خصوصيات اللاجئة السورية… الحشمة تصارع الإباحية
المخيّم على أرض غير منبسطة، خيامه مرصوصة بعضها على بعض في المساحات المستوية. يبدو وكأن الهضاب القليلة وبركة الماء الكبيرة ومجرى النهر الذي يقطع المخيم يرأف ببعض الخصوصية للخيام القليلة المتناثرة فوق امتداد حافة النهر.
شوادر من البلاستيك، بيضاء، ما زالت بيضاء رغم كل شيء، رغم تعاقب الفصول، لكنها اهترأت وتمزّقت، ولذا ترى الكثير منها مدعم “بالبطانيات” و”الفُرش” والمزيد من “شقفات” النايلون المغطاة بها. تشيح ببصرك عنها لأنك تتجنب أن تترك مزيدًا من الألم على المأساة عندما سيراك أحد القاطنين هنا تحدّق. وحده شعار مفوضية الأمم المتحدة للاجئين، المطبوع على البلاستيك يتحدّاك أن تطيل النظر إليه، لتتساءل أيضًا وأيضًا عن حقيقة المنظّمات الدولية ودورها في الصراعات! بلاستيك لا يقي من حرّ الصيف الملتهب، ولا من قرّ الشتاء القارص، بل يتسبب بالمزيد من المعاناة، فكيف يحمي إذًا، من تطفّل الآخرين على ساكني الخيمة من أهل المخيّم ومن خارجه؟.
شاهدتها، وهي تناور في مشيتها، كانت تخفي شيئا بيدها تحاول أن تبعده عن عيون الآخرين، تتبعتها بنظراتي حتى صارت وراء الخيمة، وإذ بها تنشر ملابسها الداخلية بطريقة مموهة. عذرتها على هذه المراوغة، فالمخيم ولو كان خيامًا، هو بيت زجاجي، أولى ضحاياه الاحتشام والاحتجاب، شفافيته ليست نظرية فقط، فما تعجز عنه العين تسمعه بسهولة الأذن وسائر الحواس، وحبل غسيل الثياب يحوي قرائن وأدلة على الحميميات والخصوصيات. هكذا كان مطلع زيارتي لمخيم لاجئين سوريين في إحدى مناطق بعلبك.
دخلنا خيمة فيصل ودعد، أرض من الباطون، مفروشة حديثًا أضاءت ابنتهما رائدة (اللمبة)، إذ لا تُمكن الرؤية بدون إنارة، فلا نوافذ للبراكية (الخيمة) ليدخل منها الهواء والضوء!. تلتصق خيمة أسرة رائدة بخيمة أخيها الجديدة التي أقامها كونه مقبلاً على الزواج، وبالواقع لا تعدو الخيمة الجديدة سوى امتداد لخيمة الأسرة ومفصولة عنها بستارة سميكة.
رائدة التي فجعت منذ سنوات بمقتل خطيبها نور في حادث اصطدام مع آلية عسكرية بضوء واحد، لم تدفنه كله تحت التراب، بعضٌ منه تحتفظ به باستعارة كلمات من محمود درويش “من يعرف نور ينحني ويصلّي لإله في العيون العسلية”. يشعّ الذكاء والتوثب من عينيها الخضراوين الواسعتين، هي متأدبة في الحديث رغم تمرّدها وصراحتها، ورغبتها الملحّة في التعبير عن شؤونها ولكن بطريقة محددة المفردات واضحة، فقد خَبرت التعامل مع الآخرين كقائدة رغم حداثتها في ميدان الحياة، وهي تتولى رئاسة العاملات في الزراعة في حقول صاحب “المشروع” أي صاحب الأرض التي يقام عليها المخيم، وهي أيضًا منسقة المخيم، رفقة والدتها مع مفوضية الأمم.
لا نوافذ للبراكية (الخيمة) ليدخل منها الهواء والضوء!. تلتصق خيمة أسرة رائدة بخيمة أخيها الجديدة التي أقامها كونه مقبلاً على الزواج، وبالواقع لا تعدو الخيمة الجديدة سوى امتداد لخيمة الأسرة ومفصولة عنها بستارة سميكة
يختلف معنى اليوميات في المخيم عنه في أي مكان آخر، اليوميات أمر بسيط في المنازل، لكنها همٌ كبير في المخيم، تقتضي حذراً واستنفاراً، فتقول رائدة عن النوم، هذا الفعل اليومي الذي لا بدّ منه “أنا لا ألجأ إلى النوم في خيمتنا بالصيف إلا لأتأكد أن أخي لن يدخل إلى الخيمة مجددًا وأنه قد ذهب إلى فراشه أو مع رفاقه، فأنزع ما أمكنني من ملابسي التي لا تطاق أبدًا، فلا شبابيك لتفتح، جلّ ما يمكنني فعله هو أن “أشرّع” البراكية. (“أن تشرّع البراكية” وهو أن ترفع جدار الخيمة من تحت لتحشره بأسلاك معدنية رقيقة وتثبت جدران الخيمة).
تكمل رائدة “وهذا ما يجعلني وإخوتي وأهلي كأننا في العراء حرفيًا، فالخيمة كالوهم هي عراء بالفعل مغلّف بقناع الستر والحماية، فأيٌ كان بمقدوره أن يشرّع البراكيّة ويدخل من جانب الخيمة وقد حصلت في المخيّم، حصلت كثيرًا”. تكرّر (وتشيح بنظرها نحو أمها)…
من النوم إلى الاستحمام، تستكمل رائدة تعداد المعاناة في يومياتها “عند الإستحمام، يا له من حدث! طبعًا لا نستحمّ في الحمّامات الخارجية، تلك فقط لقضاء الحاجة، بعد تسخين الماء على الحطب، ونقله إلى الزاوية المخصصة من الخيمة للاستحمام والتي تكون أرضيتها من الحجارة المرصوفة أو الباطون، يجب أن تقف فتاة ممن أستأمنهن من الجارات (إذا لم تكن أمي أو ليال أختي موجودتين) على “باب” الخيمة كي أتمكن من تنظيف جسدي، وذلك حتى لا يدخل أحد، حتى من أهلي، صدفةً ويراني عارية، وأنا أدرك تمامًا أن كل من يمر بجانب خيمتنا ويرى جريان ماء استحمامي، سيعرف أنني الآن أستحم وأنني دون ملابس وأن لا شيء أبدًا يمنعه من استباحتي، ولك أن تتخيلي ما يدور في عقول الشباب، فلا رادع لأحد هنا ويمكن أن تتطور الأمور إلى أبعد مما تتصورين فقط لأن الحدود والحواجز المادية الملموسة غير موجودة”.
مع كل هذه التدابير والإجراءات التي تتخذها نسوة المخيم لصون حشمتهن، يبقى خطر استباحة خصوصيتهن قائمًا وهمّا دائمًا، وأحيانًا لا تكون الاستباحة عفوية، بل تكون مقصودة وعن سابق تخطيط، ونظرًا لما توفره طبيعة المكان من سهولة على انتهاكها، يتجرأ بعض المنحرفين على ارتكابها وينتج عنها كوارث تصيب الضحايا نفسيًا واجتماعيًا، ولا تلتئم جروحها بالحلول والتسويات التي غالبًا ما تكون على حساب المرأة.
تبتسم رائدة بمرارة عندما سألتها عن كيفية ترتيب خصوصياتها الجسدية، فقالت: خصوصيتي! ردّدت هذه الكلمة بألم وحسرة، وقالت: “أودّ أن أخبرك عن إزالة الشعر، في الواقع لا أهتم، أنا مكرهة على ذلك وليس عن طيب خاطر البتة، فأنا لا أقوم بذلك إلا نادرًا، لأن الموضوع بحاجة إلى ترتيبات كثيرة أهمها الإضاءة وكما ترين بالكاد نرى بعضنا، وكذلك بحاجة للوقت الكافي قبل أن يدخل عليك أحد من الأهل أو غيرهم، أما في الصيف فتصبح العملية شبه مستحيلة يكاد السكر (العسلية) يتحول سائلًا من شدة الحر المحتبس في الخيمة، فحالنا بالصيف مثل الأعشاب والنبات والخضرة، نحن نعيش في بيوت الزراعة البلاستيكية، فأنّى لي أن أعتني بموضوع كهذا؟ فهو رفاهية قصوى إذا تحقق!”.
أنا أدرك تمامًا أن كل من يمر بجانب خيمتنا ويرى جريان ماء استحمامي، سيعرف أنني الآن أستحم وأنني دون ملابس وأن لا شيء أبدًا يمنعه من استباحتي
في المخيم، لا تكفي الثياب وحدها مهما طال الثوب وقماشه لـ”السترة” أو تحقيق الحشمة، فالعري ليس بكشف أجزاء من الجسد فقط، هناك أمور تتعلق بهذا الجسد تحديدا، لا يجوز أن تكون محط أنظار الآخرين وتفكيرهم واستنتاجاتهم، وعليه، غالبًا ما تبقى رائدة مهووسة من خطر استباحة حميمياتها الخصوصية ليس من الغير فقط، وبل من الأهل أيضًا. تقول: “العادة الشهرية! “كيف أغيّر الفوطة؟ وأين وكيف أعتني بنظافتي الشخصية بالطريقة الصحيحة أثناء الدورة؟ معاناة من نوع آخر لن تفهمها سوى من تعيش في المخيمات. أما استخدام المرحاض فَلَه حسابات أُخرى، فطريق الوصول إليه والعودة منه وتنظيفه في كل مرة قبل الاستخدام وبعده واضطرارك للخروج إليه في الليل هي سيرة يومية من المعاناة، فالكل يراكِ وأنت تدخلين وأنت تخرجين، وكم لبثتِ فيه، وقد عانينا من المراحيض المشتركة مع الرجال لفترة قبل أن تخصص المفوضية حمامات منفصلة”.
تدفع حياة المخيم إلى اختزال الحياة الزوجية وتحويلها إلى مغامرة خطرة يتربص بها الخجل والإحراج أمام الأبناء والفضيحة أمام العابرين بالقرب من الخيمة، وتقول دعد ربة الأسرة، بعد أن طَلَبَت من ابنتها المغادرة: “بالطبع لم يعد الوضع بيني وبين زوجي كما كان أبدًا، فأنا وزوجي وأولادي الأربعة ننام جميعًا في الخيمة نفسها، حتى لو فصلتُها بستار إلى قسمين، أي حركة أو صوت يصدران يكونان مسموعَين، وأولادي كبار، إبني الأصغر عمره ثلاث عشرة سنة، أنا لم أعد ألبي زوجي في المعاشرة إلا قليلًا، ذلك يولِّد مشاكل من نوع آخر فوق جبال المشاكل التي تثقل كواهلنا، مشاكل لم تكن موجودة حين كان لي بيت”.
تكبت دعد دمعة وتمنعها بفتح عينيها على وسعهما، وتشرح “أتجنب حمّام ما بعد العلاقة الجنسية لأن أولادي سيعرفون حين أقوم بتسخين الماء لهذه الغاية أن العلاقة حصلت وهذا يحرجنا كثيرًا، لذلك لا أقوم بها إلا إذا بدا لي الأمر مقبولًا في السياق”. وتروي لنا “محمود إبن الجيران ذو الثانية عشر بعد أن لاحظ أمه تسخن الماء في أوقات يستغربها، دأب على مراقبة ما يحصل قبل ذلك، فشاهد ولمرات متكررة خلسة، عملية الجماع بين والديه وقد دخل عليهما مرة في حال حميمية جدًا وسأل أباه عن ضوء اللايزر حتى يفهم أكثر ما يجري أمام عينيه”.
تكمل دعد بأسى “أدرك أن الأمور عند زوجي لها حلول أخرى لا أحب أن أعرف عنها فأنا أسمع جاراتي تتحدّثن كيف فقدن الحميمية الطبيعية مع أزواجهن وكيف بات الأزواج يستسهلون الجنس مع الغير. نحن لا نستطيع حتى أن نتحدث بأمورنا العائلية بصوت عادي، ربما هناك من يقف الآن خلف الخيمة يسترق السمع، نتجنب الحديث في المسائل الخاصة والحساسة، مع أن خيمتنا على حدة نوعًا ما، أنظري إلى الخيام المكتظة حيث جدرانها مشتركة وكأنها خيمة كبيرة متصلة، وكيف يمكن بسهولة التنقل عبرها فقط بـ “تشريع جدار الخيمة” دون من رأى ومن درى”.
أما بعد، فأعرف أن الكثيرين سيسارعون للقول “يرجعوا إلى بلدهم”، لكن ماذا لو لم يكن عندهم مكان يذهبون إليه حتى في بلدهم؟ فمن له بلد لا يقيم بمثل هذه الخيام. وحكاية الأعباء التي يرتبونها على دولتنا، هذه حقيقة لا يصدقها إلا مخترعها الذي يريد استثمارها سياسيًا أو لتسوّل الصدقات من الدول الغنية. وعلى أي حال لا ألم يذهب هباء، سيبقى أنينه عالقا في تربتنا هوائنا وسنسمع رجع صداه يتردد في وقت آخر.