بعلبك في الـ “ميديا” مشاغبة خارجة على القانون.. هل ينصفها المسرح؟
يخبّئ تاريخ بعلبك- الهرمل كلّ ما هو متناقضٌ مع واقعها اليوم، وهذا تحديدًا ما فرض على أبناء المنطقة مسؤوليّة أكبر في كيفيّة التّعاطي مع هذا الواقع أو تغييره. ففي حين ترحل أجيال تحمل التاريخ في جلابيبها، تأتي أجيالٌ تجهل هذا التاريخ، فتتفتّح أعينها على بعلبك كما هي اليوم، في واقعها الحاضر، مدينةٌ شبه نائمة أو ميّتة.
وقد يصلح واقعها ليكون محتوىً كوميديًّا أو محطّة لإلقاء النّكات، وهذا ما يفعله شباب اليوم. ولكن هل كان يقتصر واقع بعلبك- الهرمل منذ القِدَم على الخارجين عن القانون، أم أنّها خرّجت أعلامًا في المجال الفنّي والثّقافي والسياسي؟
قديمًا وفي حين كان صلاح تيزاني “أبو سليم” يمثّل البيئة الطرابلسيّة من خلال اللهجة واللباس وسواها من الأدوات، وحينما كان “دويك” الفنان عبدالله الحمصي، يمثّل ابن الجبل “الريفيّ”، كانت هناك فِرَق مسرحيّة وأعلام في مجالات عديدة تمثّل بعلبك- الهرمل وبيئتها وأهلها. لكنّ الفارق الوحيد أنّ معظمهم كانوا مجهولي الهويّة، إذ لم يكن ما يربطهم بفنّهم وما يقدّمونه للجمهور يتعلّق مباشرةً بالبيئة البعلبكيّة وعاداتها، مثل أكرم الأحمر الّذي لمع نجمه كممثّل إلى جانب هند أبي اللمع وعبد المجيد مجذوب، وكذلك سمير شمص ابن الهرمل الذي كان أوّل ممثل لبناني في مصر.
بعلبك الفن.. قديماً
في المقابل كانت هناك فرقة كركلّا التي مثّلت بعلبك ومن خلالها لبنان. ويلمع في ذاكرتنا اسم “استوديو بعلبك” الّذي اتخذ من المدينة كنية له، وكان يُعتبر من أهم الأستديوهات الفنّيّة في الشرق الأوسط على مدى سنوات طوال. إضافةً إلى عروض الأزياء التي كانت تجوب العالم وتَمُرّ على هياكل بعلبك، ومهرجانات بعلبك الدوليّة التي كانت وجه لبنان في الخارج.
على الرّغم من ذلك كلّه، كان تمثيل بعلبك- الهرمل خجولًا ومستترًا في غالب الأحيان، وبالتالي بقيت صورة البيئة البعلبكيّة ضبابيّة حتّى اليوم. في المقابل لم تكن ثلاثيّة التلفاز والسينما والمسرح سيدة زمانها بعد، ولم تكن ثورة المعلومات والاتصالات قد بدأت، وهذا ما كان له المساهمة الأكبر في ضبابيّة صورة بعلبك في أذهان أبناء المناطق الأُخرى، أو قد يكون السبب هو التعتيم الإعلامّي عليها من الحكومات المتعاقبة منذ ذاك الحين.
المؤثّرون ومواقع التواصل
يقول “أحدهم” بما معناه، “إنّ السينما قديماً كانت تمثّل الحياة، أمّا اليوم فالحياة تمثل وتقلّد السينما. وقد صار لكلّ منّا القدرة على تمثيل مؤثّرات السينما نفسها، عبر الهاتف ومواقع التّواصل وانتشار ظاهرة الـ “ريلز”.
ومن الملاحظ اليوم، وبعد أن حلّت وسائل التّواصل الإجتماعي ضيفًا أساسيّاً في السّاحة العامّة، راح الشباب، بشكل خاص، يمثّلون ويقلّدون المؤثّرين على وسائل التواصل الإجتماعيّ، وكذلك بالنسبة للمشاهير والمؤثّرين الّذين يجاهرون باقتران أسمائهم ببعلبك- الهرمل والذين ينقلون صورة المنطقة للغرباء عنها، ولو بكثير من المبالغة أحياناً.
بعد أن حلّت وسائل التّواصل الإجتماعي ضيفًا أساسيّاً، راح الشباب يمثّلون ويقلّدون المؤثّرين على وسائل التواصل الإجتماعيّ، وكذلك بالنسبة للمشاهير والمؤثّرين الّذين يجاهرون باقتران أسمائهم ببعلبك- الهرمل.
الـ “فايسبوك” والـ “إنستغرام” والـ “تيكتوك” كلّها وسائل تواصل حصدت انتشارًا واسعًا من خلال أيّ شخص يقدّم محتوىً معيّناً، وخصوصًا الكوميدي أو الهزلي منه، مع استغلال اللهجة البعلبكيّة المحبّبة، والّتي عادةً ما تلفت المشاهدين والمتابعين على وسائل التواصل، خصوصاً أولئك الّذين لم يعرفوا عن بعلبك- الهرمل أكثر ممّا شاهدوه أو سمعوه على لسان وصورة بعض أبناء المنطقة من خلال هذه التطبيقات.
على عكس أيام الأسود والأبيض، حيث كان التعتيم على صورة المنطقة لعوامل مقصودة أو غير مقصودة، اليوم ومع جيل الشبكة العنكبوتيّة، الصورة منتشرة ولها متابعوها، حقيقيّة كانت أم مبالغ بها، أم مزيّفة.
ولكن برغم ذلك، يبقى للتلفاز مكانة خاصّة حتّى في أيّامنا هذه، فقد لمع من أبناء بعلبك ونجومها اسمان شاركا في مسلسل الهيبة هما عبدو شاهين وختام اللّحام. يمكن اعتبارهما أنّهما لم يسيئا في نقل صورة بعلبك- الهرمل، فالمسلسل هو نقل لواقع الخارجين على القانون، وهما يؤدّيان أدوارهما ضمن السرد الدراميّ الذي قد يكون محاولة لـ “وضع اليد على الجرح”، ومن أجل الإضاءة على الواقع المأزوم.
عباس جعفر
“عباس جعفر” اسمٌ لمع نجمه لأسباب عديدة، منها انتشار وسائل التواصل الإجتماعيّ، ومنها المساحة التي أفردتها له شاشات التلفزة، وهدفها إظهار صورة نمطيّة عن بعلبك- الهرمل.
كانت بداية عباس جعفر من خلال برامج كوميديّة تلفزيونيّة، إذ لفت اهتمام الجميع بخفّة دمه، ولهجته التي لم يعد حتّى أهل منطقته “الشراونة” ينطقونها بالطريقة نفسها، وهو دائم الظهور عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ من خلال محتوى “ڤيديوهات” فكاهيّة تتناول يوميّات المواطن اللبنانيّ، إلى أن حصل تحوُّل في مسيرته الفنّيّة من خلال مسرحية “هيكالو” لمخرجها يحيى جابر، حيث تّمت الإضاءة على حيّ الشراونة البعلبكي “المنمّط” خارجًا على القانون.
يطرح جابر، عبر أداء وتمثيل جعفر، كيفيّة تعامل الأحزاب الحاكمة مع أبناء العشائر، من خلال اتّخاذ حيّ الشراونة كنموذج مصغّر عن الواقع الّذي يطغى على محافظة بأكملها. حاول جابر طوال المسرحيّة أن يحكي عن “الحشيش” (حشيشة الكيف) الّذي صار استهلاكه يتفوّق على الرغبة ببيعه؛ وعن الجيش الذي يبلّغ المطلوبين للعدالة عند المداهمة “الزفت إلنا والتراب الكُم”، وعن الشيخ الذي يخاطب أحدهم” ما تضرب مرتك”. عن الذي اختطف المطران لكنه لم يؤذه لأنّه “بيحب سيدة بشوات”، وعن عباس اليتيم الّذي هرب إلى العاصمة إثر موت والده اتقاءً للثأر، وعن أُناس موعودين بـ”العفو”، وعن “ناس بتخلق مطلوب إلها اخراج قيد، نحن منخلق مطلوب إلنا سجل عدلي”.
كان عباس جعفر، في محطّات أُخرى يجسّد ابن بعلبك، على أنّه لا يستعمل سوى قوّته الجسديّة في أيّ موقف (أنا راسي بعلبكي، بتحدّى أكبر شبّ…)، لكن يحيى جابر عرف كيف يُدير جعفر، وكيف يُوجّه موهبته، من خلال “هيكالو” التي لا تزال تُعرَض حتى اليوم على أكثر من خشبة مسرح في لبنان وفي خارجه، محققةً نجاحًا كبيراً، حيث قدّمت سرديّة أخرى مختلفة، استعرضت فيها نشوء الحيّ والتهميش الذي أصابه من قبل السُلطة، وأيضاً الصورة النمطيّة التي يظهر الحيّ بها.
أمل طالب
إضافة إلى عباس جعفر، لمع نجم أمل طالب، وهي ابنة بدنايل جارة بعلبك، من خلال مشاركتها هشام حدّاد ببرنامجه عبر شاشة الـ MTV وقبلها على شاشة LBC، عارضةً أحداثاً ومواقف يوميّة تواجهها الفتاة البعلبكيّة، من خلال استخدام اللهجة البعلبكيّة بنبرة وصوت عالٍ. من المشاهد الّتي اشتهرت بها طالب، كان مشهد الفتاة التي اذا استقلّت الباص وعرف الركّاب أنّها من بعلبك، تتلقّى سؤالًا واحدًا ليس دونه، وهو: “معِك شي؟”، في إشارة إلى “الحشيش”.
في بداياتها شنّ العديد من المشاهدين حملة تنمّر على طالب، إذ اعتبروا أنّها لا تمثّل الفتاة البعلبكيّة، بل بنات القرى والبلدات المحيطة ببعلبك المدينة. شاركت طالب لاحقًا في مسلسلات أشهرها “ستيليتو”، وكذلك شاركت في أفلام ومسرحيّات، إضافةً إلى نشاطها الدائم على وسائل التواصل الإجتماعيّ.
حاولت أمل أن تكون موضوعيّة في نقل صورة الفتاة البعلبكيّة، فلم تقبّح تلك الصورة ولم تجمّلها كذلك، بل حاولت نقلها على حقيقتها. لكنّ أمل جُوبهت ممّن يُمازون بين بعلبك المدينة والجوار المحيط بها، لا من الذين يعارضون ما تفعله وتقوله وتنقله إلى العموم.
علي اتّحاد
يطرح الممثل علي إتّحاد، وهو من الهرمل، واسمه الحقيقي علي حمادة، عبر وسائل التواصل الإجتماعيّ، وبأسلوب بسيط وفكاهيّ المواضيع الإجتماعيّة. وبإمكانات لوجستيّة قليلة. يصنع حمادة إعلانات لبعض المحال التجاريّة، ويقدّم ويكتب مسرحيّات لم تحصد رواجًا كبيرًا.
أخفق حمادة إجمالًا من خلال تأدية دور الفتاة، مقبّحًا شكلها الخارجيّ، وأحيانًا أخرى ساخرًا من تفكير الكثيرات الّذي يفترِض أنّه يقتصر على أمور الزواج والجَمال. وفي محطّات أخرى أصاب حمادة عندما طرح مشاكل تأمين الفتاة لحاجيّاتها في أثناء فترة الدورة الشهريّة، وذلك في إبّان الأزمة الاقتصاديّة، حيث تواجه معظم الفتيات البعلبكيّات وغيرهنّ على مختلف الأراضي اللبنانيّة، غلاء السلع الخاصة بالدورة.
ولا تبدو ملامح التنميط في أداء حمادة إلّا عند تأديته اللّهجة الجرديّة الهرمليّة بحدّة، في حين اختفت تلك اللهجة اليوم، بفعل تناقص الأجيال القديمة التي كانت تنطق بها، واحتكاك الأجيال الجديدة بأهل بعلبك والعاصمة وسواها.
يشترك هؤلاء المؤثّرون الثلاثة، عباس جعفر وأمل طالب وعلي إتّحاد، في اللهجة، لكن تختلف مساهماتهم في تظهير صورة بعلبك ومنطقتها، والتي لا تخلو من التنميط السائد. فظهورهم التلفزيونيّ أسير دوّامة التبعيّة لتلك المحطّات وتوجّهاتها، والتي ساهمت بنقل وجه واحد للمنطقة، وأغفلت عمداً وجوهًا أخرى، وهو ما يخدم مصلحة المحطّات التفزيونيّة وسياساتها، والتي تقتات اليوم على النكات المؤدلجة والمنمِّطة ونسب المشاهدة.
بالمقابل، نجح بعض هؤلاء على المسرح، بطرح المشكلات الإجتماعيّة طرحاً جدّيّاً بعيدًا عن التنميط، وهذا ما حقّق نسب مشاهدات عالية، أتت لترى بعلبك بوجهها الحقيقيّ، تماماً مثل ما حصل في مسرحية “هيكالو”.