بعلبك: الأمن الرحيم..انتهى
حسين حمية
أذكر في أوائل السبعينيات من القرن الماضي، حدث أن كنت جالسا مع والدي في قهوة طه قرب سراي بعلبك، وإذ نشاهد شخصا يركض مسرعا، ويجري وراءه رجل أمن سمين يتحرّك ببطء شديد، ويشهر بيد مسدسا وبالأخرى يتمسك بمحفظة من أن لا تقع منه ويصرخ “قف، قف”، كانت تلك المطاردة شديدة الكاريكاتورية، إذ لم تستغرق المطاردة بضع عشرات من الأمتار كان المطلوب قد توارى في حي قرب السوق، و ليعود رجل الأمن أدراجه من دون أن يطلق ولو طلقة واحدة ترهيبا.
كان الأمن وقتذاك في منطقة بعلبك الهرمل أمنا رحيما وقد ساد لفترة طويلة في منطقة بعلبك، قد كان له أسبابه وشروطه، حينها لم تكن مظاهر الخروج على القانون ناجمة عن مشاكل أمنية صرفة أو لضعف في هيبة الدولة، إنما كان هناك نوع من التوظيف السياسي للأمن بحد ذاته، فالاسترخاء بالأداء الأمني كان بمثابة “تعويض” عن الحرمان من الإنماء، اضف أن الجريمة في تلك المنطقة بشكل عام كانت بدوافع موضوعية وأحيانا حتمية لا مفر منها وتجيزها القوانين الخاصة غير المكتوبة للبعلبكيين (العادات والتقاليد) وهذه لها أسبابها في تقدمها على القوانين الوطنية، وزبدة القول أن الجريمة لم تكن تُستخدم أداة لتحصيل العيش أو نمط حياة، إنما ناجمة عن اختلالات في ثنائية الشرائع التي تنظم علاقات أهالي المنطقة.
إلى هذا، لم يكن الأمن الرحيم مؤذيا للأمن البعلبكي، كانت معدلات الجريمة شبه ثابتة، حتى في ظل انهيار الدولة بشكل كامل، لم ينفلت حبل الأمن على غاربه، كون الذهنية الأمنية الرادعة لا تقوم في المنطقة على البعد القمعي للأجهزة الأمنية للدولة فقط، إنما هناك بعد آخر لا يقل ردعية عن المؤسسات الأمنية وهو التوازنات العائلية والعشائرية، وهذه كانت تشكل ركيزة أساسية في معادلة الأمن بالمنطقة وما زالت.
بعد قيام دولة الطائف دخلت المنطقة في عصور أمنية مختلفة نسبيا عن السابق، يمكن إيجازها بالعبارة الشهيرة التي كانت تتردد إبان الوصاية السورية على الدولة اللبنانية، وهي “الأمن الممسوك”، وكان إمساكه على حساب جزء من حريات المواطن وحقوقه، لكن حتى في تلك الفترة، كانت تُحاك ألاعيب أمنية تحت ستار المطلوبين والخارجين على القانون لصفقات ومصالح تم إلصاقها زورا بالمنطقة، إن بسرقة السيارات أو تجارة المخدرات أو تزييف العملات وغيرها.
في هذه الفترة وما بعدها تطورت الجريمة في المنطقة ودخلت إليها تخصصات جديدة (الخطف مقابل فدية، تصنيع المخدرات غير الحشيشة، تجارة الأسلحة، سرقة السيارات)، وهذه تدر ارباحا هائلة استقطبت العديد من العاطلين عن العمل، وأعادت هيكلة العمل الإجرامي تنظيميا (ظهور العصابات) واستخدام الإعلام للتغطية على بشاعاته والعلاقات العامة لتوفير الحواضن العائلية له، وكان من نتاج هذه التبدلات تفشي اقتصاد الجريمة وثقافة اللاأمن، لقد فقدت الجريمة هويتها البعلبكية المعروفة، وهي هوية كما سبق القول كانت ذات بعد موضوعي ومرتبطة بالعادات، ودخلت إليها ابعاد مافيوزية، فالمنطقة لم تكن سوى مسرح لها، أما خيوطها فتمتد إلى خارجها وحتى خارج الوطن، فلا يُعقل أن يحدث هذا التوسع الإجرامي بعيدا عن أعين الأمن وقوى الأمر الواقع.
منذ مدة، والحديث لم يتوقف عن أمن بعلبك، ووسائل الإعلام تتسابق على إعداد التحقيقات والحوارات عن هذه القضية، وتشي هذه الفورة بأنها مقدمة لإجراءات أمنية قاسية بدأ الإعداد لها على أعلى المستويات، وسوف تلقى تأييدا شعبيا في حال نجاحها وتحاشت بعض المطبات، لكن الخشية، أن تقتصر هذه الإجراءات على تسجيل نقاط تؤدي إلى مكافحة مظاهر الفوضى الأمنية بمفاعيل قصيرة الأجل أو الاكتفاء باسماء ليست سوى واجهة للجريمة تخدر المنطقة أمنيا لكن لا تلبث أن تنبعث من جديد عند أول أزمة تضرب البلد.
بأي حال، لم يعد الأمن الرحيم مناسبا لمنطقة بعلبك الهرمل، والمفترض التخلي عن معادلة الفوضى مقابل الحرمان والإهمال، فهذه المعادلة أفادت قلة استغلت تراخي الأمن لتبني الثروات لها من وراء الجريمة والخروج على القانون، فالحرمان لا يعوّض إلا بالإنماء وبمفعول رجعي، وهذا لن يتحقق إلا بالأمن الآمن.