة.
تتلاقى أرقام الرامي مع ما أشار إليه في وقت سابق الأمين العام لاتّحاد النقابات السياحيّة، جان بيروتي، في حديث إذاعيّ، بأنّ الموسم السياحيّ انتهى مع تسجيل خسائر تفوق 3 مليارات دولار، وانخفاض نسبة إشغال الفنادق إلى ما دون 20 في المئة.
احتضار قطاع الفنادق
إذًا، يبدو أنّ القطاع السياحيّ يواجه كثيرًا من التحدّيات والصعوبات التي تستحيل مواجهتها، “فالحرب عدوّ أساس للسياحة، ولا يمكن لبلد فيه حرب أن يتدفّق السائحون إليه”، بحسب رئيس اتّحاد النقابات السياحيّة ونقيب أصحاب الفنادق بيار الأشقر، الذي لفت إلى “أنّنا جرّبنا أن نتحدّى هذا الواقع وأن نخلق أجواء إيجابيّة على رغم معرفتنا ضمنًا بوجود مشكلة”.
ويؤكّد الأشقر، في حديثه إلى “مناطق نت”، أنّ “تهديدات تصعيد الحرب لم تقتصر على التطور الأخير الذي ترافق مع استهداف ضاحية بيروت الجنوبيّة، وإنّما مع تهديدات بضرب المطار ومرافق أخرى في عدّة مراحل”. ويجزم أنّ “بعد هذه التهديدات كان المواطنون يقطعون زياراتهم إلى لبنان، فالمغترب الذي تمتدّ زيارته إلى البلاد نحو شهرين في الحالات العاديّة، اختزل هذه الزيارة لتقتصر على 15 يومًا”، مضيفًا “كذلك هناك كثير من المغتربين قرّروا عدم زيارة البلاد أو أجّلوا زياراتهم”.
ويوضح الأشقر أنّ “هذه العوامل أثّرت في مداخيلنا، ففي قطاع المطاعم كان هناك تراجع متفاوت في المناطق، فسجُّل تراجع روّاد المطاعم بنسبة 30 في المئة، والمداخيل بنسبة 40 في المئة مقارنة مع العام الماضي، وكذلك تراجع المداخيل في الفنادق إلى 60 في المئة مقارنة مع العام المنصرم”. وينبّه إلى أنّ “هذه الأرقام تعود إلى فترة ما قبل التصعيد الأخير، لذا يمكن القول أن نسبة التراجع فاقت ذلك بكثير”.
أزمة غلاء الكلف التشغيليّة
ما يكرّس أزمة هذا القطاع ويزيد من حدّتها هي “الكلف التشغيليّة المرتفعة المتأتّية من غياب كهرباء الدولة وانقطاع المياه المتكرّر وغياب النقل العام المشترك الذي يمكن أن يوفر للعامل وسيلة نقل منخفضة الكلفة”، وفقًا لنائب رئيس نقابة أصحاب المطاعم خالد نزهة.
ويلفت نزهة في حديث إلى “مناطق نت” إلى أنّه “لغاية الآن تمكّنا من الحفاظ على العمّال، فهذا القطاع استطاع إعادة قسم كبير من اللبنانيّين الذين هاجروا”. ويتحدّث عن أنّه “قبل الأزمة الاقتصاديّة وانفجار المرفأ وجائحة كورونا كان هذا القطاع يُشغّل 160 ألف لبنانيّ بشكل دائم و45 ألفًا بشكل موسميّ، معظمهم من الجامعيّين، وكان القطاع يضمّ 8500 مؤسّسة دائمة و4500 مؤسّسة موسميّة”، مضيفًا: “نتيجة الأزمات التي توالت على البلاد تراجعت هذه الأرقام كثيرًا، لتعود عام 2023 وتشهد نموًّا”.
أولويّات أخرى للمواطنين
يؤّكد نزهة أنّ “أولويّات المواطنين وهمومهم باتت منصبّة على ادّخار الأموال خوفًا من المستقبل، وتأمين الطبابة وأقساط الجامعات والمدارس، وهذا ما يجعل قطاع السياحة أمرًا ثانويًّا بالنسبة إليهم”. ويلفت نزهة إلى أنّ “الاعتماد الأساس دائمًا ما يكون على اللبنانيّين المغتربين وكذلك على السائحين العراقيّين والمصريّين والأردنيّين وبقيّة البلدان العربّية، لا سيّما الخليجيّة”.
ويوضح في حال حدوث استقرار أمنيّ في البلاد “فإن اللبنانيّين المغتربين في بلاد مثل أستراليا وكندا والولايات المتّحدة، الذين لم يأتوا هذا العام بشكل كبير، من المرجّح أن يقرّروا زيارة البلاد”، مؤكّدًا أنّ “لبنان فيه مقوّمات كبيرة، وقطاعنا يُشكّل علامة فارقة، ولديه عامل جذب للسائحين”.
إقفالان جزئيّ وموسميّ
وفي السياق عينه، يسجّل الأشقر “خسائر كبيرة في هذا القطاع، ومن المتوقّع أن نشهد إقفال لقسم كبير من الفنادق خارج بيروت طوال فصل الشتاء”. ويضيف: “في بيروت هناك إقفال جزئيّ، أيّ أن يقوم فندق بتسكير عدد من غرفه ومطاعمه ممّا يخفّف الكلف التشغيليّة، ومن المتوقّع ازدياد هذا النوع من الإقفال”.
في بداية الصيف، كان ثمّة أمل كبير أن يُسجّل القطاع السياحيّ ارتفاعًا في الإيرادات، في حال توقّفت الحرب. وإحدى أبرز المؤشّرات هي الحفلات التي شهدتها بيروت لأهمّ الفنّانين العرب، والمهرجانات والاحتفالات التي شهدتها عديد من المناطق اللبنانيّة. وهذا ما دفع الأشقر إلى التعويل، في بداية الموسم، على “المغتربين الجنوبيّين، لا سيّما القادمين من أفريقيا، الذين لم يتمكّنوا من السكن في الجنوب، وبالتالي انتقل معظمهم إلى بيروت، إلّا أنّنا لم نتمكّن من الاستفادة منهم لأنّ معظمهم قام بتقصير زيارته إلى لبنان”.
وأمام هذا الواقع التقى الأشقر برفقة وفد من النقابة، رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، الإثنين الماضي، لوضعه في صورة الوضع السياحيّ وتفاصيله ومشكلاته. ويُقرّ الأشقر بأنّ “قدرة مؤسّسات الدولة على مساعدة هذا القطاع صعبة للغاية، فهناك كثير من القضايا تحتاج إلى قوانين في مجلس النوّاب الذي يصعب انعقاده نظرًا إلى الظروف السياسيّة”. ويضيف: “لذا قمنا بالتركيز على القضايا التي يمكن أن تُطبّق من خلال مرسوم في مجلس الوزراء أو بقرار من الوزير”.
في بداية الصيف، كان ثمّة أمل كبير أن يُسجّل القطاع السياحيّ ارتفاعًا في الإيرادات، في حال توقّفت الحرب. وإحدى أبرز المؤشّرات هي الحفلات التي شهدتها بيروت لأهمّ الفنّانين العرب، والمهرجانات
وعود عرقوبيّة
وعن مطالب القطاع، يلفت الأشقر إلى أنّها متعدّدة، ويأتي في مقدمها “تأجيل كلّ الضّرائب المفروضة علينا وتخفيض بعضها، وتأجيل كلّ المستحقّات، وعدم تغريمنا”، موضحًا أنّ “الوعود كثيرة ولكن تبقى العبرة في التنفيذ”.
هذه المطالب يؤكّدها نزهة بدوره ويرى أنّ “النقابة تطالب بكثير من الأمور، مثل الإعفاءات الضريبيّة وغيرها، إلّا أنّه لم يتحقّق أيّ شيء لغاية اليوم”. ويجزم أنّه “في حال توقّفت الحرب غدًا، فلا يمكن تعويض الخسائر لأنّها كبيرة وبحاجة إلى وقت، وهذا يتوقّف على الحضور من الخارج”.
ويخلص نزهة إلى أنّ “هذا الموسم انتهى، والمغتربون الذين زاروا لبنان قطعوا رحلاتهم وبتنا على مشارف افتتاح المدارس والجامعات، لذا نعوّل على حضور الاغتراب اللبناني في عيديّ الميلاد ورأس السنة في حال توقّفت الحرب”. ويؤكّد أنّ الهدف الأساس هو جعل “السياحة مستدامة وليست موسميّة”.
السياحة عمود فقري
لا شكّ في أن الحرب، كما تُشير الخبيرة الاقتصاديّة ليال منصور، “تُأثّر بشكل مباشر في القطاع السياحيّ الذي ينعكس بدوره على الاقتصاد”. وتلفت إلى أنّ “لبنان قائم على موردين أساسيّين، الأوّل هو أموال المغتربين التي تشكل أكثر من 25 في المئة من الناتج القوميّ، والثاني مورد السياحة والسفر الذي يشكّل نسبة كبيرة من الناتج القومي”.
تلفت منصور، في حديث لـ”مناطق نت”، إلى أنّ “خطر تسكير المطار أو اتّساع الحرب لتصل إلى بيروت يأثّر في هذه الأرقام، مع الإشارة إلى أنّ هذا العام شهد انخفاض ثمانية في المئة من عدد الطائرات التي وصلت إلى مطار بيروت”.
ووصلت المساهمة المباشرة لقطاع السياحة والسفر في الاقتصاد اللبنانيّ إلى 6.6 في المئة من الناتج المحلّيّ الإجماليّ في العام 2023، مقارنة بمساهمة أربعة في المئة من الناتج المحلّيّ الإجماليّ في العام 2022، ويُتوقّع أن يساهم بنسبة 5.5 في المئة من الناتج المحلّيّ الإجماليّ في العام 2024 وبنسبة 5.2 في المئة في العام 2034، بحسب تقديرات المجلس العالميّ للسفر والسياحة.
ووفقًا للمجلس، فإنّ القطاع ساهم بإيرادات بلغت قيمتها 149.11 تريليون ليرة لبنانية في العام 2023 مقابل 22.3 تريليون ليرة في العام 2022. وكان القطاع قدد ساهم في إيرادات بقيمة 604.13 تريليون ليرة في العام 2019 أو ما نسبته 18.9 في المئة من الناتج المحلّيّ الإجماليّ.
ويتوقّع المجلس أن يساهم القطاع في إيرادات بقيمة 127.32 تريليون ليرة في العام 2024 وبقيمة 155.81 تريليون ليرة في العام 2034، وأن تسجّل الإيرادات معدّل نموّ سنويّ مركّبًا بنسبة اثنين في المئة خلال الفترة الممتدّة بين عامي 2024 و2034.
أسباب تراجع أخرى
إلى جانب الحرب، ثمّة أسباب أخرى تلعب دورًا في عدم انتعاش القطاع السياحيّ، ويأتي في مقدمها “كلفة السفر، لناحية غلاء أسعار تذاكر شركة طيران الشرق الأوسط (الميدل إيست)، وغلاء كلفة السياحة، التي تدفع السائحين إلى اختيار وجهات أرخص”، وفقًا لـ”منصور” التي تؤكّد أنّ “هذه الأسباب لا تسبّب انخفاض عدد المغتربين اللبنانيّين وإنما تمنع وجود انتعاش أكثر في هذا القطاع لجهة حضور السائحين الأجانب”.
وتشرح منصور أنّ “لبنان يعتمد منذ سنوات طويلة على المغتربين من أبنائه، وهناك عدد كبير منهم يأتي إلى البلاد بصرف النظر عن الوضع الأمنيّ أو الاقتصاديّ أو الأزمات التي يمرّ بها”. وتضيف: “في المقابل، فإنّ السائحين الأجانب يحتاجون إلى عوامل جذب من أجل زيارة لبنان من خلال تقديم خدمات سياحيّة وبنية تحتيّة جيّدة واستقرار أمني”.
“هذا ما يُفسّر خسارة لبنان للسائحين الخليجيّين”، وفقًا لمنصور التي تؤكّد أنّه “في كلّ دول العالم، ينفق المغترب أقلّ من السائح”. وتختم: “في حال توقّفت الحرب، من الصعب تعويض الخسائر بشكل فوريّ في القطاع السياحيّ، إذ إنّ هناك حفلات اُلغيت، إضافة إلى أنّ كثيرًا من المغتربين والسائحين أجّلوا أو الغوا زياراتهم إلى لبنان وتحوّلوا نحو وجهات أخرى. أمّا السائح الأجنبيّ فيحتاج إلى رؤية اتّفاقات دوليّة طويلة الأمد تعطيه اطمئنانًا للمجيء إلى لبنان”.