دكتاتوريّة منصّات التواصل الإجتماعيّ تجرّد الفلسطينيّين حقوقهم
شبّه الكاتبان “دوغان” و”لابي”، في كتابهما “الإنسان العاري، الدكتاتوريّة الخفيّة الرقميّة”، بيل غيتز (مالك شركة ميكروسوفت)، ومارك زاكربيرغ (مالك شركة فايسبوك)، بأنّهما روكفيلر الجديدان، وقالا: “إنّه لم يحدث في تاريخ البشريّة أن وُضعَ عدد قليل من الأشخاص بين أيديهم هذا الكمّ الكبير من السلطة والثروة”. وأضافا: “لقد أعلنَ العالم الرقميّ عن ميلاد أوليغارشيّة فائقة!”. إذ إنَّ شركات التكنولوجيا العملاقة خلقت أشكالًا جديدة من السلطة، تخطّت فيها الحكومات والدول.
إذًا، الموضوع فاقَ تجميع البيانات ومراكمتها، إلى ظهور ما يُعرف باسم “رأسماليّة المُراقبة” التي على ما يبدو، أصبحت عاديّة في الفضاءات التي تتبنّى الديموقراطيّة، لنكون إزاء كهنوت جديد إذا ما استعرنا العبارة من الكاتبة شوشانا زوبوف. وقد حوّلت “رأسمالية المراقبة” زبائنها إلى سلعة، استخرجت منهم “فائضًا سلوكيًّا”، استخدمته في العديد من المجالات مقابل الربح في داخل الأسواق الرقميّة.
بذلك تكون رأسماليّة المُراقبة قد تجاوزت متطلّبات الشركات في تحسين أدائها بما يخدم متطلّبات جمهورها، إلى مراقبتهم والتحكّم في سلوكيّاتهم باستخدامها لسلطتها غير المرئيّة. وتجد شركات مثل “فايسبوك” و”غوغل” وغيرها، “حروب عصر ما بعد الحقيقة”، التي تتّسع في العالم الرقميّ اليوم، موضوعًا مهمًّا لجنيّ الأموال، والأرباح الطائلة.
رأسماليّة المُراقبة قد تجاوزت متطلّبات الشركات في تحسين أدائها بما يخدم متطلّبات جمهورها، وتجد شركات مثل “فايسبوك” و”غوغل” وغيرها، “حروب عصر ما بعد الحقيقة”، التي تتّسع في العالم الرقميّ اليوم، موضوعًا مهمًّا لجنيّ الأموال، والأرباح الطائلة.
وبالعودة قليلًا إلى الوراء، خلال “الحرب على الإرهاب”، حقّقت الشركات التكنولوجيّة الكبرى أرباحًا كبيرة بعد عقدها صفقات للوكالات الحكوميّة الأميركيّة، وبعد إنشائها لما يُعرف باقتصاد البيانات، وظهر هذا بشكل واضح بعدَ هجوم 11 أيلول/ سبتمبر 2001 في الولايات المتّحدة الأميركيّة، وقتها نمت استراتيجيّات دفاعيّة على نحو متسارع لتصبح بشكلها الرقميّ الحاليّ.
فلسطين والمعركة الرقميّة
نحنُ نعيش اليوم في ظلال الواقع إذ ما صحّ التعبير، تتماهى فيه هذه الشركات الكبرى مع الدول القويّة ومع الرأسماليّة التي تتحكّم في موازين القوى العالميّة، دول مثل أميركا والصين وروسيا وإسرائيل واتّحادات مثل الاتّحاد الأوروبّيّ وغيره.
وإذ ما عرجنا إلى حرب الإبادة التي وقعت منذُ 7 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، فسنجد أنَّ الفلسطينيّين لديهم اليوم معركتين: معركة ضدّ الاستعمار الإسرائيليّ على أرض الواقع، ومعركة رقميّة افتراضيّة مع سياسات الشركات الكبرى وداعميها.
كيف تتعامل الشركات العملاقة مع القضية الفلسطينية؟
قامَ مركز “حملة” العربي للتطوير الاجتماعيّ، باختبار لمراقبة المحتوى الذي يتمّ نشره على المنصّات التي تملكها شركة ميتا، وتبيّنَ أنَّ الأخيرة وافقت على نشر دعايات مقابل تحقيق أرباح طائلة. واللافت أنَّ محتوى هذه الدعايات يتناقض مع السياسات التي تتبنّاها هذه الشركات الكبرى، خصوصًا وأنّها تدعو إلى الكراهيّة وإلى طرد الفلسطينيّين من الضفّة الغربيّة إلى الأردن. ويتزامن هذا، مع تصاعد العنف الذي يمارسه المستوطنون على السكّان المحلّيّين في الضفّة الغربيّة.
كذلك تحثّ هذه الدعايات التي يتمّ نشرها على منصّات التواصل الاجتماعيّ، كمنصّة “فايسبوك”، على قتل المدنيّين الفلسطينيّين وإلى القضاء على النساء والأطفال في غزّة. وتستخدم هذه الدعايات في محتواها الضارّ عبارات كتنفيذ “محرقة للفلسطينيّين” وتصف بحسب مركز “حملة”، الأطفال في غزّة بأنّهم “إرهابيّو المستقبل”.
كذلك كشف المركز نفسه، في وقت سابق، ارتفاعًا في وتيرة انتشار الخطابات التي تحرّض على الفلسطينيّين والتضييق الذي يطال مناصري الحقوق الفلسطينيّة، بعدَ رصدها لأكثر من 103 آلاف محتوى ضارّ باللغة العبريّة، وقد انتشرت معظمها على منصة “إكس”، التي تستفيد بالمقابل من هذه المنشورات والدعايات.
ازدواجيّة المعايير والتعبير
وفي سياق متّصل، نشرت مجموعة من الموظّفين في شركة “غوغل” رسالة إلى الإدارة، تتّهم فيها الأخيرة، بازدواجيّة المعايير، خصوصًا وأنَّ “غوغل” تسمح للموظّفين الإسرائيليّين بالتعبير عن آرائهم السياسيّة المُتعلّقة بحرب الإبادة على غزّة منذُ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، فيما تمنع الموظّفين الآخرين الفلسطينيّين واليهود المناهضين للإحتلال من الاعتراض أو التحدّث عن التجاوزات الإسرائيليّة في قطاع غزّة، ويتضمّن ذلك كلّه نقطة مهمّة ملتصقة بتبنّي شركة “غوغل” هذه السياسة، ألا وهي الأرباح التي يمكن أن تجنيها.
فالرسالة التي بعثها الموظّفون تتحدّث عن نقطة لا يمكن إغفالها وتتعلق بالعقد الذي سمّي بمشروع نيمبوس، وقد دخل حيّز التنفيذ في العام 2021، وتبلغ قيمة هذا العقد الذي يزوّد إسرائيل بالذكاء الاصطناعيّ، وقيل إنّه يمكن استعماله لمراقبة الفلسطينيّين، حواليّ 1.2 مليار دولار. وبالتالي تعود هنا لتظهر رأسماليّة المُراقبة بشكل جليّ جدًّا.
في المقابل، ومنذُ أيّامٍ قليلة، أعلنَ الملياردير الأمريكيّ، مالك منصّة “إكس”، إيلون ماسك عن تعليق أيّ حساب يستخدم مصطلحات مثل “إنهاء الاستعمار” “ومن النهر إلى البحر”، باعتبار أنَّ مثل هذه المصطلحات هي معادية للساميّة و”تدعو للإبادة الجماعيّة بحقّ اليهود”.
وتتذرّع هذه الشركات الكبرى، بهذه المصطلحات لتقويض المحتوى الفلسطينيّ، ذلك بما يتماهى مع سياسات الدول التي تعقد معها صفقات تُجني عبرها الأرباح، لنكون إزاء شركات تقنيّة كبرى تتخلّى عن حياديّة التكنولوجيا لمصالح ماليّة وسياسيّة.
ويتّهم اليوم، مستخدمو شركة “ميتا”، خاصّة بعد الحرب الدائرة على غزّة، الشركة باتّباعها سياسة الـ shadow banning، وهي سياسة تحدّ فيها منصّات التواصل الاجتماعيّ التابعة لشركة ميتا من رؤية منشورات المستخدم، وبالتالي عزله عن المجتمعات الافتراضيّة، ذلك لتداوله محتوى داعم للقضيّة الفلسطينيّة. ما يشكّل خطرًا على الديموقراطيّة وعلى حرّيّة الرأي والتعبير، وهذا يتناقض مع مناخ وفضاء منصّات التواصل الاجتماعيّ.
سيطرة الإعلان والمال
لا يمكن إغفال الصراع الذي يتباين بين الشركات التكنولوجيّة الكبرى وبين الدول من حين لآخر، فمثلًا في الحرب القائمة على غزّة، وبعدَ إدانة البيت الأبيض لـ”إيلون ماسك” (مالك شركة إكس) بشأن ما كتبه على صفحته بأنَّ اليهود يسعون إلى تأجيج الكراهيّة ضدّ الشعب الأبيض، واعتبار هذه التغريدة معادية للساميّة، قامت العديد من الشركات الأميركيّة بوقف إعلاناتها على منصّة إكس احتجاجًا، ما حدا بـ إيلون ماسك لفرض قيود جديدة على المحتوى الفلسطينيّ، وعلى أغلب الظنّ بسبب خوفه على أرباح شركته التي قد يفقد جزءًا منها، نتيجة مقاطعة العديد من الشركات العالميّة لمنصّته.
وبالتالي نعود دائمًا إلى رأسماليّة المُراقبة التي تبقى حاضرة والتي على ما يبدو، قد أبعدت الكثيرين عن الحلم في التحرّر داخل الفضاء الرقميّ الذي بات يتّسم اليوم بالانحياز لصالح الأقوى والأكثر ثراءً.