حرمان الابنة من الميراث.. بين الشّرع والعرف والعنف والترهيب
“تعرّضتُ للضرب وللعنف المبرّح من قبل أحد إخوتي، لإلزامي على التراجع عن دعاوى قضائيّة رفعتها أمام الجهات المتخصّصة لتحصيل حقّي في الميراث، وعدم الرضوخ للأعراف الاجتماعيّة السائدة”. هذا ما قالته المعلّمة تحرير عودة البالغة 46 عامًا، وهي أستاذة تعليم ثانويّ من بلدة “الخضر” قرب بعلبك، حيث نشرت في وقت سابق “ڤيديواً” على صفحتها على “فايسبوك” يوثّق حادثة الضرب تلك.
ما اعترضت عليه المعلّمة تحرير، رضخت له أ. ع. من مدينة الهرمل البقاعيّة، حيث قالت: “لقد حُرمت وأخواتي الستّ من حقّنا الشرعيّ في ميراث والدنا، الذي قسّم تركته في حياته، حتى لا ترث إحدى بناته أرضًا أو بيتًا بعد وفاته”. مشيرة إلى أنّ والدها “كان قد طلب من أبنائه الورثة التعويض علينا بمبلغ معيّن، بحجّة أنّ عرف العائلة، يرفض رفضًا قاطعًا أن يملك أيّ غريب أرضًا أو عقارًا خاصًّا بالعائلة، حتّى ولو كان أحد أحفاده لجهة الإناث”.
حكايتا تحرير و”أ. ع.” لا تختصرا كلّ حكايا النساء اللواتي حُرمنَ من مواريث آبائهنّ، بل شكّلتا عيّنتين حيّتين للظلم الذي تتعرّض له النسوة، ومن إجحاف بحقوقهنّ الشرعيّة والقانونيّة التي يطمسها المجتمع الذكوريّ، ليس في بعلبك الهرمل فحسب، بل في كلّ لبنان، وخصوصاً في مناطق الأطراف، حيث يرتفع منسوب ذلك المجتمع المميِّز الذكر على الأنثى وتسود أعرافه وتقاليده.
يحدث ذلك بدءاً من اعتبارات “الشرف” و”السمعة العائليّة”، وصولاً إلى الجحود في حقوق المرأة، وأهمّها ظاهرة حرمانها من الميراث العائليّ، تحت حجج ومسمّيات عرفيّة مرتبطة بالهيمنة الذكوريّة ليس دونها. وعند الحديث عن الميراث، يأبى العرف الذكوريّ نقل قطعة أرضٍ أو عقار كان تحت اسم عائلة ما، إلى اسم عائلة أخرى، من خلال توريث الأنثى، التي بدورها تنقل معها إرثها إلى زوجها وأولادهما وكنية العائلة المستجدّة.
تعبّر أ. ع. بحرقة عمّا حصل معها، وتعتبر “أنّ هذا العرف هو ظلم بحقّ المرأة، بالإضافة إلى أنّه حرمان لأبنائها من حقهم القانونيّ في الميراث، وهو مخالف أيضاً لشرع الله”.
حاولت أ. ع. وأخواتها جاهدات، المطالبة بحقّهنّ في الميراث، إلّا أنّ والدهنّ رفض الأمر رفضًا قاطعًا، ما اضطرهنّ إلى الرضوخ للأمر الواقع وتقبّل حرمانهنّ من حقهنّ الطبيعيّ الذي يكفله القانون.
حكاية المعلّمة تحرير عودة
لا تختلف حكاية المعلّمة تحرير عودة عن غيرها من حكايا النساء اللواتي حُرمنَ من الميراث. لكنّ الفارق في تحرير أنّها قرّرت المواجهة حتّى النهاية، المواجهة التي ما زالت فصولها تتوالى حتّى اليوم، ولم تنتهِ.
تشير تحرير في حديثها إلى “مناطق نت”، إلى أنها أمضت صباها تعمل في أرض العائلة. تعبت وكدّت وهي تنقل الحجارة لتصبح الأرض صالحة للزراعة، “ليقوم والدي لاحقًا، بنقل ملكيّة أراضيه إلى أولاده الذكور الثلاثة بواسطة عقود بيع وشراء، حارماً بذلك إيّاي وشقيقاتي الخمس، من حقنا في معظم أراضيه المسجّلة باسمه والتي تبلغ مساحاتها أكثر من نحو مئة دُونم”.
وتلفت تحرير إلى أن والدها “ترك بعض فتات الشيوع للبنات، في أراضٍ أميريّة تتداخل وتتوزّع فيها الحصص بين الشريك والخليط”.
تحصيل الحق.. بالقانون
على الرغم من الضغوط العائلية الكثيرة والمضايقات، خصوصاً من أخوتها الصبيان، لم ترضخ تحرير للأمر الواقع وقرّرت المواجهة، فلجأت إلى رفع دعاوى قضائيّة عديدة، للمطالبة بحصّتها من الميراث بعد وفاة والدها سنة 2020. وفي هذا الإطار تؤكّد تحرير بأنّ تحصيلها العلميّ هي وأخواتها “ساعدنا في التسلّح بالجرأة وعدم التنازل عن حقوقنا، والصمود أمام كلّ التهويل والاعتداءات”. وتحدثت عن تعرّضها للعنف المبرح من قبل إخوتها، “لإجباري على التراجع عن دعواتي والرضوخ للأعراف الاجتماعيّة السائدة”.
عند الحديث عن الميراث، يأبى العرف الذكوريّ نقل قطعة أرضٍ أو عقار كان تحت اسم عائلة ما، إلى اسم عائلة أخرى، من خلال توريث الأنثى، التي بدورها تنقل معها إرثها إلى زوجها وأولادهما وكنية العائلة المستجدّة.
تحثّ تحرير في حديثها على “تحديث القوانين، بحيث لا تُترك أيّ ثغرة قانونيّة تمكّن المورِّث من حرمان النساء من الميراث، تلافياً لتكرار تجربتي التي استغّل والدي فيها ثغرة عقد البيع والشراء بين الأب والأبناء الذكور، لمنعنا من حقوقنا الإرثيّة. يجب إقرار التطبيق المتساوي بين الرجل والأنثى، لأنّ التمييز بينهما في توزيع الإرث، عنصريّة تمارَس ضدّ النساء في قوانين الأحوال الشخصيّة الإسلاميّة”.
حديث الشرع “المتفائل”
من جهته، يشير رئيس المحكمة الشرعيّة الجعفريّة في بعلبك، الشيخ محمّد مهدي اليحفوفي، لـ “مناطق نت” إلى أنّ ظاهرة عدم توريث الإناث هي حالة مجتمعيّة نمطيّة وليست حالة عامّة”، مؤكّدًا انتشار هذه الحالات في بعلبك والجوار “ولقد لمستُها من خلال المسائل والقضايا التي تُعرض بشكل دوريّ في أروقة المحكمة، وبشكل استثنائيّ، بحيث يعمد البعض إلى كتابة وصيّة لتقسيم تركته بين أبنائه الذكور من دون الإناث”.
يضيف الشيخ اليحفوفي: “بهذه الحال تعتبر الوصيّة غير شرعيّة، وغير قانونيّة، ويحقّ لمن لم تشملهنّ الوصيّة المطالبة بحقوقهنّ بعد وفاة المُوصي، والطعن في هكذا وصايا”.
وعن دور المحكمة الشرعيّة في منع ذلك، يؤكّد الشيخ اليحفوفي “أنّ دور المحكمة بحسب قانون الأحوال الشخصيّة، يقتصر على تقسيم التركة بين الورثة، وليس على مداعاة من يحرمون بناتهنّ من التركة. وفي حال التنازل من قبل الإناث عن حقوقهنّ في الميراث، نطلب التأكّد منهنّ شخصيًّا، والتأكّد من عدم تنازلهنّ تحت الضغط أو الترهيب”.
أمّا بخصوص القوانين الشرعيّة التي تقسّم الميراث، يرى الشيخ اليحفوفي “بأنّ القوانين الشرعيّة والمدنيّة كافية لإنصاف المرأة وإعطائها حقوقها، وأنّ المحكمة الشرعيّة تعتبر حرمان المرأة من حقوقها مخالفاً للشريعة الإسلاميّة، سواء السنّيّة أو الشيعيّة”.
وعن مواجهة هذه الظاهرة والحدّ منها، يضعها الشيخ اليحفوفي على عاتق “المسؤوليّة المجتمعيّة” في المقام الأول. كيف؟ “من خلال التوعية الدينيّة والفقهيّة لهذه المسألة”. ويرى بضرورة التشدّد في تطبيق القوانين من قبل المحاكم العدليّة المدنيّة والسلطات، لكي تكون قوانين رادعة.
“حقّي إورث”
أسّست الدكتورة علوم عودة جمعيّة “حقّي إورث” في العام 2018. علوم هي شقيقة تحرير عودة، والتي شكّلت تجربتها وأخواتها، المريرة، مع ظاهرة الحرمان من الإرث، دافعها الأوّل لتأسيس هذه الجمعيّة “ورفع صوت النساء عالياً، وكسر حاجز الخوف المجتمعيّ، والقيود العرفيّة التي تحرمهنّ من حقوقهنّ”.
في حديثها لـ “مناطق نت” تشير علوم إلى “أنّ انطلاقة “حقّي إورث” كانت بحملة على مواقع التواصل الاجتماعي في سنة 2018، سرعان ما حوّلناها إلى جمعيّة غير ربحيّة تعنى بشؤون المرأة وحقوقها الإرثيّة، وهي تهدف بشكل أساسيّ إلى رفع مستوى التوعية للمطالبة بكامل حقوق المرأة الإرثيّة التي يكفلها القانون، وكذلك تقديم الاستشارات القانونيّة مجّاناً عبر محامين متخصّصين”.
تضيف الدكتورة علوم: “بعد العام 2021 بدأت مشاريع الجمعيّة بالتطوّر، إثر تحصيل التمويل من المؤسّسات المانحة. والجمعيّة بصدد تنفيذ مشروع يهدف إلى إجراء إحصائيّات وبيانات تتعلّق بظاهرة حرمان المرأة من الميراث في منطقة بعلبك-الهرمل، عن طريق أبحاث معمّقة لأسباب هذه الظاهرة، وسوف يتمّ تنفيذ المشروع بالشراكة مع Un women وبتمويل من السفارة الكنديّة في بيروت، وصندوق المرأة للسلام”.
حيل “قانونيّة” وأساليب ملتوية
عن الحيل المُعتمدة في حرمان النساء من الميراث تقول الدكتورة علوم: “إنّها كثيرة، ومنها أخذ بصمة المتوفّى أو المريض في حالة الغياب عن الوعي. ومنها ما يُشاع حول ما يحصل في أقلام النفوس من دفع رشاوى للحصول على إخراجات قيد عائليّة، تُشطب منها أسماء البنات، وذلك لتقديمها إلى معاملات حصر الإرث لحرمانهنّ من إرثهنّ”.
تدعو عودة النساء في لبنان عامّةً “وفي بعلبك- الهرمل بخاصّة، إلى رفع الصوت عالياً والتجرّؤ على المطالبة بحقوقهنّ كافّة، وعدم الإكتراث للعادات البالية”. وتؤكّد “التزام جمعيّة “حقّي إورث” بالاستجابة السريعة لجميع الحالات، كما ندعو كلّ النساء إلى عدم التردّد والتواصل مع الجمعيّة عند حدوث أيّ نوع من انواع الحرمان من الإرث”.
إنّ ظاهرة حرمان المرأة من الإرث ليست مقتصرة على طائفة معيّنة، أو مذهب بعينه، إنّما هي قضيّة عابرة للطوائف والمناطق، لكنّها في بعلبك- الهرمل تستفحل كظاهرة، نتيجة العادات والتقاليد والبيئة المجتمعيّة الذكوريّة السائدة، حيث تُحرم النساء بنسبة كبيرة من حقوقهنّ من الميراث، والذي يترافق أحياناً مع التعنيف واستخدام القوّة لمنع المرأة من نيل ذلك الحقّ. يجري كلّ ذلك في ظلّ تراجع قوّة القانون، وغياب الرادع بشكل كامل.
ظاهرة حرمان المرأة من الإرث ليست مقتصرة على طائفة معيّنة، أو مذهب بعينه، إنّما هي قضيّة عابرة للطوائف والمناطق، لكنّها في بعلبك- الهرمل تستفحل كظاهرة، نتيجة العادات والتقاليد والبيئة المجتمعيّة الذكوريّة السائدة
لقد أضحى حقّ المرأة في الميراث، يتعلّق إلى حدٍّ كبير برغبة رجال العائلة وقرارهم. ولو قرّروا إرضاء شقيقتهم (أو شقيقاتهم) بمبلغ ماليّ تعويضاً عن توريثها، غالباً ما يكون زهيداً مقارنة بحقّها الفعليّ من الميراث، مع التلميح إلى استخدام القوّة في حال رفضت ذلك. وأيضاً يعود لهم إذا ما قرّروا حرمانها الكامل من الإرث، إرغامها على توقيع تنازل عند كاتب العدل، شريطة زواجها أو تعليمها أو ما شابه.
في رحاب قوانين الأحوال الشخصيّة
على المقلب القانونيّ، يؤكّد الخبير القانونيّ المحامي محمد شرانق لـ “مناطق نت” “أنّ التعدّد في الطوائف والأديان يستتبع تعدّدًا في الأحكام التي تلحظ ميراث المرأة، بحسب قوانين الأحوال الشخصيّة لكلّ طائفة –وهي تختلف بين طائفة وأخرى- وبحسب صفتها في الميراث. فالزوجة غير المسلمة، في قوانين الأحوال الشخصيّة ترث النصف في حال عدم وجود الفرع الوارث، والرّبع في حال وجوده. بينما ترث الأخت والأخ مناصفة على حدّ سواء”.
أمّا في قوانين الأحوال الشخصيّة الإسلاميّة، بحسب شرانق، “فإنّها قوانين وأعراف تتّفق على أنّ للذكر مثل حظّ الأنثيين (كما جاء في القرآن الكريم). ويكمن اختلاف بسيط بين الطوائف السنّيّة والشيعيّة، لكنّها جميعها تكفل للمرأة حقوقها الكاملة عند المداعاة والمطالبة أمام القضاء”. يعتبر شرانق كذلك “أنّ حرص القانون على حقوق المرأة في الميراث متعلّق بالنظام العام، أيّ لا يحقّ للمُورث حرمانها من حقوقها الإرثيّة حتّى ولو كتب وصيّة بذلك”.
ويختم شرانق: “إنّ اختلاف نظرة المُورث لأبنائه بين الذكر والأنثى، يأتي من باب محاباة الذكور وتفضيلهم، كونهم يحملون اسم العائلة. وإنّ الأساليب المتّبعة كافة، سواء من المُورث خلال حياته، أو من الورَثة الذكور بعد مماته، إنّما هي أساليب رجعيّة منتشرة، ومردّها إلى نظرة المجتمع نحو المرأة التي هي نصفه الأول، والتي ستلد نصفه الثاني”.