بعلبكيون ما زالوا على “اللبس العربي”…”فَرْنَجَةِ” الزيّ لن تمرّ
صار من شبه المؤكّد أن ذكر أسماء ومكوّنات اللباس العربي من “عقال”، “كوفية” أو “كفّية”، “قمباز”، “عباءة”، سيكون بعد فترة ليست بالبعيدة من باب استعادة التاريخ والتراث لمنطقة بعلبك الهرمل. والاستعادة تلك ستكون موصولة بأفول ذلك الزي الذي حجز له مكانة مرموقة في تشكّل هوية بعلبك البصرية والمعنوية على مدار مئات السنين.
لم يكن الزي العربي الذي لازم البعلبكيين كل هذه السنين مبتوراً أو مجرّد لباس، بل كان شأنه شأن كل أزياء الشعوب، جزءًا أساسيًا من ثقافة وهوية المنطقة وأبنائها، والتي حافظت عليه كل تلك الفترة، لينتهي به المطاف محصوراً بفئة قليلة تتناقص يوماً بعد يوم، وربما ستكون الأخيرة التي ترتديه.
لقد التصق “أبو عقال وكفية بالسُمرة العربية” التصاقًا شديدًا، واكتسب في بعلبك رمزية ودلالة شكّلت قيمة مضافة لمن يرتديه. في الأفراح والأتراح وفي العادات والتقاليد، لكن انحسار مرتدي الزي العربي يطرح أسئلة عن التحولات الكبيرة التي تشهدها مناطق الأطراف، حيث قلّصت التكنولوجيا والتطور المسافات بينها وبين القلب أو العاصمة، فلم يعد هناك من فاصل وخاصية تميز بين تلك الأطراف وغيرها سوى ما يذوب نتيجة ذلك وأهمه بعض من هويات تلك المناطق ومنها الزي التقليدي الذي لم يعد له أثر في معظم مناطق الأطراف اللبنانية.
يعود تاريخ اللباس العربي إلى القبائل والعشائر العربية التي كانت ترتديه منذ القدم، لا سيما في مناطق شبه الجزيرة العربية والعراق وبلاد الشام. تختلف تسميات اللباس العربي بين منطقة وأخرى، ففي حين يُطلق عليه في الخليج العربي “الغترة” و”الشماغ“ و”الجلابية”. تتعدّد تسمياته ومكوناته في لبنان وهي “العقال”، ”الكفية”، “شاشية”، “حطاطة”، “سلك”، “قمباز”، “شنتان”، “مقصور أبيض” و”عباءة”، بالإضافة إلى الطاقية البيضاء المشغولة يدوياً بخيطان الحرير والتي يرتدونها تحت الكفّية.
تتعدّد تسمياته ومكوناته في لبنان وهي “العقال”، ”الكفية”، “شاشية”، “حطاطة”، “سلك”، “قمباز”، “شنتان”، “مقصور أبيض” و”عباءة”
يشكّل اللباس والزي التراثي في أي منطقة، علامة أساسية لتقفي أثر الجماعة وتحدّرها، وهو ما ينطبق على البعلبكيين الذين شكل اللباس دلالات واضحة على جذورهم وأصولهم، فهم بجزء كبير منهم امتداد للقبائل العربية التي وصلت بعلبك ومنطقتها واستقرت فيها. وهو ما يعبر عنه الزي الذي تمسّكوا به أكثر من غيرهم حيث انتهى في معظم المناطق اللبنانية، لكنه لا يزال يقاوم في بعلبك ومنطقتها.
لباس لا يمكن التخلي عنه
وحده جيل الثلاثينيات لا يزال محافظًا على اللباس العربي كما يقول رشيد علاء الدين أبو رفعت (مواليد ١٩٣٢) لـ “مناطق نت”، مشيرًا في الوقت عينه إلى أنّ اللباس العربي هو هوية لا يمكن التخلي عنها، ولا يتصوّر نفسه بأي لباس آخر.
يتناقص يوماً بعد يوم جيل الثلاثينيات، ومعهم تتناقص أعداد ممن يرتدون اللباس العربي، وهذا ما نراه واضحًا في القرى والبلدات البقاعية التي كان جزءًا كبيرًا من رجالاتها يرتدي اللباس العربي، أما الآن فقد قارب ذلك على التلاشي، وفي بعض القرى تلاشى كليًا بعد رحيل من كان يرتديه.
في بعض البلدات لا يزال بعض كبارها يحافظون على لباسهم العربي، لكنهم لا يتجاوزون أصابع اليدين، فعلى سبيل المثال لم يبقَ في قرية الدورة أحد، وفي زبود لا يتجاوزون العشرة، وكذلك الأمر في حلبتا والفاكهة ورأس بعلبك، ولا يتجاوزون الخمسة في البزالية، أما في مدينة بعلبك فأصبح هذا اللباس نادرًا جدًا ويقتصر على فرق الدبكة البعلبكية يرتدونه أثناء تقديم عروضاتهم الفنية.
يروي الحاج جهاد علاء الدين، أبو أمير (٨٠ عامًا) لـ “مناطق نت” حكايته مع لباسه العربي الذي يلتصق به منذ أن كان في عمر الخامسة عشر. فيقول “الزي العربي هو اللباس التقليدي الذي كانت ترتديه العامة منذ القدم”. ويضيف “أنا أحببت هذا اللباس ورفضت التخلي عنه بالرغم من أن الكثير من الناس غيّروا لباسهم وتفرنجوا. أرتدي البنطال فقط عندما أعمل في الأرض وفي البساتين والحقول”.
العقال عادات وتقاليد
لم يرتبط لباس في منطقة كما ارتبط اللباس العربي بعادات وتقاليد معينة في بعلبك، ومنها كما يروي الحاج أبو أمير أنه قديمًا عندما كانت تقع جريمة قتل بين عائلتين، فإن عائلة القتيل عندما تريد الأخذ بالثأر، كان يترتب على الذي تقع عليه مهمة الأخذ بالثأر أن يخلع عقاله عن رأسه ويضعه جانبًا ويتلثم بالكوفية كالحجاب، إذ لا يرتديه إلا بعد أن يأخذ بثأره وكأنه يقول أنّ لا رجولة ولا كرامة، ولا أستحق أن أرتدي هذا العقال ما لم اثأر لقتيلي.
يضيف أبو أمير أن اللباس العربي يتضمن العباءة كجزء مكمّل للّباس، منها ما صُمِّم للشتاء ومنها ما هو للصيف. وترمز العباءة إلى الوجاهة والقيمة بين الناس، فيخرج من يلبسها إلى الناس متباهيًا متفاخرًا.
ويؤكّد أبو أمير على أهميّة الخنجر والسيف إذ لا يكتمل اللّباس التّقليدي بدونهما، كذلك السّكين الجانبية التي لا تفارق الخصر. يحرص دائمًا أن تكون ظاهرة للعلن، وكذلك بالنسبة للبندقية التي هي جزء أساسي في هذا اللباس.
الزيّ العربي في ظلّ الانتداب الفرنسي
لجأ الانتداب الفرنسي من ضمن سياساته في بلاد الشام، وتحديدًا في لبنان والجوار العربي، إلى محاولة “فَرْنَسة” الهوية العربية من خلال إدخال اللغة الفرنسية وأيضًا الزي الأجنبي المتمثل بالبذّة الرسمية إلى الدولة. وبما أن الناس كانت شديدة التأثر بموجات الحداثة والتفرنج، فقد تخلّى جزء كبير من اللبنانيين في تلك الفترة عن لباسهم العربي الأصيل وارتدوا البذة الرسمية. وهذا ما يؤكّد عليه أبو أمير فيقول إن فرنسا منعت الزي العربي، والضباط الفرنسيين كانوا يفرضون على الناس خلع زيّهم ومن لا يفعل ذلك كان عقابه السّجن حسب أبو أمير.
ويلفت أبو رفعت أن “البكاوات” الذين تمّ تعيينهم من قبَل الفرنسيّين تخلوا عن لباسهم العربي وارتدوا البذّة الرسميّة وبعضهم أبقى معها على الكفية والعقال.
خياطون قدامى..
لم يكن اللباس العربي قديمًا في لبنان، بالتحديد في منطقة البقاع متوفرًا في المحلات والأسواق التجارية، فكان الذي يرتدي هذا اللباس يقصد خياطين متخصّصين بتطريز وصناعة اللّباس العربي، وكانوا معروفين في المنطقة.
بالإضافة إلى مدينة بعلبك التي كان يقصدها كل من يرتدي اللباس العربي لأجل خياطة لباسه، تُعدّ أيضًا بلدة الفاكهة مقصدًا لهؤلاء من أنحاء البقاع كافة، حيث كانت تستقطب الزبائن لكثرة الخياطين القدامى فيها، بعضهم توفي كالخياطين عدنان سكرية (أبو مروان)، وجورج شلفون، ومنهم من لا يزال على قيد الحياة ولكنه توقف عن المهنة.
يقول محمود المسلماني أبو إسماعيل الذي يعمل في الخياطة منذ الستينيات وبلغ من العمر ٧٨ عامًا، أن تكلفة اللباس العربي متعلقة بنوع القماش (ترغال، جوخ، كتان، ببوبلن) وبسعره في السوق والتطريز الذي يلحق به، حيث أن التكلفة مقسمة بين سعر القماش وأجرة الخياطة، معتبرًا أن التكلفة أصبحت اليوم عالية. وبعدما كان لديه زبائن من قرى وبلدات الفاكهة ورأس بعلبك والبزالية والنبي عثمان وزبود واللبوة، اليوم لا زبائن تطلب هذا اللباس، ويعود ذلك إلى قلة الذين يرتدونه من جهة، وإلى أنه متوفّرًا ويُباع في سوريا من جهة أخرى.
اليوم لا زبائن تطلب هذا اللباس، ويعود ذلك إلى قلة الذين يرتدونه من جهة، وإلى أنه متوفّرًا ويُباع في سوريا من جهة أخرى
يقول أبو أمير إنه قام بخياطة آخر “بدلة” له منذ عشرين سنة في بلدة الفاكهة ويذكر أن الخياط كان من آل المسلماني، وأنّه أحيانًا كان يشتري القماش ويأخذه للخياط إمّا في الفاكهة أو في بعلبك.
الجدير ذكره أن الكثير من الزوجات ذوات الخبرة في الخياطة كن يخيّطن ويحيّكن هذا اللباس لأزواجهنّ، حيث يشترين القماش إمّا من سوريا أو من باعة القماش المتجولين وبذلك يقتصدنَ. ولاحقاً، بدأ هذا اللباس يتوفر في المحلات التجارية في لبنان والبقاع وأشهرهم “النحلاوي” في مدينة بعلبك. بالإضافة إلى المحلات التي تُعنى ببيع اللباس الفلكلوري.
قد ينتهي هذا اللباس مع انتهاء جيله، وتتلاشى معه ثقافة لطالما حاول الأجداد الحفاظ عليها ونقلها إلى الأجيال الجديدة. إذ أنّ موجات الحداثة والغزو الثقافي كانت أكثر تأثيرًا بأجيالنا ولا تزال، وأصبحت الموضة اليوم تتبدل سنويًا ويواكبها الجيل الجديد بكل رحابة صدر.