شَعرُ النساء مفعم بالخصوبة والولادة والقوّة و”الرذيلة”
يعتبرُ فنسنت شينيل (Vincent Chenille)، مؤرّخ التمثيلات، أنَّ شَعر النساء ارتبط على مرّ العصور “بالجنس والخصوبة والولادة والقوّة”، واُستخدم عبر التاريخ في قوالب عديدة، وظهرَ في معانٍ مختلفة وفي ارتباطات كثيرة ثقافيّة، اجتماعيّة وسياسيّة. ودائمًا ما كان يُعاد نقله عبر الأزمنة، والسفر بهِ إلى عالم الفضائل، السِحر والرذيلة، تحديدًا شَعر الرأس عندَ النساء.
تاج الصمت المدوّي
في 3 تموز/ يوليو 2019، أصبحت كاليفورنيا من الولايات الأولى في أميركا، التي تمرّر قانون يحظر التمييز على أساس شكل الشَعر، لونه وأسلوب عرضه، وعُرف القانون باسم: _CROWN_ ويعني إنشاء فضاء عمل محترم ومفتوح للشعر الطبيعيّ. وبحسب القانون، كان السواد وما يرتبط به من البشرة الداكنة والسوداء والشعر المجعّد رمزًا للدونيّة، كرّستها المركزيّة الأوروبّيّة على مرّ العصور. وذهبت إلى اعتبار أنَّ كلّ جمال خارج المعايير الأوروبّيّة يعتبر بشعًا، يُلزم النساء تحسين المظهر على أساس المعايير الجماليّة الأوروبيّة حتّى يتمّ اعتبارهنَّ فائقات الذكاء، ومحترفات في أعمالهنَّ وجميلات بل رائعات الجمال.
وينصّ القانون على أنَّ تاريخ أميركا مليء بالأعراف الاجتماعيّة التي تساوي السواد، والسمات الجسديّة المرتبطة به، بشارة الدونيّة. إذ يُحاكم العاملون في القطاعات المختلفة على شكل الشَعر ولون البشرة، فيتعرّضون للتمييز أو للطرد من العمل، خصوصًا وأنَّ لربّ العمل حرّيّة فرض قوانينه الخاصّة في بيئة عمله.
ثقافة أحاديّة مهيمنة
وفي هذا السياق، تعرّضت النساء السوداوات في الماضي، لضعوط من أجل إخضاع أنفسهنَّ للمعايير التي تحدّدها ربّات العمل، وتمّ تعزيزها في الغالب من خلال سياسات الهيمنة، والمقارنة بالنساء الأوروبّيّات حيث تعتبر الأخيرات مثال الجمال المثاليّ والطوباويّ. وكانَ على النساء أن يفردنَ شعورهنَّ، أو أن يغطّينه بقطعة قماش. ولا تزال هذه العادة مستمرّة في القارّة الأفريقيّة، حيثُ يعيّب على الفتاة الخروج بشعرها “المنكوش”.
كانَ على النساء أن يفردنَ شعورهنَّ، أو أن يغطّينه بقطعة قماش. ولا تزال هذه العادة مستمرّة في القارّة الأفريقيّة، حيثُ يعيّب على الفتاة الخروج بشعرها “المنكوش”
وتقوم الأمّهات والجدّات بتوريث سياسة فرد الشعر، واستخدام المواد التجميليّة، لإخضاع الفتيات للثقافة الأحاديّة المهيمنة. ويتمّ تعليم النساء السود، أنَّ شعرهنَّ الطبيعيّ، المحمّل بالتاريخ المتخيّل، عار ولا يصل للمعايير الجماليّة المطلوبة، فتستخدم الأمّهات الأمشاط الساخنة لبناتهنَّ عند الخروج إلى المدرسة وعند قضاء العطلات. والجدير ذكره، أنَّ الوسائل الإعلاميّة لعبت أيضًا دورًا كبيرًا في تكريس نظام فرد الشعر وشرعت إلى تكثيف المنتجات النسائيّة المرتبطة بالشعر الأملس.
وعودة إلى العصور السابقة، حاربت المركزيّة الأوروبّيّة Eurocentrism، شعر “العبيد” وشبّهته بصوف الماشية، أو بالصوفيّ، واعتبرته غير حقيقيّ، نظرًا للتصوّر الانعزاليّ الذي كان في جوهره مناهضًا لكلّ الاختلافات، خارج القارّة الأوروبّيّة. وارتبطت عبارات: مجعدّ، خشن، شعر أفريقي، وصوفي، بالعنف الاستعماريّ الذي دعا العالم للتمثّل بالثقافة الأوروبّيّة المتفوّقة. فظهرَ عنف اللغة متماهيًا مع السلطة السائدة وغابت الحياديّة اللغويّة في وصف الشعر.
الشيطان يكمن في شعورهنَّ؟
في العصور المسيحيّة المُبكرة، دلَّ الشعر الطويل على الإغراء، والإهاجة، والإثارةِ لدى النساء، واقترنَ بالخطيئة الأصليّة، وطُلب من النساء المهذّبات والمحترمات أنْ يغطّينَ شعورهنَّ. ولا تزال هذه الممارسات ممتدّة في المجتمعات اليهوديّة الأرثوذكسيّة. فالنساء المنتميات للطائفة الأرثوذكسيّة المتشدّدة، يُجبَرنَ على تغطية شعورهنَّ بعد الزواج، لإظهار مدى التزامهنَّ تجاه أزواجهنَّ وللوصول إلى أعلى درجات الاحتشام الجنسيّ مقارنة بالنساء العازبات. وباركَ كتاب الزّوهّار (يعود لتراث الكابالاه، والتي تعني الشروحات الصوفيّة للعهد القديم)، النساء اللواتي يغطّينَ شعورهنَّ، وأشارَ إلى أنَّ النساء في التزامهنَّ سيربحنَ كثيرًا من البركات الربّانيّة لأطفالهنَّ وأزواجهنَّ.
وسادت هذه العادة في عصر النهضة، تحديدًا في ألمانيا، حيثُ اُعتبر أنَّ النساء الشريفات هنَّ من يغطّينَ شعورهنَ أمّا الأخريات، البغايا مُنعنَ من تغطية شعورهنَّ للاستدلال عليهن ولمنعهنَّ من إخفاء عارهنَّ. وهكذا أُحكم السيطرة على الحياة الجنسيّة النسائيّة، وأصبحت النساء ملكيّة لأزواجهنَّ وللمعتقدات التي فُرضت عليهنَّ داخل المجتمع.
كما اعتقد القدّيس بطرس وغيره من القدّيسين، أنَّ النساء اللواتي يغرينَ الرجال بشعورهنَّ الطويلة، مصيرهنَّ الجحيم كونهنَّ رمزًا “للرغبة الجنسيّة غير المنضبطة”، واعتبر أنَّهنَّ مسؤولات عن تشجيع الرجال على ممارسة خطيئة الزّنا. وأجبرت الزانيات والبغايا على حلق شعورهنَّ، كما مورست الطريقة نفسها على النساء اللواتي أتّهمنَ بالسحر، بهدف نزع قوّتهنَّ الأهمّ وهي: حياتهنَّ الجنسيّة.
الكرنفال التطهيريّ
عندما قال المؤرّخ الأمريكيّ فورست بوج أنَّ “مظهرهم في أيدي جلّاديهم كان مظهر حيوان مطارد”، كانَ يقصد بالتحديد النساء الفرنسيّات اللائيّ اتّهمنَّ بإقامة علاقات حميميّة مع القوّات الألمانيّة في الحرب العالميّة الثانية عقب الاحتلال النازيّ لفرنسا. فقامَت وقتها، العصابات الأهليّة، بمعاقبة النساء والحكم عليهنَّ وحلق شعورهنَّ وعرضهنَّ في الساحات العامّة الفرنسيّة، ذلك لإذلالهنَّ وتعذيبهنَّ.
كان يقصد النساء الفرنسيّات اللائيّ اتّهمنَّ بإقامة علاقات حميميّة مع القوّات الألمانيّة في الحرب العالميّة الثانية، قامَت وقتها، العصابات الأهليّة، بمعاقبة النساء والحكم عليهنَّ وحلق شعورهنَّ وعرضهنَّ في الساحات العامّة الفرنسيّة
وتذكر الوثائق التي تعود إلى القرن العشرين، أنَّ هذه الممارسات التي كانت تُقام أمامَ حشود غفيرة وسط تشجيع كبير وكرنفال يحتفي بالقصّ، استخدمت أيضًا في بريطانيا للهدف ذاته، أيّ، لمعاقبة النساء اللواتي يُشتبه بأنهنَّ متعاونات مع الأعداء. وتعود هذه الممارسات إلى العصور الوسطى، واُستخدمنَ لنزع الكرامة الإنسانيّة واعتبار النساء في مرتبة أدنى من الرجال، وأعيدتْ لتمارس في القرن العشرين على النساء اللواتي أقمن علاقات طوعيّة أو قسريّة مع الأعداء، وجميعها تمّ تضمينها كجزء من “التطهير” بعد التحرير.
الشَعر رمزًا سياسيًا
تخطّتْ دلالات تغطية الشَعر المسألة الأخلاقيّة، ليصبحَ رمزًا سياسيًّا، وهذا ما تأكّده الباحثة المغربيّة فاطمة المرنيسي إذ تقول: “إنَّ الحجاب فرض سياسيّ وليسَ أخلاقيًّا”. وتبنّت دولٌ عديدة فكرة الهندسة الجنسيّة والاجتماعيّة لأجساد النساء، خصوصًا الدول الثيوقراطيّة كإيران والسعوديّة سابقًا. وحذت حركات الإسلام السياسي في المنطقة العربية حديثًا -والتي يتواجد فيها مدّ شيعيّ- حذو الدولة الثيوقراطيّة الإيرانيّة، ففُرضَ الحجاب على النساء، وانتشرت ظاهرة ارتداء “الشادور” في الأوساط الشيعيّة كما الحال في لبنان والعراق.
واستخدمت الجمهوريّة الإيرانيّة هذا البُعد السياسيّ بهدف قمع النساء واضطهادهنَّ، وقتلهنَّ كما حصل في العام 2022، حينَ قامت “شرطة الأخلاق” بقتل مهسّا أميني بحجّة عدم امتثالها للقانون الذي يقضي بتغطية شعر الرأس كما يجب، وعلى إثره تحوّلت المدن الإيرانيّة إلى مسرح للاعتصامات والاحتجاجات قادتها النساء فقمن بقصّ شعورهنَّ؛ تعبيرًا عن الغضب والاحتجاج وحرق الحجاب، وتعتبر هذه الممارسة قديمة، ويمكن العثور عليها في الأدبيّات الفارسيّة والكتب القديمة.
أكثر من أيّ جزء آخر من الجسد، فإنَّ تاريخ شَعر النساء معقدٌ ومتضارب في بنيته وفي خصوصيّة طرح الإشكالات حوله. فمن خلال هذا التاريخ، يمكن فهم بعض أدوات السيطرة على شَعر النساء، والأساطير المنسوجة حوله، بصورتها الرومانسيّة، أو ببُعدها البطريركيّ.